في بعض المواقف على الرجال أن يكونوا حاسمين، وصلاح الدين مزوار رئيس التجمع الوطني للأحرار واحد من هؤلاء الذين يتخذون الموقف الضروري في الحالة الاضطرارية، وحتى إن اختلفنا مع الرجل في تقديراته وخياراته السياسية، لا يمكن إلا نحيي فيه روح المسؤولية وأخلاق السياسة التي صارت عملة نادرة في زمننا هذا. قبل اقتراع سابع أكتوبر صرح الرجل بثقة بأن حزبه يرشح «السبوعة» لهذه الانتخابات، وبثقة أخرى قال إنه مستعد لرئاسة الحكومة، لكن صناديق الاقتراع كان لها رأي آخر، لم يتجاوز التجمعيون عتبة السبعة والثلاثين مقعدا، وفقدوا بذلك سبعة عشر مقعدا دفعة واحدة مقارنة باقتراع نونبر 2011. ماذا كان عليه أن يقول لزملائه في اجتماع المكتب التنفيدي الأحد الماضي؟ كان لديه أكثر من مبرر وتفسير، سيقول إن البنية السياسية الناخبة محافظة، وقد يفعل مثل آخرين ويسرد لائحة الخروقات والطعون الانتخابية، وقد يقول إن «التراكتور» حصد طموحاته وأحلامه، لكن قال ما هو منطقي وأخلاقي حين أعلن أنه يتحمل مسؤولية النتائج التي حققها الحزب، ولأنه لم يكن قائدا انتخابيا ناجحا، فالاستقالة فعل الكبار في مثل هذه الحالات والظروف. وعلى الأقل فإن مزوار بموقفه هذا، كان أفضل من إدريس لشكر الذي جعل الاتحاد الاشتراكي أكبر المساهمين في سوق الخسارة الانتخابية بناقص 19 مقعدا مقارنة بنونبر 2011، لكن لشكر الذي صرح قبل سابع أكتوبر، بأن حزبه سيحتل الرتبة الأولى وبفارق مريح، ولشكر الذي تحدى ابن كيران بأن ينازله في انتخابات سابقة لأوانها في 2015 وها هو يتلقى هزيمة مدوية في 2016، لم يستقل ولم يلتزم الصمت، اختار الصعود إلى الجبل ويبعث مذكرة إلي الديوان الملكي تشتكي من هذه الثنائية المصطنعة. ومزوار أفضل أيضا من حميد شباط في موقف الاستقالة هذا، قبل اقتراع رابع شتنبر الجماعي والجهوي، قال إنه إما أن يحتل الرتبة الأولى أو يستقيل من الحزب، لكنه خسر فاس ولم يربح الانتخابات ومع ذلك تمسك بمنصبه كأمين عام، الفوز بالأغلبية في مجلس المستشارين عبر الناخبين الكبار كان بالنسبة إليه استدراكا وتعويضا عن فشله أمام الناخبين الشعبيين، وحتى حين خسر انتخابات سابع أكتوبر، ها هو يرى أن تحكمه في تحالفات تشكيل الحكومة نصر آخر يعفيه من الاستقالة. وغير لشكر وشباط كثيرون في اليسار وفي اليمن وبين من لا طعم ولا لون ولا رائحة فيهم. استقالة مزوار تضع نقطة نهاية لمسار رجل طموح، منذ أن أزاح مصطفى المنصوري من رئاسة الحزب حاول أن يضع التجمعيين في قلب ما يراه معادلات سياسية جديدة يجب التقاط كراتها وتسديدها إلى الشبكة بعناية فائقة، وكما لو عاد إلى رياضته في كرة السلة كانت كراته تتقاذف هنا وهناك، بحثا عن نقطتين تارة وثلاث في حالات أكثر طموحا. وقبيل انتخابات 2011، ألقى بكل ثقله في تحالف مجموعة الثمانية إلى جانب الأصالة والمعاصرة والحركة الشعبية والحزب الاشتراكي والحزب العمالي والاتحاد الدستوري والنهضة والفضيلة واليسار الأخضر. كان خليطا فسفسائيا لا تقارب ولا تجانس فيه، لكن مزوار رآه على مقاسه وطوع طموحاته. حاورته يومها في ضيافة جمعية خريجي العلوم السياسية ببورصة الدارالبيضاء، وبدا لي من معنوياته وأجوبته أن خطوة واحدة تفصل بينه وين رئاسة الحكومة، لكن زوابع «الربيع العربي» في نسخته المغربية كانت لها حساباتها وتعقيداتها، انهارت مجموعة الثمانية وتوارى الأصالة والمعاصرة إلى الخلف، ولأول مرة منذ 1998 يجد التجمع نفسه في موقع المعارضة، الذي لم يخلق له ولم يعتد عليه. وشاءت الأقدار لمزوار، أن يصبح المنقذ لحكومة ابن كيران من الانهيار بعد انسحاب حزب الاستقلال، كان الجميع يعتقد أن قوس الإسلاميين سيغلق في المغرب مثما أغلق في مصر وتونس، لكن التجمع الوطني للأحرار ضمن لهذه التجربة المغربية أن تستمر، وكانت له بصماته الظاهرة في القطب الاقتصادي للحكومة، وفي منصب وزير الخارجية خرج بأداء متوسط من ظرفية دولية صعبة عاشها المغرب في علاقته بكبار حلفائه وبالأمم المتحدة. لكن مزوار كان ضحية تقدريرات خاطئة، خانته هذه المرة فراسته وذكاؤه في تسديد كرات السلة، في لحظة اعتقد أن الأصالة والمعاصرة سيكون عريس ما بعد السابع من أكتوبر، ولذلك وضع بيضه كله تحت عجلات «الجرار». في الانتخابات الجماعية والجهوية تمرد على التحالف الحكومي، ودعم مرشحي إلياس العماري في رئاسة الجهات وفي مجلس المستشارين، وفي الحكومة جعل نفسه معارضا وسط الأغلبية وسقط في مغازلات غير مشروعة مع معارضي حكومته، وحين جاء موعد الانتخابات كانت قاعدته الانتخابية قد غيرت وجهتها: بيت «البام» صار أكثر دفئا لكثير من التجمعيين ولكثير من الحركيين، بل إن الحزب الذي كان يغطي جميع الدوائر الانتخابية تراجع بفعل رحلة الأعيان هذه، ليحتل ترتيبا متأخرا خلف التقدم والاشتراكية وفيدرالية اليسار. لقد كان مزوار ضحية إلياس العماري ما من شك في ذلك، لكنه كان أيضا ضحية عبد الإله بن كيران، الذي وظف كل انجازات الحكومة لصالح حزبه على حساب حلفائه، وكما امتص إلياس العماري قواعد الحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار، قرصن ابن كيران أداء وزراء التجمع والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، إنها الحالة الأسوأ بالضبط تلك التي عاشها مزوار: خسارة مع الحليف الحزبي وخسارة أخرى مع الشريك الحكومي. ولأجل كل ذلك وبناء عليه، نقبل استقالتك السيد مزوار، مع عالي التقدير والاحترام لهذا السلوك السياسي النبيل.