ظهرت، في الآونة، عدة مؤشرات تؤكد رغبة المغرب في تطبيع علاقاته مع الجزائر والتقرب أكثر من هذا الجار؛ بالرغم من الخلافات الجوهرية بين البلدين والعداء المستشري بسبب ملف الصحراء. هذا العداء وصل مداه عندما رفضت الجزائر فتح حدودها مع المغرب وأخذ أشكالا متعددة، إن على مستوى "الاشتباك الدبلوماسي" ودخول الطرفين في حرب استنزاف في عدة مناطق في العالم سواء إفريقيا وأوربا وأمريكا اللاتينية. كما وصلت هذه "العلاقة العدائية" إلى مستويات غير مسبوقة من التوجس وانعدام الثقة من خلال استعداد كل طرف لإمكانية الدخول في مواجهات مباشرة، من خلال ارتفاع نفقات العسكرة والتسلح في كلا البلدين. وفي ظل هذا الوضع المتسم بالتوتر وتبادل الاتهامات بين الطرفين، وقع تحول مفاجئ على مستوى السياسة المغربية تجاه الجار، حيث ظهرت بشكل جلي رغبة المملكة في مد يدها إلى الجزائر من أجل بناء جسور الثقة وتقوية العلاقة الثنائية بين الطرفين وتجاوز وضعية الاحتقان الحالية. وأولى بوادر هذا التحول تمثلت، بالأساس، في الرسالة التي وجهها العاهل المغربي خلال الشهر الماضي إلى بوتفليقة والتي حملها كل من ناصر بوريطة، الوزير المنتدب في الخارجية، وياسين المنصوري، المدير العام للمديرية العامة للدراسات والمستندات؛ وذلك في سياق عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي. وقد غدّى هذا التحول المغربي أكثر وضوحا على مستوى الخطابات الملكية؛ فبعدما كانت تتسم سابقا بنوع من الحدة والصرامة والوضوح ضد الجزائر؛ فإن الخطابين الأخيرين، سواء بمناسبة عيد العرش أو ذكرى ثورة الملك والشعب، قد خلا من تلك اللهجة أو النبرة المنتقدة التي تم استبدالها بلهجة أكثر هدوءا وودية، حيث خصص الخطاب الملكي الأخير حيزا مهما لعلاقة المغرب بالجزائر والإشارة إلى الروابط التاريخية والنضالية التي تجمع البلدين. كما عبر الملك ضمن هذا الخطاب عن رغبة المغرب في بناء تضامن صادق مع الجارة الشرقية وإعادة العلاقات وتطبيعها بشكل يحفظ مصالح الشعبين. هذا التحول المغربي في الموقف تجاه الجزائر يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة أن أسباب العداء والتوتر ما زالت قائمة، وهي ترتبط أساسا بالسياسات العدائية التي ينهجها العسكر الجزائري ضد الوحدة الترابية للمغرب، من خلال دعم الحركة الانفصالية جبهة "البوليساريو" واحتضانها. ولفهم التوجهات السياسية الجديدة للمغرب في المنطقة المغاربية ككل، لا بد من استحضار بعض التحديات والعوامل والخلفيات المرتبطة بالسياقات الدولية والإقليمية التي أضحت تندر بحدوث تغيرات جذرية على مستوى الرقعة العربية، والتي من شأنها أن تعصف بوحدة الشعوب وتعيد رسم خريطة المنطقة المغاربية؛ على غرار ما وقع ويقع بمنطقة الشرق الأوسط. الفرضية الرئيسية التي يتأسس عليها تحول أو تغير الموقف المغربي حيال الجارة الشرقية ترتبط بثلاثة تحديات أساسية وجوهرية. هذه التحديات دفعت بالمملكة إلى إعادة الحسابات ومراجعة السياسات وقراءة الأوضاع قراءة موضوعية واستشرافية لمواجهة المخاطر المحدقة بمصير شعوب المنطقة وتحقيق رهان المحافظة على وحدة الدول واستقرارها؛ وهو رهان لا يمكن تحقيقه إلا بتجاوز الخلاف بين الطرفين. التحديات الدولية وإعادة تشكيل التحالفات يشهد المنتظم الدولي عدة تحولات متسارعة بفعل تنامي النزاعات وظهور مجموعة من التحديات الأمنية والاقتصادية التي باتت تؤرق المنتظم الدولي، ابتداء بالوضع في كل من سوريا واليمن، ومرورا بظاهرة تمدد التيارات