مثلما أن لعبد الإله بن كيران رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية تماسيحه وعفاريته التي تشوش حسب اعتقاده على الأداء الحكومي، فإن لغريمه السياسي وخصمه اللذوذ إلياس العماري حزبه السري الذي يتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية بطريقة، يقول عنها إلياس، إنها أفظع مما كان يحدث في سنوات الرصاص. وقد يستغرب كثيرون ممن لم يتخلصوا بعد من أطروحة أن «البام حزب الدولة» أن إلياس العماري هو الذي يتحدث عن «الحزب السري»، وأن «البام» الذي يتهمه خصومه بالتدخل في الشأن الداخلي للأحزاب السياسية هو من يتهم الحزب السري بهذا التدخل في شؤون حزبه، وفي نهاية المطاف سيعتبرون أن قائد التراكتور في الحقل الحزبي المغربي المليء بالألغام، لا يمارس سوى لعبة البوليميك التي يتقنها حد الإبداع كل أولئك الذين تلقوا تكوينهم السياسي والنضالي في صفوف اليسار الماركسي. لكن النخبة السياسية في المغرب عودتنا على مدى تاريخ نشأتها الغني بالانتصارات والانكسارات بأنها تدربت كثيرا على ممارسة السياسة عبر لغة الإشارات والرموز، وما لا تستطيع أو لا تريد قوله صراحة، تبعث بمضامينه عبر رسائل مشفرة، قد تجد في الحيوانات لغتها التعبيرية المفضلة، وقد تجدها حتى في أدوات المطبخ مثلما قال يوما بنسعيد أيت إيدر يوما عما كان يوصف سنوات الثمانيات والتسعينات بالإحزاب الإدارية بأنها «أحزاب الكوكوت مينوت». ومنذ مدة وأنا أستمع لإلياس العماري يصعد من لهجته تجاه هذا الذي يسميه ب«الحزب السري»، ومن دون شك فإن إلياس العماري يعشق لعبة الغموض، ولذلك فهو لا يميل صراحة إلى التدقيق فيما يقصده بهذا «المفهوم» ويترك لمن يعنيهم الأمر أن يلتقطوا الرسالة بين ثنايا الإشارات المتناثرة هنا وهناك، فما يهمه في نهاية المطاف هو ألا تخطئ الرسالة عنوانها، وأن تصل إلى من يهمهم الأمر، وفي هذه النقطة بالذات المسماة «من يهمهم الأمر» وقف حمار الشيخ في العقبة مثلما قالت العرب ذات يوم. في ظاهر الخطاب، يعطي إلياس العماري الانطباع بأن المقصود بخطابه هو رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، خصوصا وأن ابن كيران، عبر غير ما مرة عن رغبته في توجيه أصوات الناخبين في المؤتمر الوطني الأخير لحزب الأصالة والمعاصرة، تارة بتسريب أنه يفضل رؤية أحمد اخشيشن على رأس «البام» حتى يطوي الحزبان صفحة الصدام بينهما ولم لا ينتقلان إلى مرحلة التنسيق الجماعي والجهوي الذي يعقبه تحالف حكومي، وتارة أخرى بتخويف الكتلة الناخبة للباميين عبر تسريبه أن انتخاب إلياس أمينا عاما سيعفيه من خوض الحملة الانتخابية، بل وسيزيد من رصيده في الأصوات ومقاعد مجلس النواب. لكن ابن كيران ليس حزبا سريا، وهو لا يرأس هيئات تبدو كالأشباح، ابن كيران هو حزب العدالة والتنمية، وهو أيضا حركة التوحيد والإصلاح، وهو أيضا رئيس الحكومة وزعيم الائتلاف الحكومي، وفوق هذا وذاك، فإن ابن كيران لا يخفي عداءه لحزب الأصالة والمعاصرة عموما ولأمينه العام على وجه الخصوص، ومنذ أيام قليلة فقط عاد ليجدد مطلبه بدعوة الباميين إلى حل حزبهم، وإن شئنا سرد قاموس العداء الصريح والعلني الذي يكنه رئيس الحكومة لأكبر معارضيه وخصومه، فلن ننتهي من ذلك في هذا المقام. وشخصيا لا أفهم «الحزب السري» في الخطاب السياسي لإلياس العماري إلا كتعبير عن خطة استباقية تريد تحريرا مطلقا للمنافسة الانتخابية في تشريعيات أكتوبر المقبل، وهو حزب يتجاوز ابن كيران إلى جهات يعرفها إلياس العماري حق المعرفة، ولا يريد الكشف عنها مثلما لا يريد ابن كيران الكشف عن كل تماسيحه وعفاريته، وإن شئنا البحث عن عنوان لهذه الجهة أو هذا الحزب السري فما علينا سوى الاهتمام بمعلومة يحرص إلياس، لغاية لا تترك مجالا للعفوية أو التصادفات، على ترديدها وتكرارها في كل لقاءاته قبل أن يصبح أمينا عاما وبعده. في هذ التفصيلة التي لا تخلو من دلالة، يقول إلياس العماري إن حزب الأصالة والمعاصرة طلب منه خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2011 أن «يقوم بحملة انتخابية على خفيف»، وأن لا يقدم من المرشحين ما يسمح له بتجاوز عتبة الخمسين مقعدا في مجلس النواب، ولذلك لم يقم الحزب بتغطية جميع الدوائر الانتخابية التي إما ترك بعضها فارغا أو تنازل عنها لصالح حلفائه في G8 ، ورغم ذلك فإن الفارق في نهاية النتيجة الانتخابية بينه وبين حزب العدالة والتنمية، الذي احتل الرتبة الأولى لم يتجاوز 200 ألف صوت، وقد كان بإمكان الحزب أن يتجاوز عدد المقاعد التي حصل عليها إخوان عبد الإله بن كيران ويحتل الرتبة الأولى بما يفوق 107 من المقاعد، لكنه استجاب للطلب الذي قدم له واختار أن يحتل الرتبة الرابعة بدل أن يتصدر الترتيب. في هذه التفصيلات تلميح صريح إلى أن احتلال حزب العدالة والتنمية للرتبة الأولى، كان مرتبا له من طرف الجهات التي لم يسميها، والتي ربما اختار أن يسميها لاحقا ب«الحزب السري»، وربما قد يكون هذا هو الحزب الذي يريد إلياس العماري أن يقلب عليه الطاولة في انتخابات سابع أكتوبر المقبل ويتنافس على احتلال الرتبة الأولى، وكي تكتمل لدينا ملامح الصورة ، يكفي أن نستحضر أن هناك الآن وجهتي نظر في تدبير ثاني انتخابات تشريعية تجري بعد خفوت حركة عشرين فبراير: الأولى ترى أنه حان الأوان لإغلاق قوس «الربيع العربي» في نسخته المغربية وتكرار السيناريو التونسي، حيث أسقط حزب «نداء تونس» حزب النهضة الإسلامي من الحكم، بينما تدافع وجهة نظر الثانية عن استمرار روح المعادلة الانتخابية التي تشكلت في نونبر 2011 وترك الإسلاميين يواصلون العمل الحكومي بدل إزاحتهم منه. وحسب ما يظهر من خطاب إلياس العماري واستعدادات حزبه الانتخابية فإنه يميل إلى وجهة نظر الأولى، ولذلك فهو يوجه ضربات استباقية على بعد أشهر من الموعد الانتخابي لدعاة وجهة نظر الثانية الذين ربما يسميهم بالحزب السري، أما بالنسبة لي شخصيا، فقد اكتشفت هذه اللحظة وأنا أتحدث بلغة «وجهة نظر» أولى و«وجهة نظر» ثانية، أني سقطت بدوري في لعبة ممارسة السياسية بلغة الإشارات والرموز، ومن الأفضل لي أن أتوقف عند هذا الحد.