الاعتداءات الإرهابية المتفرقة التي شهدتها دول أروبية هذه السنة كفرنسا وبلجيكا وألمانيا هي ارتدادات للفكر الداعشي الذي أصبح سائدا لدى العديد من الفئات الاجتماعية، لاسيما لدى بعض الشبان الذين وقعوا ضحية سلفيين جهاديين بثوا في عقولهم أفكارا مغلوطة ومتشددة عن تعاليم الدين. بعض هؤلاء الشبان كما تابعنا لاسيما في أحداث باريس وبروكسيل أصولهم مغربية، لكنهم فتحوا أعينهم على نور الحضارة الغربية ونشأوا في مدارسها وارتادوا مقاهيها ومطاعمها ورافقوا أبناءها من معتنقي الديانة المسيحية وتقاسموا معهم طفولتهم واشتركوا معهم ألعابهم واهتماماتهم. غير أن مرحلة مراهقتهم كانت صعبة جدا، وعاشوا خلال تشكل ونمو شخصياتهم ازدواجية خطيرة بين قهر الآباء والعائلة لدى تنشئتهم الاجتماعية والدينية وبين تحرر رفاقهم الأجانب. الثورة الصغيرة التي نشأت بداخلهم دفعتهم إلى الارتباط ببني جلدتهم أكثر ودفعتهم إلى تشكيل مجموعات هوت نحو الانحراف، وفي خضم هذا التيه التقطتهم أيادي التطرف لتلقنهم نسخة أخرى للدين الاسلامي تقوم مبادئها على الدم والعنف، بسبب افتقارهم للغة التي من شأنها أن تطلعهم على التعاليم الصحيحة وأيضا بسبب جنوح أغلبهم وتركهم للدراسة. من هذا المنطلق ركز الخطاب الأخير لجلالة الملك على فكرتين مركزيتين حول التطرف والإرهاب. الأولى تتعلق باستعمال الحجة الدينية والعقلية معا في مواجهة الإرهاب. والثانية مرتبطة بمشاكل الجالية المغربية في مواجهة التطرف وتورط بعض أبنائها في اعتداءات إرهابية، وهو ما تطرق إليه بشكل بيداغوجي وكأنه يقف أمام شاب من أبناء الجالية محاولا إقناعه بالتعاليم السمحة للإسلام دين الحياة لا القتل، ودين التسامح لا العنف ودين الانفتاح لا التزمت. بُنيت فقرات الخطاب الخاصة بالتطرف والموجهة لأبناء الجالية على الجدل، وزاوجت بين الحجة الدينية تارة والحجة العقلية تارة أخرى، وهي إشارة بالغة الأهمية إلى المجالس الدينية التي بات عليها اليوم أن تغير من أساليب تواصلها مع مختلف الفئات الاجتماعية، لاسيما الفئات الشابة التي تحتاج إلى عناية أكثر ذلك أنها تطرح أسئلة أكثر حول الشأن الديني وتعمل على مقارنة ما تتلقاه من المسؤولين الرسميين والقنوات غير الرسمية. الخطاب الملكي الأخير وضع نفسه أمام أسئلة هؤلاء الشبان فكانت عباراته واضحة وسهلة الاستيعاب مثل قوله: «هل من المعقول أن يأمر الله، الغفور الرحيم، شخصا بتفجير نفسه، أو بقتل الأبرياء؟ علما أن الإسلام لا يجيز أي نوع من الانتحار مهما كانت أسبابه. قال سبحانه: من قتل نفسا بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا». أو عندما تساءل: «هل يقبل العقل السليم أن يكون جزاء الجهاد هو الحصول على عدد من الحور العين؟ وهل يقبل المنطق بأن من يستمع إلى الموسيقى ستبلعه الأرض، وغيرها من الأكاذيب؟». قبل أن يحسم بشكل قاطع «إن الإرهابيين باسم الاسلام ليسوا مسلمين». وهي خلاصة قائمة على مجمل الآيات القرآنية التي استعرضها الملك، والتي تؤكد أن الدين الاسلامي لم يدع قط إلى تبني عقيدة التطرف والعنف. وقد فطن الخطاب إلى التقنية الأساسية للاستقطاب وتصدى لها، وهي العزلة، بحيث تعمل الجماعات المتطرفة باستمرار على عزل الشاب المستقطب عن عائلته أولا ثم عن مجتمعه وبالتالي عن القيم التي تشبع بها منذ طفولته، وشيئا فشيئا تشرع في إدماجه داخل المجموعة المتطرفة التي تتقاسم نفس الأفكار وتدجنها بشكل تجعلها تفكر بنفس الطريقة، ما يسهل عليها ترسيخ تأويلاتها المنحرفة للدين وللقرآن والسنة في عقولهم. آليات مواجهة التطرف داخل المجتمع أصبحت تحتاج إلى تجديد، وهي تبدأ بضرورة قيام الأسرة والمدرسة بأدوارهما الأساسية في التنشئة الاجتماعية وعدم الاكتفاء بأضعف الإيمان، فدور الأسرة تقلص إلى توفير الإمكانيات المادية للعيش، ودور المدرسة ظل منحصرا في تعليم أبجديات القراءة والكتابة، وهو تراجع كبير في وظائف هاتين المؤسستين اللتين فقدتا إشعاعهما التنويري.