الجهادية بالرقعة العربية وما تشكله من خطر على استقرار دول تلك المناطق، وكذلك تهديد أمن أوربا والغرب عموما، ووصولا إلى الصراع حول النفوذ الذي تخوضه كل من روسيا والصين مع أوربا وأمريكا في عدة مناطق في العالم. صراع القوى العظمى حول مصادر الطاقة ومن أجل إيجاد أسواق جديدة يرتبط، في جوهره، بمشاريع وخلفيات تجزيئية (مشروع الشرق الأوسط الكبير). هذه المشاريع ترتكز على إستراتيجية تقسيم الدول وتجزئتها إلى دويلات صغيرة على أساسا طائفيا وعرقيا ودينيا، وافتعال النزاعات والصراعات داخل بعض القوى الإقليمية الصاعدة لإضعافها بغية إعادة تشكيل الخرائط والتحالفات وفق أجندة تخدم مصالحها التوسعية ونفوذها الدولي. إن محاصرة أوربا من لدن روسيا من أجل إمدادات الغاز الطبيعي، وصمت أو تواطؤ الغرب مع المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا في يوم 15 يوليوز 2016، و"التحالف الضمني" بين إيران وإسرائيل ومن ورائهما أمريكاوروسيا تجاه الملف السوري.. كلها عوامل تؤشر على بداية إعادة تشكيل تحالفات دولية جديدة تقوم على أنقاض الدول العربية أو بعض الدول التي تحاول الدفاع عن استقلاليتها تجاه السياسات والأطماع الغربية بالمنطقة مثل الحالية التركية. كل هذه العوامل جعلت المغرب يدرك جيدا أن خطر التقسيم ليس في معزل عنه ويستهدفه هو والجزائر، بعدما بات من الواضح أن الغرب يحاول تأجيج الصراع بين الجارين لإضعافهما وليسهل عليه التمدد في المنطقة المغاربية. ومن ثم، فمبادرة المغرب هي بمثابة محاولة استباقية لبناء تحالف جديد مع الجزائر في سياق الوضع الدولي المضطرب، بهدف تعزيز موقع الطرفين والتصدي لإستراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي تحاول أمريكا بواسطتها رسم خرائط جديدة وزعزعة استقرار بعض الدول والتحكم في مصير الشعوب. التحديات الإقليمية ورهان وحدة الدول تعيش المنطقة المغاربية، في الآونة الأخيرة، على إيقاع مجموعة من التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية؛ ومن أبرزها الإرهاب، والجريمة المنظمة، والاتجار في المخدرات والأسلحة، والهجرة غير الشرعية٬ وتمويل الإرهاب بكافة أشكاله، وكذا ظاهرة تبييض الأموال… هذه كلها تشكل أخطارا تهدد الأمن المغاربي ومحيطه المتوسطي. ويبقى السيناريو الأسوأ الذي يخشاه الكثيرون هو أن تسقط ليبيا في سيناريو الصومال في ظل استمرار العداء بين الفرقاء الليبيين المتحاربين؛ وهو ما قد يجعلها بمثابة ثقب أسود يهدد المنطقة المغاربية برمتها، وتحولها إلى ملاذ آمن ل"للحركات الجهادية"، ولاتخاذه كذلك معقلًا لها لتدريب الشباب المستقطب، وتمويل أنشطتها من خلال محاولة السيطرة على آبار النفط. وبالرغم من نجاح الفرقاء الليبيين في فرز حكومة وحدة وطنية خلال اتفاق الصخيرات بالمغرب، فإن هذه الحكومة واجهت مشكلات أمنية عويصة مثل محاربة "داعش" وباقي الجماعات المتطرفة، بالإضافة إلى مشكلة نزع السلاح ودمج الميليشيات المسلحة في الجيش. كما أن احتلال "داعش" لمدينة سرت واتخاذها معقلا يؤكد أن البعد الجغرافي لمعقل تنظيم "داعش" المتطرف بالعراقوسوريا لم يمنعه من استمالة ميليشيات متشددة في ليبيا، منتشرة في كل من سرت وبنغازي ومناطق أخرى. مشاكل داخلية كثيرة عاشتها وتعيشها ليبيا في الفترة الراهنة أضحت أكثر تعقيدا مع التدخلات الأجنبية، ابتداء بوجود القوات الفرنسية بالشرق، ومرورا بدعم تمرد اللواء خليفة خفتر من لدن مصر والإمارات العربية وبعض القوى الغربية مخافة استيلاء