بعد خطاب العرش، الذي فرض الحراك المجتمعي أن يخصص بالكامل للوضع المغربي الداخلي، جاء خطاب ثورة الملك والشعب، من أجل أن يستكمل جانبا مشرقا للمملكة، ممثلا في الطفرة التي سجلها في السنة المنقضية، على مستوى السياسة الخارجية للمغرب. فكما كان خطاب العرش تعبيرا لتفاعل ملك البلاد مع المتغيرات الداخلية، والتقاط جلالته لما يشعر به شعبه، فجاء حاملا للعديد من الإشارات الدالة على هذا التفاعل المباشر والعفوي، كانت كذلك مناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، مناسبة لتقاسم النصر الذي حققته المملكة خارجيا، وبالخصوص داخل القارة الإفريقية. وفي هذا السياق، خلد الخطاب الملكي الحامل للرمزية التي توحد الداخل المغربي، بين ملك وشعبه، لتناول جانبها الممتد خارج المملكة، باعتبارها محطة مشرقة في تاريخ المغرب تجاوز إشعاعها وتأثيرها حدود الوطن، ليصل إلى أعماق إفريقيا. لقد جاء الخطاب الملكي ليسلط الضوء على الوعي والإيمان بوحدة المصير، بين المغرب وقارته، بداية من الكفاح المشترك، من أجل الحرية والاستقلال، ثم بعد ذلك، في بناء الدول الإفريقية المستقلة على أساس احترام سيادة بلدانها، ووحدتها الوطنية والترابية. وكما كان هذا الوعي المشترك في الماضي، فإنه في عهد جلالته يتواصل هذا العمل التضامني، من أجل تحقيق التنمية والتقدم المشترك، الذي تتطلع إليه كافة الشعوب الإفريقية، حيث ذكر جلالته بعدة محطات كشفت أن هذا التوجه لم يكن غريبا أن يتخذه المغرب، باعتباره مواقف ثابتة، ومبادرات ملموسة لصالح إفريقيا. واليوم والمغرب يتوجه نحو إفريقيا، لم يكن بذلك يتخذ قرارا عفويا، أو قرارا تفرضه حسابات ظرفية عابرة، بل هو وفاء لهذا التاريخ المشترك، وإيمان صادق بوحدة المصير، كما أنه ثمرة تفكير عميق وواقعي تحكمه رؤية استراتيجية اندماجية بعيدة المدى، وفق مقاربة تدريجية تقوم على التوافق. ولهذه الغاية الواقعية والعميقة التفكير، اتخذ المغرب سياسته القارية التي فاجأت أعداء المملكة، لتكشف عن وعي حقيقي ومعرفة دقيقة بالواقع الإفريقي، أكدتها أكثر من خمسين زيارة قام بها جلالة الملك لأزيد من تسعة وعشرين دولة، منها أربعة عشر دولة، منذ أكتوبر الماضي. كما بينت هذه الاستراتيجية الرائدة صحتها باعتبارها تقوم على المصالح المشتركة، من خلال شراكات تضامنية رابح-رابح، وخير مثال على هذا التوجه الملموس، المشاريع التنموية الكبرى التي أطلقها جلالة الملك، كأنبوب الغاز الأطلسي نيجيريا-المغرب، وبناء مركبات لإنتاج الأسمدة بكل من إثيوبيا ونيجيريا، وكذا إنجاز برامج التنمية البشرية لتحسين ظروف عيش المواطن الإفريقي، كالمرافق الصحية ومؤسسات التكوين المهني وقرى الصيادين. كما تكللت هذه السياسة بتعزيز شراكات المغرب الاقتصادية، ورجوع المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، والموافقة المبدئية على انضمامه للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، حيث اعتبر جلالة الملك أن رجوع المغرب إلى المؤسسة القارية يشكل منعطفا دبلوماسيا هاما في السياسة الخارجية لبلادنا. ولم يكن لهذا النجاح أن يتم لولا مصداقية توجه المغرب وقيامه على الشراكة التي تهدف خدمة المواطن الإفريقي، رغم العراقيل التي حاول البعض وضعها في طريق المغرب، حيث اعتبر جلالة الملك أن هذا يعد بمثابة شهادة من أشقائنا الأفارقة على مصداقية المغرب ومكانته المتميزة لديهم. ولعل أولى ثمرات هذا التوجه الإفريقي للمملكة، هو العودة المظفرة للمغرب لحضنه الإفريقي، وهي نتيحة لم يكن بالإمكان توقع حدوثها قبل سنوات قليلة، حين كان خصوم المملكة، متحكمين في رقاب العديد من الول الإفريقية، لهذا توجه جلالة الملك بالشكر، وبمناسبة هذا الحدث التاريخي، لكل دول القارة التي وقفت إلى جانب المغرب، وحتى تلك التي لم تساند طلبه، معبرا عن ثقته في أنها ستغير موقفها عندما تعرف صدق توجهاتنا. وحتى يوضح جلالة الملك أن هذا الرجوع وإن كان هاما وحاسما، إلا أنه ليس غاية في حد ذاته، معتبرا أن إفريقيا كانت وستظل في مقدمة أسبقيات المغرب، وأن ما يهمنا هو تقدمها وخدمة المواطن الإفريقي، لأن إفريقيا هي المستقبل، والمستقبل يبدأ من اليوم، قبل أن يعيد جلالته التأكيد على هذه الحقيقة قائلا:«ومن يعتقد أننا قمنا بكل ذلك، فقط من أجل العودة إلى الاتحاد الإفريقي، فهو لا يعرفني». وحتى يكشف جلالة الملك كل جوانب هذه الاستراتيجية الإفريقية، عرج جلالته على التذكير بإننا بصدد بناء إفريقيا واثقة من نفسها، متضامنة ومجتمعة حول مشاريع ملموسة، ومنفتحة على محيطها، وهذا ما دفع المملكة لإضفاء طابع رسمي، على رغبتها في الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية، لدول غرب إفريقيا، باعتبار أن هذه المنظمة هي امتداد طبيعي للاتحاد الإفريقي، وانضمام المغرب إليهما سيساهم في تحقيق التقدم الاقتصادي، والنهوض بالتنمية البشرية بالقارة. واعتبر جلالة الملك هذا القرار السياسي بأنه تاريخي، ويشكل علامة بارزة، على درب تحقيق الاندماج الاقتصادي، الذي لا يمكن تصوره إلا كنتاج لكل التكتلات الإقليمية، خاصة في سياق أصبحت فيه التجمعات الجهوية، قوة وازنة في السياسة الدولية، معتبرا أن المملكة المغربية، ستعمل من موقعها داخل المجموعة، على إرساء دعائم اندماج حقيقي في خدمة إفريقيا، وتحقيق تطلعات شعوبها، إلى التنمية والعيش الكريم، في ظل الوحدة والأمن والاستقرار.