توافق وزارة العدل وجمعية المحامين    السكوري: الحكومة تخلق فرص الشغل    مغاربة يتضامنون مع فلسطين ويطالبون ترامب بوقف الغطرسة الإسرائيلية    إقصائيات كأس إفريقيا 2025.. المنتخب المغربي يحقق فوزا عريضا على مضيفه الغابوني (5-1)    حملات تستهدف ظواهر سلبية بسطات    "باحة الاستراحة".. برنامج كوميدي يجمع بين الضحك والتوعية    السكوري يبرز مجهودات الحكومة لخلق فرص الشغل بالعالم القروي ودعم المقاولات الصغرى    المنتخب المغربي يقلب الطاولة على الغابون ويفوز بخماسية خارج الديار    مقابلة مثالية للنجم ابراهيم دياز …    "طاقة المغرب" تحقق نتيجة صافية لحصة المجموعة ب 756 مليون درهم متم شتنبر    فيضانات فالنسيا.. المديرة العامة للوقاية المدنية الإسبانية تعرب عن امتنانها لجلالة الملك على دعم المغرب لإسبانيا    حماس "مستعدة" لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب "للضغط" على إسرائيل    لقجع يهنئ سيدات الجيش الملكي    لقجع: في أجواء التوترات الجيوستراتيجية التي تطبع العالم مافتئ المغرب يؤكد قدرته على التعاطي مع الظروف المتقلبة    سانشيز يشكر المغرب على دعمه لجهود الإغاثة في فالنسيا    جثة متحللة عالقة في شباك قارب صيد بسواحل الحسيمة    وزيرة مغربية تستقيل من الحكومة الهولندية بسبب أحداث أمستردام    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    الصحراوي يغادر معسكر المنتخب…والركراكي يواجه التحدي بقائمة غير مكتملة    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت" (فيديو)    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة        تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصول الربيع المغربي الدامية !
نشر في الأحداث المغربية يوم 15 - 05 - 2014

16 ماي 2003 تفجير خمسة مواقع في الدارالبيضاء من طرف أحد عشر انتحاريا
11 مارس 2007 انتحاري ممنطق بحزام ناسف يفجر نفسه في نادي للانترنت بسيدي مومن
10 أبريل 2007 انتحاري يفجر نفسه بحي فرح بعد تطويق الأمن لخلية إرهابية
11 أبريل 2007 أحد أعضاء الخلية يفجر نفسه قرب دارأمريكا بشارع مولاي يوسف
28 أبريل 2011 إرهابي يفجر مقهى أركانة بمراكش بتقنية التحكم عن بعد
كانت فصول الربيع هاته دامية بالنسبة للمغاربة. هي تواريخ كتبت بدم ضحايا قتلوا باسم الدين. وحتى عندما يختفي هذا العنف لا تتوقف الآلة عن إنتاج نفس الخطاب والاستقطاب لترسيخ مشروعيتها الدينية وسط المجتمع. هل فعلا كان الدين هو المحرك الأساسي لما وقع من قتل؟ أم أن هناك خطابا آخر ينهل من المرجعية الدينية ويستغل الجهل والأمية التي تغرق فيها العقول لتحقيق مشروع سلطوي غير محدد في الزمن؟ مداد كثير سال حول هذا الموضوع فمن كان على حق، القاتلون والمحرضون أم الضحايا؟
المغاربة خرجوا في احتجاجات كثيرة في الحين ضد الإرهاب، لكن ماذا عن الذاكرة، هل تحتفظ بآلام الضحايا .. وماذا يعني لهم الإرهاب اليوم؟ الأسئلة المحورية التي تطرح نفسها بعد كل هذه الأحداث المتشابهة: ما الذي تغير في المجتمع؟ وهل كانت هناك عوامل مباشرة ساهمت في هذا التغير الاجتماعي؟ وإلى أي مدى بلغ هذا التغير؟ وهل مس البنيات الأساسية؟ وهل وقع فجأة أم أنه تفاعل في عمق المجتمع ثم انتقل إلى الواجهة؟ وهل يمكن فعلا اعتباره تغيرا وتحولا؟.
لن ندعي الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل علمي. وحدها الدراسات السوسيولوجية قادرة على ذلك، بالمقابل قد يساعدنا التحليل الحالي في فهم ما الذي يقع داخل المجتمع المغربي…
شظايا التطرف
قبل تفجيرات 16 ماي 2003 قام متطرفون بعدة عمليات تعزيرية بعضها انتهى بالقتل كما الحال بالنسبة لمجموعة يوسف فكري والميلودي زكرياء المتوفى في السجن، وهما من أخطر عناصر السلفية الجهادية، بالإضافة إلى عبد الوهاب الرباع وتوفيق الحنويشي ومحسن بوعرفة وآخرين من أعلام الإرهاب ممن تلطخت أيديهم بدماء المغاربة.