الإسلاميين على مقاليد الحكم هناك، ووصولا إلى التدخل الأمريكي البري الذي خلط الأوراق بليبيا. واستنادا إلى تجارب سابقة في العراقوسوريا وأفغانستان وما آلت إليه الأوضاع في تلك الدول، فإن "التدخل الأجنبي" يندر بقرب "أفغنة ليبيا" واستحالة استعادة وحدة أراضيها؛ وهو الأمر الذي يعدّ بمثابة تهديد حقيقي لأمن واستقرار شمال إفريقيا ككل. إن التهديد الأكثر خطورة الذي يجعل المنطقة المغاربية مرشحة بقوة لإعادة إنتاج وتكرار السيناريو الليبي هو وجود كبير من الجماعات المسلحة بالقرب وعلى تماس مع هذا الفضاء الجغرافي، وبالتحديد بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء. وأبرز هذه الجماعات المتشددة: "جماعة أنصار الدين"، وهم طوارق من أصول عربية. وهذه الحركة ذات توجه سلفي تدعو إلى تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في دولة مالي؛ وتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب العربي"، باعتباره تنظيما منبثقا عن تحالف الجماعات المسلحة في كل من ليبيا وتونس والمغرب مع الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية. وهذا التنظيم يعدّ الأكثر تسليحا وشراسة عن باقي المجموعات الأخرى، ويقسم شمال إفريقيا وغربها إلى مناطق عسكرية تمتد بين مالي والنيجر ونيجيريا وموريتانيا وتشاد؛ و"حركة التوحيد والجهاد" في غرب إفريقيا، وتدعو هذه الحركة إلى الجهاد في هذه المنطقة؛ و"كتيبة أنصار الشريعة"، معظم مقاتليها من أبناء قبائل البرابيش والعرب، وتهدف إلى تطبيق "شرع الله" في كل دولة مالي؛ و"كتيبة الموقعون بالدماء"، التي يتزعمها الجزائري خالد أبو العباس، مختار بالمختار، حيث شكلها حديثا بعد أن عُزل عن زعامة كتيبة الملثمين؛ و"حركة تحرير ازواد"، التي يرأسها بلال الشريف، وهي حركة سياسية عسكريه مؤلفة من الطوارق، تأسست عام 2011. إذن، فانتشار التيارات الإسلامية المتشددة بالمنطقة والوضع المعقد في ليبيا بالإضافة إلى السياسات والتدخلات الغربية الملتبسة والخفية بالمنطقة كلها أمور تجعل من التحالف المغربي-الجزائرية في المرحلة الراهنة تحالفا إستراتيجيا وضروريا لدفع المخاطر المحدقة بشعوب المنطقة والتدخل لحماية وحدة ليبيا وباقي دول المنطقة قبل فوات الأوان والتصدي كذلك المشروع الغربي التجزيئي الذي يتربص بالمنطقة. التحديات القارية ومحاولة الحفاظ على "العمق الإستراتيجي" يعدّ العمق الإفريقي بالنسبة إلى كل من المغرب والجزائر عمقا إستراتيجيا حيويا لكلا الطرفين، بحكم الانتماء الجغرافي وامتداد الأمن القومي والمصالح الاقتصادية التي تمثلها بعض الأسواق الإفريقية الواعدة. وبسبب النزاع حول الصحراء، خاض الجاران عدة حروب دبلوماسية كانت إفريقيا مسرحا لها طيلة ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن. ونتيجة التقاطبات والتجاذبات الحادة التي عرفتها هذه القارة بين البلدين، انقسمت إفريقيا إلى محورين رئيسيين: محور أول يتشكل من المغرب – السنيغال – الكوت ديفوار؛ ومحور ثان يضم كل من الجزائر – جنوب إفريقيا – نيجريا. صراع امتد بين الطرفين إلى أهم المنظمات القارية، بعدما انسحب المغرب سنة 1984، احتجاجا على قبول منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك عضوية ما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، لتظل عضوية المغرب "معلقة" في "الاتحاد الإفريقي" الذي جاء مكان منظمة "الوحدة الإفريقية". وفي ظل المتغيرات الدولية والقارية المتسارعة، قرر المغرب العودة إلى