لمدة 18 سنة، ظل ابن مكناس الدكتور عبد الكبير بن العربي بن هاشم العلوي المدغري، الرجل القوي القابض على زمام مجريات الأمور داخل وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، مستندا على هامش الحرية والثقة التي رسمها له الراحل الحسن الثاني .. لما لا وهو الشاب الطموح الذي رأى النور سنة 1942، وتدرج في مساره الدراسي بتفوق ليدمج بين دراسة القانون والعلوم الإسلامية، مما جعله على اطلاع مباشر بطبيعة التباين والتنوع الفكري داخل عدد من المؤسسات، حيث حصل على شهادة البكالوريا من القرويين، ثم الإجازة في العلوم القانونية من كلية الحقوق بالرباط، ثم شهادة الدراسات العليا في العلوم الإنسانية من دار الحديث الحسنية، قبل حصوله على دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية حول موضوع " الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم". صاحب "الدينامية المزعجة" تعدد مناهل الرجل العلمية، جعلته على اطلاع واسع بطبيعة الحقل الديني بالمغرب، وكذا التباين بين الخلفيات الفكرية لمختلف التيارات والمشارب الفكرية المكونة له، وهو ما ساعده على صياغة تصورات لم يكن من السهل تطبيقها على أرض الواقع، لولا الثقة الملكية ودائرة العارفين بالقيمة الفكرية والتصور الإصلاحي الذي تبناه الرجل في محاولة لهدم الهوة بين عدد من التصورات التي تبناها إسلاميون على الساحة المغربية. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لوزير الأوقاف السابق من طرف تيارات محسوبة على التيار المحافظ وأخرى على التيار الحداثي، إلا أن انجازات الرجل كانت تحفظ له موضع قدم راسخ داخل الساحة الدينية، بسبب براعته في إدارة عدد من الملفات وهو ما جعل منتقديه يصفونه بالدكتاتور والمحابي لمقربيه بسبب تمسكه برؤيته للأشياء واختياره للأشخاص المناسبين لترجمة تصوراته على أرض الواقع، مما ساهم في تطوير وسائل التعامل مع التراث الإسلامي، ونشر الكثير من الأطروحات المنتصرة للثوابت الدينية للمملكة، كما ساهم في تطوير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مع تطوير حلة الدروس الحسنية التي أصبح لها طابع عالمي، دون أن يغفل أهمية الأدوار الحيوية التي تلعبها المجالس العلمية في ترجمة التصور المعتدل للشأن الديني … وقد خلقة دينامية الرجل "المزعجة" كما يتصورها البعض عددا من الحركات المعرقلة لعمله داخل الوزارة، إلا أنه تمكن بذكائه ومرونته من تجاوزها، ليواصل مسيرته الإصلاحية تحت التتبع المباشر للراحل الحسن الثاني، وفق شهادة العديد من الشخصيات المغربية والعربية التي عملت بجانبه في عدد من المشاريع الدينية. مبادرة الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية من النقاط التي يغفلها الكثيرون، هي أن الوزير السابق كان من الشخصيات التي حاولت تعبيد الطريق أمام الإسلاميين من أجل الاندماج في المجال السياسي، وهو ما جعله عرضة للكثير من الانتقادات إلا أن الرجل اعتبر أن هذه الخطوة هي السبيل للخروج من الإسلاميين من الهامش المظلم، والأنشطة السرية التي توفر بيئة آمنة لتنامي الفكر المتطرف بعيدا عن الرقابة، كما تزيد من الإحساس بالإقصاء الذي يقوي الإحساس بعدم الانتماء. بعد الاطلاع الواسع على خبايا الشأن الديني، كان المدغري حريصا على ابتكار مشروع رائد رأى فيه فرصة لاستقطاب الإسلاميين، وطريقا نحو تطبيعهم مع مفاهيم "مستهجنة" داخل التيار الديني المحافظ، كأدبيات الديمقراطية التي قد تخولهم إسماع صوتهم رغم الاختلاف، والعمل في إطار من الشفافية، والقبول بالرأي الآخر … وهذا ما كانت تهدف له فكرة "الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية" الذي كان الوزير السابق أبرز مهندسيها، والتي سمحت بفتح لقاءات في العلن بين التيار الإسلامي في المغرب وباقي التنظيمات العالمية الصاعدة خلال فترة الثمانينات، وذلك بمباركة من الراحل الحسن الثاني الذي أفسح لوزيره الطريق من أجل سماع صوت الإسلاميين، في خطوة تترجم انفتاح القصر على كل الأطياف .. وقد كاد هذا الانفتاح أن ينهي فصلا من القطيعة مع الشأن السياسي الذي اختارته بعض الجماعات، إلا أن تدخل أطراف أخرى حال دون تحقيق الأمر، وهي النتائج التي لم تحبط عزيمة الدكتور المدغري الذي ظل حريصا على الإمساك بخيوط التواصل مع مختلف مكونات الساحة الدينية، رغم محاولة البعض تبخيس هذه الخطوات في وقت لاحق. وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، ظل حاضرا في الكثير من المحطات الهامة في المملكة، وكان يوم البيعة أبرزها عندما تولى كتابة وثيقة البيعة رفقة المستشار الملكي عباس الجيراري، الذي كان أحد المصرين على ضرورة أداء البعية فورا قبل دفن جثمان الملك، لتجاوز أي فراغ في الحكم ولو لمدة قصيرة. التيار الوهابي الموازي شغل الدكتور المدغري العديد من المناصب، أهمها أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين، وأستاذ محاضر بكلية الآداب بفاس، وأستاذ بالمعهد المولوي بالرباط، كما كانت له عضوية بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وعضو أكاديمية آل البيت للفكر الإسلامي بالأردن، ويشغل حاليا منصب مدير عام "وكالة بيت مال القدس الشريف" التابعة للجنة القدس التي يترأسه الملك محمد السادس. من مؤلفاته "المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير"، " ظل الله"، ثم كتاب "الحكومة الملتحية" الذي كان بمثابة دراسة نقدية مستقبلية، كان الهدف منها وفق ما صرح به في إحدى حواراته، دراسة المزايا والمساوئ التي يمكن أن يجلبها قيام حكومة كهذه في المغرب، " إنني أفكر في ردود الفعل التي قد تكون للمجتمع المدني وفي الإمكانيات التي أمام حلم الإسلاميين المغاربة في التحقق". حاولت بعض الأصوات إشهار ورقة الوهابية لإبراز ضعف المدغري في التحكم التام بالحقل الديني، إلا أن الرجل كان يعتبر أن التغلغل الوهابي بالحقل الديني كان أكبر من تحاصره مدة تواجده على رأس وزارة الأوقاف، كما أنه لم يتردد في القول بوجود جهات قوية داعمة لهذا التيار مما أضعف موقف وزارة الأوقاف التي وجدت نفسها مكبلة وعاجزة عن اتخاذ قرارات جذرية تحد من تمدد التيار الوهابي الذي نجح بطريقة ما في تغذية عدد من الممارسات الدخيلة على البيئة المغربية.