خلال تلك الفترة كانت الأجهزة الأمنية قد شنت حملة واسعة على الكتب المحرضة على العنف والتكفير والتطرف وتمكنت من حجز آلاف الكتب من العديد من المكتبات والمستودعات العشوائية، وهي الكتب التي كانت تدخل إلى المغرب دون رقابة ويتم استيرادها تقريبا بالمجان أو بأثمان رمزية، في غياب أية ضوابط قانونية وفكرية، خاصة أنها تتضمن تحريضا صريحا على القتل والعنف باسم الدين، كما أن محتوياتها لا توافق المذهب المالكي.
هكذا بدأت الدولة تستوعب شيئا فشيئا خطورة ارتباط ترويج هذه الأفكار بالأفعال المعزولة لعدد من الأفراد ممن تم استقطابهم إلى تيار السلفية الجهادية -الذي بدت أنويته في الظهور ببعض التجمعات السكنية العشوائية- والذين بدؤوا العمل منفردين قبل أن ينتظموا في جماعات تختار بدقة بروفايلات أعضائها من المهمشين والفقراء والأميين.
ترويج هذه الكتب خلق دينامية وسط فئات اجتماعية معينة، هذه الدينامية ستتوسع بوتيرة سريعة مع ترويج وعرض أقراص مدمجة وأشرطة العمليات العسكرية في أفغانستان والشيشان ضد الروس ثم في البوسنة وهي الأشرطة التي خضعت لإخراج خطير انتهى بعملية غسيل دماغ كبيرة وواسعة.
لا يمكن الاستمرار في التحليل دون إبراز معطيات على قدر كبير من الأهمية وتتجلى بالأساس في الدور الذي لعبه الهجوم الأمريكي على معاقل الطالبان بأفغانستان بعد تفجيرات نيويورك (11 شتنبر2001)، ‪وقد أذكى هذا الهجوم الحقد العربي على أمريكا التي زرعت بذوره الأولى ‬ إبان الحرب على العراق.
وبذلك ساهم هذا الهجوم في انتشار أفكار التطرف وعودة «مفهوم» الجهاد للظهور بقوة وبات يشكل في أدبيات الجماعات المتطرفة ركنا أساسيا من أركان الإسلام.
الهجوم على معقل تنظيم القاعدة الإرهابي كان أشبه بتهشيم زجاج ما أن أصابته الحجارة حتى تناثرت شظاياه لتصيب كل الموجودين في محيطه، هكذا تطايرت الشظايا في محيط واسع موقعة المزيد من الضحايا، بل منقسمة بدورها إلى شظايا صغيرة فعلت فعلها في محيطها الإقليمي.
لكن كيف نجحت هذه الوقائع في إحداث التغير داخل المجتمع المغربي الذي عرف على امتداد قرون بتسامحه الديني وباستيعابه لمختلف الأجناس المتحدرين من أصول وإثنيات متنوعة؟
نتساءل الآن ما هو هذا التغير الواقع وماهي معالمه وهل انحصر في بنيات مجتمعية دون أخرى؟ جزء من الإجابة عن هذا السؤال يكمن في التساؤل هل فعلا انتقل المجتمع المغربي أو جزء منه من مجتمع الوسطية والتسامح إلى مجتمع متشدد؟ هل أصبحت قيمه المحافظة تأكل قيم التجديد والانفتاح فيه؟ الإجابة بنعم تبدو واضحة خاصة على مستوى المشهد السياسي. إذ بمجرد الحديث عن تزعم حزب العدالة والتنمية الإسلامي للتحالف الحكومي يتضح أن الخطاب الديني قد ساهم في وضع قواعد جديدة للعبة السياسية. هذا طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار ما وقع في بلدان مجاورة من انتفاضات أطاحت بالأنظمة القائمة خلال الثلاث سنوات الأخيرة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن).