أسرته المؤسسية خلال القمة ال27 للاتحاد الإفريقي المنعقدة بالعاصمة الرواندية كيغالي من خلال الرسالة الملكية التي تضمنت طلب العودة. وخلال هذه القمة، وجه 28 بلدا عضوا في هذه المنظمة ملتمسا إلى الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، من أجل تعليق مشاركة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" الوهمية مستقبلا في أنشطة الاتحاد وجميع أجهزته بهدف تمكين المنظمة الإفريقية من الاضطلاع بدور بناء والإسهام إيجابا في جهود الأممالمتحدة من أجل حل نهائي للنزاع الإقليمي حول الصحراء. وقبل انعقاد القمة ال28 المقبلة، ما زالت المفاوضات جارية لإقناع بعض الدول، مثل مصر وتونس، لتوقيع ملتمس طرد البوليساريو. ومن ثم، فالصراع المحتدم بين المغرب والجزائر داخل هذه المنظمة الإفريقية يندر بحدوث انقسام حاد بين المعسكرين قد يؤدي دون شك إلى انقسام هذه المنظمة. وارتباطا بالتحديات الجيو-إستراتيجية والمخاطر الإقليمية والأمنية، فانقسام هذه المنظمة لم يعد في صالح الجارين، خاصة أن بعض القوى العظمى كالصين وروسياوأمريكا بالإضافة إلى فرنسا لها مخططات ومشاريع وأطماع وأهداف ذات خلفيات توسعية تتخذ من البوابة الاقتصادية والتجارية مدخلا لاستغلال ثروات القارة الإفريقية. ومن ثم، فاستمرار النزاع واتساع حدة التوتر بين الطرفين قد يؤديان دون شك إلى إضعاف الطرفين، وإعادة إنتاج البنية الثقافية السائدة بإفريقيا التي كرسها الاستعمار الغربي والتي تقوم على الحروب الأهلية والنزاعات عوض التحالف من أجل مواجهة التحديات الأمنية والتنموية. وختاما، تعدّ سياسة اليد الممدودة، التي أصبح ينهجها المغرب تجاه الجار الجزائري، بمثابة مؤشر قوي على نضج المقاربة المغربية المعتمدة نسبيا في قراءة الأحداث والتحولات المتسارعة التي باتت تشهدها الرقعة العربية. قراءة تتجاوز المصالح والحسابات الضيقة التي ترتبط بالحرب الباردة وبعض الشعارات العاطفية التي لا تخدم مصالح الشعوب. وفي هذا الإطار، يمكن استحضار التحالف الفرنسي-الألماني الذي بالرغم من الحروب التي خاضها الطرفان وما نتج عنها من مآس وضحايا يصعب عدها، وبالرغم من اختلاف اللغة والدين كذلك، فإن هذه العوامل لم تمنعهما من القطع مع الماضي والتفكير في المستقبل، حيث إن هذا التحالف القائم على المصلحة أسهم في إنشاء الاتحاد الأوربي، وتبوء الطرفين مكانة محورية داخل هذا الاتحاد وخارجه. أما بالنسبة إلى المغرب والجزائر، فإنهما لم يعرفا الحروب الدموية التي عاشتها كل من ألمانياوفرنسا، ولديهما من التاريخ والدين والمصير المشترك ما يفرض تحالفهما على جميع المستويات. لذلك، فالتحديات والمخاطر التي تحدق بشعوب المنطقة ووحدة الدول تستدعي تدخل كافة العقلاء والنخب السياسية الغيورة في البلد الجار؛ لدفع "العقل الحاكم بالجزائر" إلى القيام بمراجعات لسياساته وعقيدته التي تتأسس على نظرية مفادها أن قوة الجزائر تمر عبر إضعاف الجار المغربي، وهي نظرية خاطئة عطلت عجلة التنمية في البلدين وأدخلت شعوب المنطقة في مرحلة مجهولة. مقاربة ما زال الشعب الجزائري يعاني منها بعدما بات في أمسّ الحاجة إلى مقاربات تنموية جديدة ومستعجلة تضعه في صلب اهتمامها وتوظف موارده المالية من الغاز والبترول في تحسين ظروف عيشه عوض تبذيرها على "حلم الانفصال" الذي أثبت التاريخ والعقل والجغرافيا والمصالح والتجارب استحالة تحقيقه على أرض الواقع.
د.محمد الزهراوي * باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري