الحقيقة أنني لم أكن أتوقع إطلاقا أن يفاجئني المخرج المغربي أحمد بولان في تعليق له على خبر نشرته يوم الأحد الماضي في صفحتي بفيسبوك حول الدعوة التي وجهتها إليَ إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لتغطية فعاليات الدورة 38 من هذا المهرجان لفائدة "أحداث.أنفو" و"الأحداث المغربية"، بإشعاري بأنه سيكون هو الآخر حاضرا في العاصمة المصرية بصفته عضوا ضمن لجنة تحكيم الأفلام المتبارية على جوائز فئة "آفاق عربية". ولم أتأكد بأنه كان جادا في تعليقه إلا بعدما التقيت به في مطار محمد الخامس يوم السفر إلى القاهرة، رفقة زوجته المديرة الفنية الأمريكية السيدة دانا شوندلميير، قبل أن ألتقي بالصديق الإعلامي لحسن العسيبي الذي ما أن رأيته حتى ساورني إحساس كبير بالأسى، وتذكرت أننا كنا قبل سنة قد سافرنا أنا وهو والراحل مصطفى المسناوي لحضور مهرجان القاهرة ، وبعد يوم واحد من وصولنا، فجعنا بوفاة صديقنا داخل الفندق الذي كنا نقيم فيه، فعدنا أنا وهو على التو إلى الدارالبيضاء لتشييعه إلى مثواه الأخير، بعد سلسلة من الصدمات التي هزت فينا الدواخل والكيان. أحمد بولان والسينما المصرية كنت أظن أنني أعرف موقف أحمد بولان من السينما المصرية. فخلال نقاش كان قد جرى بيني وبينه يوما في السنة قبل الماضية بمدينة طنجة، بحضور الممثلة المغربية حنان زهدي، والممثل المغربي عبد الرحيم المنياري، عندما كنا مشاركين في لجنة تحكيم مهرجان للمسرح الجامعي هناك، حاولت أن أعرض وجهة نظري حول السينما المصرية، بالابتعاد قدر المستطاع عن الشوفينية غير المجدية، وبالحديث عنها باعتبارها علامة ثقافية بارزة بالنسبة إلى الجيل الذي أنتمي إليه، وبكونها ساهمت في منحنا فرجات استثنائية في مرحلة كنا نعاني فيها من فقر سينمائي في المغرب، وبأنها قربتنا حقيقة من شخصيات ووقائع وأحداث، وفق مقاربات سينمائية متعددة، واقعية ورومانسية وتاريخية وغيرها، تمكن ممثلون متميزون وممثلات جذابات من إبراز مؤهلاتهم التشخيصية فيها. أما هو، فقد كان يرى شيئا آخر غير ذلك، ويدرج ضمن النقاش أمورا كنت أعتبرها ذاتية، ومرتبطة بالنزعة الصدامية التي تهيمن على بعض سينمائيينا المغاربة، الذين بدأ الوهم يوحي إليهم بأنهم هم الذين أصبحوا يقودون السينما العربية والإفريقية… لم أرغب أن أذكّره بهذا النقاش.. لكنه فطن إلى أن الأمر يحتاج إلى توضيح.. فأخبرني بأنه رحب بالدعوة التي وُجهت إليه من أجل الحضور إلى مهرجان القاهرة، لأنه اعتبر الأمر إيجابيا، وفيه فائدة، قبل أن يخبرني بأن هناك دعوة أخرى تلقاها للمشاركة في عضوية تحكيم في مهرجان بإيران، التي كان فيلمه الأخير "جزيرة المعدنوس" قد فاز فيها بجائزة.. على أي.. ها هو أحمد بولان معنا هنا في القاهرة.. وهو من بين الذين سيعطون رأيهم في الأفلام المتبارية ضمن فئة "آفاق عربية"، التي من بينها أفلام مصرية.. استقبال على غير العادة عندما وصلنا إلى مطار القاهرة في حوالي الساعة التاسعة ونصف مساء بتوقيت مصر الذي يزيد بساعتين عن التوقيت المغربي، كنت أتوقع أنا ولحسن العسيبي أن تطول كثيرا مدة خضوعنا لإجراءات الدخول، مثلما كان عليه الحال في الرحلات السابقة. فقد كنا سابقا نشعر بحيف شديد لحظة وصولنا إلى المطار، ونحن نرى أن كل الجنسيات التي تمر معنا من أمام رجل الأمن المكلف بطبع الجوازات، يتم السماح لها بالدخول، إلا نحن المغاربة، الذين لا تشفع لنا تأشيراتنا التي نكون قد حصلنا عليها من السفارة المصرية في الرباط بالمرور، ويتم إخضاعنا لإجراءات إضافية، تنتقل خلالها جوازاتنا من مكتب إلى مكتب، لمدة طويلة، قبل أن يتم السماح لنا بالدخول.. لكن هذه المرة كان الأمر مغايرا بالمرة… عندما وصلنا إلى