بالعودة إلى العنف الديني، لم يكن التغير فجائيا، فعلى امتداد عدة سنوات كان عامل الخطاب الديني الذي تستعمله وتتلاعب به الجماعات الإسلامية حاضرا، لكن ليس بنفس القوة والإقناع، خاصة مع النظام السياسي الذي كان سائدا والذي استطاع الإمساك بخيوط اللعبة وتحريكها بشكل يضمن رجحان كفته، إذن كان للعامل السياسي أيضا دور لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبه الخطاب الديني في بروز هذا التغير، وأكبر دليل على ذلك هو اغتيال الشهيد عمر بن جلون في 18 دجنبر 1975، الذي استعملت فيه عناصر الشبيبة الإسلامية، هذه الأخيرة أصبح بعض أفرادها اليوم أعضاء في حكومة عبد الإله بن كيران.
تغلغل داخل البنية
لقد كانت البنية الاجتماعية الأكثر تأثرا في المجتمع هي بنية العائلة. فهذا الخطاب تسلل إلى البيت المغربي وطال الابن الشاب والفتاة المراهقة والأب والأم، وبتأثر هذه النواة ينعكس التأثير المباشر على المجتمع وعلى أفراده من خلال شبكة العلاقات المعقدة أفقيا في البداية ثم عموديا بعد مدة معينة، وهذا بالفعل ما وقع بالنسبة لتغلغل الخطاب الديني المتطرف في مجتمعنا.
على مستوى الأفراد تأثرت في البداية فئة تعاني ماديا واجتماعيا من تهميش وعزلة قصوى ودرجة كبيرة من الفقر المرتبط بتدني المستوى التعليمي والثقافي وغياب فرص الشغل. هذه المعطيات السوسيولوجية انتهت برسم بروفايل موحد، لعب في تحديده المغاربة الذين عاشوا تجارب «جهادية» متقدمة في أفغانستان والشيشان والبوسنة دورا مهما. أمراء الدم الذين ظهروا فيما بعد وجدوا أمامهم تربة خصبة لزرع أفكارهم العنيفة في عقول نخرها الجهل وفي نفوس تنامى بداخلها الشعور بالحقد والحكرة، فكان هذا الخطاب الديني المغرق في التشدد والتزمت والتطرف ملاذا لها للتنفيس عما بداخلها ومن هذا المنطلق كان هؤلاء الأفراد الممارسون لمهن بسيطة (إسكافي، بائع متجول، مياوم، خضار، جزار، حرفي… وعاطل) يجدون من ينصفهم على المستوى الاجتماعي على الأقل، ويظهر للناس قيمتهم ومعدنهم الحقيقي.
لم يكن بإمكان هذه الفئة ومعظم أفرادها من الأميين أو الذين غادروا الدراسة في سنة مبكرة، تعلم أصول الدين من أمهات الكتب مباشرة، لذلك فقد كانت التعاليم الدينية تبلغهم عن طريق وسطاء متطرفين تحولوا فجأة إلى شيوخ ومنظرين ويتلاعبون بعقول الناس في المساجد والجلسات السرية والمعلنة، بعد أن أصبحوا يقتحمون المناسبات العائلية من خلال علاقتهم بأحد أفراد العائلة أو من خلال استغلالهم جهل الناس وبهذا صار لهم أتباع يرافقونهم خلال هذه المناسبات: في العقيقة وحفل الزواج وأيضا في العزاء وأثناء تشييع جثامين الموتى، وخلال ذلك كانوا يلبسون التعاليم الدينية السمحة لباس التشدد، ويخلطون الحق بالباطل، للترويج لخطابهم الديني المتطرف، فقد كان درسهم يبدأ بمقدمة تقليدية من قبيل الحمد والثناء ويعرج على الإيمان وقوة المؤمن ثم ينتقل إلى تفشي المنكرات في المجتمع وينتقد الدولة والنظام الذي يحمي الفساد ثم شيئا فشيئا تتصاعد حدة النقد فيبحث عن مشروعية لخطابه من أجل إصدار الأحكام والفتاوى في هؤلاء المخالفين للدين، ويحذر الناس من سلوك نفس السبيل بالسكوت عن هذا الفساد ثم يطرح السؤال ما العمل لتجنب النار والفوز بالجنة، حينها تتحول الأجوبة إلى أوامر تصدر من الشيخ إلى الأتباع.
