بعد عشر سنوات على التفجيرات الإرهابية للدارالبيضاء، لم تتوقف آلة الاستقطاب وغسل الدماغ. طورت الآلة الشيطانية نفسها واستغلت تكنولوجيا الغرب «الكافر» واستحلتها لنفسها. صار الدعاة وشيوخ التطرف يقصفون عقول الشبان ويستغلون حماسهم وتعصبهم للدين بنقرة واحدة. مئات الأشرطة والفيديوهات.. آلاف الصور المفبركة وغيرها المجتزأ من سياقها كلها تستعمل في إشعال الحقد والكراهية في صدور الشبان. نصف سكان المغرب اليوم يستعملون الأنترنت، لا يمكن أن يلج واحد منهم إلى حسابه دون أن يجد شيئا من هذا السيل العرم. هكذا يصنع التطرف وتكبر شيئا فشيئا كرة ثلج الفتنة. باختلاف فئاتهم الاجتماعية والاقتصادية وباختلاف سنهم ومستوياتهم التعليمية، خضع انتحاريو 16ماي وغيرهم من المتطرفين المعتنقين للعنف كمذهب يقوم عليه خطابهم الديني، لمرحلة تأطيرية محكمة وقاسية وشديدة، كان أثرها بالغا على تفكيرهم وعلى حالاتهم النفسية، غَذَّاه استعدادهم للعنف نظرا لظروفهم الاجتماعية. هذه الخلاصة المستمدة من اعترافاتهم وتصريحاتهم أمام القضاء خلال محاكمة المتهمين، دفعت إلى التساؤل حول الأدوار التي تقمصها المؤطرون، سواء بشكل مباشر أو عن طريق التسجيلات والأشرطة والكتب والخطب المتداولة. كان نشاط المؤطرين كثيفا على امتداد شهور قبل التفجيرات الإرهابية، وتوزعت الأدوار بين حضورهم في التجمعات العائلية، خاصة حفلات الزفاف والعقيقة، وخلال تجمعات التعزية، وأيضا في بعض المساجد غير المعروفة لدى عامة الناس، والتي تكون غالبا في الأحياء العشوائية. لا تفرق عامة الناس بين الخطاب الديني وبين الدين الإسلامي باعتباره تعاليم ووحيا من الله أنزل رحمة بالعالمين للفصل بين الخير والشر، والحث على اتباع الخير. هذا الخلط بين الدين والخطاب الديني الذي هو إنتاج بشري محض لفهم وتأويلات التعاليم الدينية، هو ما يدفع الناس إلى التعاطف مع من يفترض أنهم نهلوا من مصادر الشريعة الإسلامية، ومن ثمة يصير كلامهم وفتاويهم بمثابة القول الصادق الذي لا يأتيه الباطل. ضحايا المؤطرين هم أشخاص أميون أو محدودو الاطلاع، غيبوا عقولهم واكتفوا باجترار كلام المؤطرين دون البحث في صدقيته، ودون مجادلة أو استفسار أهل العلم من الفقهاء الحقيقيين. هذا كان هو السبب الأساسي لمحاكمة شيوخ السلفية الجهادية ومنظري هذا التيار، الذين جاهروا بتكفير المجتمع قبل المحاكمة، ودحضوا هذه التهم أثناء المحاكمة، ثم عادوا لترديدها على ألسنتهم أو ألسن مريديهم بعد خروجهم من السجن. غسيل الدماغ أو «الدمغجة» التي يتعرض لها من يعتبرون حطبا للعنف، وجدت أرضية خصبة داخل المجتمع المغربي مباشرة بعد تفجيرات نيويورك خلال شتنبر 2001، وتقوت هذه العملية بعودة المغاربة الأفغان الذين استقطبوا آخرين رحلوا إلى أفغانستان لقتال «الأمريكان الكفار» إلى جانب الطالبان. لقد خلقت السياسة الأمريكية عداء عربيا لها، ويمكن إثبات ذلك بالرجوع