باحة المطار وجدنا رجلين يرتديان بذلتين سوداوين أنيقتين بربطتي عنق، من اللجنة المكلفة باستقبال الضيوف.. الأول اسمه أحمد، والثاني اسمه أيمن.. وكنا نحن خمسة.. أنا ولحسن العسيبي، وصحافية من كيبيك بكندا، اسمها أوديل، تشتغل في موقع إلكتروني شهير متخصص في السينما اسمه "لودوفوار"، تأتي كثيرا لتغطية مهرجان مراكش الدولي للفيلم، وكانت قد رافقتنا في الطائرة من الدارالبيضاء، بالإضافة إلى أحمد بولان وزوجته دانا.. توجه بنا أحمد عبر الممر نحو رجل الأمن المكلف بطبع الجوازات، وأخبره بأننا ضيوف المهرجان، فتمت إجراءات الدخول في بضع ثوان.. تعجبت كثيرا.. قلت لأحمد :"هذه أول مرة في التاريخ ندخل فيها إلى القاهرة بهذه السرعة". أجابني ضاحكا: "لأن معكم واحد إسمو أحمد".. قلت له :"أنت أحمد، وأنا أحمد، وهذا الرجل صاحب القبعة الأمريكية الذي يبدو عليه أنه مخرج مغربي هو أيضا اسمه أحمد".. ضحك.. طلب من بولان وزوجته أن يرافقاه.. وطلب منا نحن الثلاثة أن نرافق أيمن الذي توجه معنا إلى باحة المطار الموجودة وراء ممر مراقبة الجوازات، وهناك وجدنا صحافية إنجليزية تنتظرنا. اسمها تارا. تشتغل في إذاعة بمدينة لندن، وقدمت في طائرة قبلنا.. طلب منا أيمن أن نتبعه، فسايرناه في خطواته السريعة خارج المطار.. هناك التقى بمسؤول آخر ضمن طاقم الاستقبال، مكلف بالنقل، دله على الحافلة الصغيرة التي ستوصلنا. أوصلنا أيمن إلى الحافلة، وعاد إلى المطار ليواصل عمله. ركبنا.. امرأتان غربيتان ورجلان مغربيان، رفقة سائق مصري شاب. والوجهة فندق ماريوت في حي الزمالك، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بعد قطع مسافة 23 كيلومتر في مدة لا تقل عن 40 دقيقة، عبر طريق النصر أولا، ثم كوبري 6 أكتوبر، قبل المرور فوق نهر النيل، والانعطاف يسارا نحو شارع الجزيرة، ثم القيام بلفة في المنحى المعاكس على شارع الخليج المرتبط في نهايته بشارع محمد عبد الوهاب الذي تنفتح عليه إحدى الأبواب الرئيسية للفندق. جلسة رفقة رئيسة المهرجان تصادف وصولنا إلى الفندق مع وجود الوفد القادم من باريس، والذي يتكون من أعضاء لجنة تحكيم المسابقة الدولية، ومن مدعوين يقيمون في فرنسا، من بينهم المخرج المغربي أحمد المعنوني.. المسؤول عن استقبال الضيوف في الفندق، وتوفير الإقامة، هو أشرف. الرجل الخمسيني المتخصص في العلاقات العامة، الذي يتكلم العديد من اللغات، من بينها الفرنسية التي يتحدث بها بطلاقة.. وبما أن عدد الضيوف الذين حلوا على الفندق في لحظة واحدة كان كثيرا، فقد اقترح علينا أشرف أن نتوجه جميعا في البداية لتناول طعام العشاء، قبل أن تنتهي خدمات المطعم، والعودة فيما بعد للقيام بإجراءات الحصول على بطاقات الغرف. مائدة العشاء جالستنا حولها الناقدة ماجدة واصف رئيسة المهرجان.. السيدة الأولى في الهيكلة التنظيمية الخاصة بالمهرجان.. بدأت في شغل هذه المهمة في الدورة الماضية.. تتقن اللغة الفرنسية جيدا.. حاصلة على دكتوراه في السينما من مدرسة الدراسات العليا في العلوم سنة 1983 في باريس. كانت مسؤولة عن صفحات السينما في مجلة المستقبل بباريس من 1978 إلى 1988، ومديرة لإدارة السينما بمعهد العالم العربي بباريس من 1988 إلى 2008، وقامت بتدريس السينما العربية في جامعة السوربون في باريس من 1985 إلى 1995، وكانت رئيسة لمهرجان الأقصر للسينما الأوروبية والعربية سنتي 2013 و2014.
مجالسة امرأة ذات ثقافة سينمائية عالية مثل ماجدة واصف، كانت تقتضي من الضيوف المتحلقين حول مائدة الطعام الإنصات إلى أحاديثها حول مجموعة من القضايا بتركيز وإمعان، من بينها قضية الرهانات الكبرى التي يسعى أن يكسبها القائمون على تنظيم المهرجان، في القادم من الأيام.