شيئا فشيئا ستتميز هذه الفئات في لباسها ومظهرها ولغتها، ولن تعود فقط مستهلكة لهذا الخطاب بل ستصبح أيضا وسيلة لترويجه. فالخطاب الديني المفبرك على مقاس شيوخ السلفية الجهادية يعطي قوة نفسية لحامله كيفما كان مستواه المادي والثقافي والاجتماعي، لأنه خطاب مستمد من تأويل متشدد للآيات القرآنية والنصوص الدينية، لذلك فإن هذا التشدد الذي يجد مشروعيته في القرآن، والمظهر الذي يبدو به صاحبه كمدافع عن قيم الإسلام الصحيح، تتحول معه الخاصيات التي يتميز بها الدين الإسلامي والتي تتجلى بالأساس في سموه عن البشر باعتباره وحيا منزلا من السماء، وباعتباره شموليا وملزما لكافة البشر، تتحول هذه الخصائص إلى قوة تمتزج بسمات ونفسية الشخص الذي يتم استقطابه من خلال استغلال وضعه المادي والاجتماعي والفكري والبحث عن سبيل لإذكاء ما يعتمل في نفسه اتجاه الآخر، ومن ثمة تغذية بذور الحقد لتكبر ويصبح بالإمكان استغلالها.
لقد لعبت الكتب المتضمنة لأفكار عنيفة المروجة بالمغرب دورا كبيرا في تأصيل مفهوم الجهاد ونصرة ابن لادن بالاعتماد على فتاوى ابن تيمية في التكفير، بل هناك العديد من المغاربة من شككوا في تورط ابن لادن في تنفيذ اعتداءات التوين سانتر بنيويورك، وذلك حسب استطلاع للرأي كانت قد نظمته «الأحداث المغربية» حينها. لقد كان تدخل الدولة لمحاربة هذه الكتب متأخرا بعد أن أصبحت مرجعا، وبعد أن أصبحت دور القرآن المفروض فيها تلقين القرآن مجرد غطاء لبعض من حملوا لقب الشيوخ من أجل الترويج لخطابهم.
لم يتوقف الأمر في حدود إنشاء دور القرآن وكاراجات للصلاة، بل تمكن هؤلاء الأشخاص من السيطرة على بعض الجمعيات والوداديات السكنية، فبدؤوا بالتطوع لخدمة السكان، ثم تحولوا إلى «شرطة» للأخلاق، تشن حملات ليلية استهدفت في البداية أشخاصا كانوا يتطاولون على سكينة وأمن السكان ما جعل هؤلاء الأخيرين يعبرون عن ارتياحهم ويضعون فيهم ثقتهم التامة، لكن سرعان ما تطور الأمر لتصبح عناصر الجماعة تفرض قانونها الخاص بالعنف من خلال الاعتداء على السكارى ومروجي الخمور وتعنيف كل شخص ترافقه فتاة، مطالبين بإظهار وثائق الهوية وعقد النكاح، بل تجرؤوا في أحيان أخرى على قطع يد أشخاص قالوا إنهم ضبطوهم يسرقون كما وقع في فاس. في حملاتهم هاته كان «المعزرون» يعتدون على الضحايا بالهراوات والأسلحة البيضاء ورشق النساء والفتيات المرافقات للرجال بالحجارة، في مشهد يشبه كثيرا حد الرجم.
هكذا أصبحت الجماعة تحسس أفرادها بالقوة، فقد تم اختيارهم للقيام بمهمة تطهيرية للمجتمع تطبيقا للأوامر الالهية، وهي المهمة التي انتهت بتفجيرات إرهابية أعقبها اعتقالات ومداهمات أمنية ساهمت في الحد من خطر الإرهاب لكنها بالمقابل زادت من حقد وجرأة بعض المتهمين الذين ما إن قضوا عقوبتهم السجنية حتى عادوا إلى تشكيل خلايا استعدادا لاعتداءات جديدة، هذا في الوقت عبر فيه آخرون عن استعدادهم لمراجعة أفكارهم المتشددة.
غير أنه بين عودة أولى المغاربة الأفغان الذين تدربوا على السلاح وأولى التفجيرات الارهابية، وبين سنوات السجن، تشكل جيل جديد من المتطرفين استغل التكنولوجيا الرقمية، وتطور وسائل الاتصال ليبدأ شكلا جديدا من «الجهاد». لقد تواصلت الاعتداءات الإرهابية بفضل التنسيق المحكم عن بعد ولم يعد الإرهاب في حاجة إلى انتحاريين بل إلى تقنيين ينفذون عمليات جراحية قادرة على إسقاط أكبر قدر من الضحايا كما وقع في تفجير أركانة الذي تم عن بعد بواسطة تفجير عبوة ناسفة بالهاتف النقال.