إلى استطلاع الرأي الذي أجرته «الأحداث المغربية» عقب تفجيرات نيويورك، حيث أكد معظم المستجوبين أن ابن لادن لا يقف وراء هذه التفجيرات، وأنها من تدبير يهودي أو أمريكي، وأن ابن لادن هو رجل يخدم الإسلام والمسلمين. إن مثل هذه الأفكار قبل أن تتحول إلى قناعة ثابتة، كانت تعتبر في البداية رد فعل عربي على السياسة الأمريكية، لكن هذه القناعة وإن تزعزعت نسبيا بعد تفجيرات 16ماي التي كانت قريبة من المغاربة وغيرت صورة ابن لادن في نظرهم، إلا أنها سرعان ما عادت لتسيطر على أذهان العديد من المشككين في طبيعة مرتكبي هذه الأعمال الإرهابية. وهنا يظهر جليا مستوى غسيل الدماغ الذي يتعرض له ضحايا التطرف الديني ومن خلالهم المجتمع بشكل أقل درجة. في الدول الديموقراطية يمارس المواطن من خلال الهيئات السياسية والجمعيات والمنتديات، حقه في معارضة أو رفض سياسة قطاعية ما، لكن في الدول التي تطغى فيها الالتباسات على الممارسة السياسية، يكون تعبير هذا المواطن هو الآخر ملتبسا، إذ في الوقت الذي تكون الأمور واضحة لدى المتشبعين بالثقافة الحقوقية والسياسية والمنخرطين في المجتمع المدني، يكون الأمر صعبا لدى فئات مجتمعية تعاني الفقر وتكتوي بنار التهميش والإقصاء الاجتماعيين، ومن هذه الفئة بالذات بدأت أولى عمليات الاستقطاب، وداخل هذه الفئة تم تكوين موقف «سياسي» يرفض كل شيء ويعتبر النظام والحكومة والسياسيين فاسدين، ويعبر عن هذا الرفض بشكل عنيف. تلقف مؤطرو الإرهاب وشيوخ «الدمغجة» هذه النقطة، ومن أجل تضخيمها أضافوا إليها توابل دينية كي يصبح العنف «واجبا» على المسلم القيام به، وحتى يسبغوا على أحكامهم وفتاويهم الطابع الرمزي «المقدس» وضعوا سبعة مبادئ يقوم عليها تحريضهم على القتل والقتال، وهي شائعة في منتدياتهم وتتردد باستمرار في خطبهم: -1 المجتمع: يعتبرون أن المجتمع هو مجتمع جاهلية تنطبق عليه أحكام الكفر، ومن ذلك ضرورة قطع العلاقة معه بهجره وقطع أي تعامل مع مؤسساته. تأسيسا على ذلك، يصبح المجتمع دار حرب وجهاد، ولا يقبلون أن يوصف المجتمع المغربي بالمسلم، وينطلقون في ذلك من كون مظاهر الكفر فيه أكثر وأقوى من مظاهر الإسلام، ومن كونه استبدل القوانين الإسلامية بالوضعية، ومظاهر الانحلال والفساد دبت فيه، ومن كون المعروف أصبح منكرا والمنكر قد أضحى معروفا. كما أن أفراد هذا المجتمع وحكوماته مرتدون مارقون، والمظاهر الإسلامية في هذا المجتمع مظاهر كاذبة مضللة منافقة. -2 السلطان: يعتبرون أنه يحكم بغير ما أنزل الله، ولذلك لا بيعة له ويحلون مكانها بيعة أمير الجماعة، ويشرعنون ما يسمونه بالخروج عن السلطان ومعصيته ما دام أنه هو نفسه يعصى الله. -3 النساء والأموال: بالإضافة إلى اعتبارهم المرأة عورة ينبغي حجبها في البيت، فإنهم يستبيحون نساء من يعتبرونهم كفارا، كما يستبيحون لأنفسهم مال الغير الذي يحصلون عليه بالسرقة أو الغصب والخطف، انطلاقا من فكرة