التكنولوجيا الرقمية لم يتم استغلالها فقط في تنسيق العمليات الإرهابية بل أيضا في تنسيق عمليات الهجرة إلي بؤر التوتر في مالي مثلا والعراق وليبيا والآن إلى سوريا. إن آلية الهجرة تعتبر أولى الخطوات نحو «الجهاد» وهي الطريقة التي سلكها السلف، إسوة بالرسول (ص)، وذلك إيمانا من الجيل الجديد بأن الهجرة إلى بؤر التوتر تزيد من قوة وبأس المتطوعين، وذلك ما دفع العديد منهم إلى تهجير كل أفراد العائلة من أجل إغناء المشروع الجهادي، استعدادا لإقامة دولة الخلافة.
كل هذه الوقائع والأحداث التي حركها الخطاب الديني المتطرف، لاشك أنها تركت أثرها واضحا في المجتمع من خلال النزوع بقدر أكبر نحو المحافظة في رد فعل لاواعٍ لاتقاء هذا الخطر، فالإرهابيون قبل استهدافهم مواقع بعينها لتفجيرها قاموا بتكفير المجتمع والسياسيين، ولم يسلم من هذا التكفير فقهاء وأئمة معتدلون من دعاة الوسطية في الإسلام.
تلون بألوان السياسة
انتشار هذا الخطاب بدأ يتسع بشكل مذهل في جل الفئات الاجتماعية ولم يعد مقتصرا على استقطاب المهمشين والفقراء بل طال أيضا فئات متعلمة وأطرا بل وأجانب. هذا التحول بدأ منذ أن صار يتلون بألوان كل طيف عنيفا تارة ومسالما تارة أخرى ومتعالما أحيانا، لكن التحول النوعي سيتم عقب الحركات الاجتماعية التي طفت على السطح خلال الثلاث سنوات الأخيرة، والتي تمكنت من إسقاط أنظمة فاسدة. حاول هذا الخطاب أن يركب على موجة الاحتجاجات العارمة خاصة بعد نجاحها في كل من تونس ومصر وليبيا.
سيحصد هذا الخطاب فوائد استثماره طوال سنوات في الفئات الاجتماعية الفقيرة، وسينجح في جعل العديد من الأشخاص الذين فقدوا ثقتهم في السياسة والسياسيين أن يصوتوا لصالح الأحزاب التي أنشأها، ليمسك في النهاية بزمام السلطة. في المغرب سارت الاحتجاجات بشكل مختلف عما وقع في بلدان أخرى واختلط فيها السياسي بالاجتماعي بالاقتصادي، وتعددت المطالب. غير أن الحركة لم تسلم من تغلغل أعضاء العدل الإحسان ثم شيئا فشيئا بدت الجماعة كفاعل أساسي، وبمجرد ما فقدت الاحتجاجات زخمها عقب الإصلاحات الدستورية، فطنت الجماعة إلى أن بلوغ السلطة بهذا الشكل أمر مستحيل ولم ترغب في البقاء وحيدة في الشارع مخافة عزلتها فتخلت عن خطتها. لكن بالمقابل نجح الجناح السياسي لحركة الإصلاح والتوحيد (حزب العدالة والتنمية) في حصد الأصوات التي سمحت له بقيادة الحكومة.
على المستوى السياسي وفي ظل القواعد الحالية، لا يمكن للخطاب الديني المتطرف أن يكون حاضرا بشكل مباشر ولا يستطيع أن يجد له موطئ قدم بالشكل المتعارف عليه، غير أن هذا الخطاب المتلون حتى يضمن حضوره بشكل أو بآخر استطاع أن يتخلى عن تكفيره مؤقتا للسياسيين وتحريمه للانتخابات، وانخرط في العملية السياسية بشكل ديناميكي، لكن هذا الأسلوب لا يسير بشكل متناسق إذ بين الفينة والأخرى تظهر على السطح مواقف تحيل على أصل الخطاب العنيف اتجاه المهرجانات مثلا والحفلات الموسيقية، التي لا يتم استهدافها مباشرة لأنها مخالفة للدين بل لأنها موضوع تبذير للمال العام!!
في جميع أشكاله سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، يواصل الخطاب الديني المتطرف حضوره، لكن هذه المرة ليس كملاحظ بل كفاعل يستعمل الأدوات المناسبة في الوقت المناسب، فهو يضغط بالسلفيين المعتقلين وعائلاتهم، ثم يحرك السياسيين المحافظين للتأثير على القرار، ويلجأ إلى الشارع تارة للإعلان عن وجوده واستعراض عضلاته بحشد الأنصار بل وحتى المواطنين العاديين المتعاطفين لأسباب شخصية، وهو يحقق بذلك مكاسب وإن بدت ضئيلة إلا أنها تؤسس لمشروعه العام.
محمد أبويهدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.