أن أموال الكفار حلال لتمويل الدعوة والجهاد. -4 الجهاد: انطلاقا من فهم خاص لمعنى الجهاد، يصبح هذا الأخير في نظرهم ضرورة شرعية، ويعتبر مؤلف «تحريض العباد على الغزو والجهاد» للمدعو أبو قتيبة الشامي مرجعهم في هذا الإطار، بل إن الجهاد يصبح فرض عين وليس مجرد فرض كفاية، وعلى جميع أعضاء الجماعة أن يجاهدوا بالنفس أو المال، وطبعا ضد مجتمعهم. -5 الأحزاب: يضعون الكفر كقاسم مشترك بين جل الأحزاب، يقول أبو قتيبة في هذا الإطار «لقد حققت الأمة تقدما هائلا جبارا في تفريخ الأحزاب السياسية والكيانات الإيديولوجية.. إن الكفر هو الفكر المشترك بين هذه الأحزاب.. وهي تتنافس فيه وتتسابق به وعليه.. إن الملخص العام للواقع السياسي لدى الأحزاب السياسية في العالم الإسلامي أن القوم أرادوها جاهلية عوجاء.. وابتغوا حكم الجهل والجاهلية». -6 الديمقراطية: يعتبر منظروهم أن الديمقراطية ليست هي الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى نصرة الإسلام وخوض غمارها هو ضرب من العبث وتضييع للجهود والطاقات وإلقاء بالنفس إلى التهلكة(!) والمشاركة في المجالس النيابية فيها تلبيس على المسلمين في عقيدتهم من خلال إضفاء لبوس إسلامي على أنظمة غير إسلامية… وهذا الموقف – يضيفون- فيه هدم لكل معنى من معاني المفاصلة، وفيه تمييع للفواصل العقدية الصلبة بين الطاغوت وبين الدعاة إلى الله. -7 القوانين والدساتير: من معايير حكمهم على المجتمع بالكافر، هناك مسألة اعتماده على القوانين الوضعية، وهم يعتبرون أن الاحتكام إلى الدساتير شرك(!) ووضع الدساتير هو من الثمار الخبيثة للعلمانية التي هي الجاهلية المعاصرة(!) كما أن الدساتير بالنسبة إليهم آلهة معبودة من دون الله، يكفر كل من وضعها أو شارك في وضعها ويكفر كل من تحاكم إليها(!). هذه المبادئ السبعة هي التي تبنتها وثيقة تحرض على القتل والجهاد في المغرب، تم توزيعها بأبواب المساجد قبيل تفجيرات 16 ماي 2003، وكانت «الأحداث المغربية» قد نشرتها وحذرت من عواقبها في عددها الصادر يوم فاتح ماي أي قبل أسبوعين من وقوع التفجيرات، وقبل ذلك كانت محاكمات موازية تجري ضد خلايا للمتطرفين تم تفكيكها ،على رأسها خلية يوسف فكري التي ارتكبت عدة جرائم قتل وعمليات تعزيرية تسير في نفس السياق الذي تحدثت عنه الوثيقة المذكورة، والذي ينسجم مع ما يدعو إليه «أمراء» السلفية الجهادية. لقد وضعت تفجيرات 16ماي تحديدا صارما لتهمة الإرهاب التي تبدأ من التحريض على القتل في إطار فهم متطرف للدين إلى الإعداد وتنفيذ الاعتداءات، وهكذا كان التحريض على القتل والتكفير والدعوة إلى القتال تهما يعاقب عليها القانون، وبذلك تمت محاكمة شيوخ السلفية ودعاة التطرف. غير أن هذا التحديد الصارم الذي كان يجنب البلاد الفتنة يعتبر اليوم «حرية في التعبير»، لا يستطيع حتى القضاء الحسم في الذين يصدرون هذه الفتاوى المحرضة على سفك الدماء. هذه الخلاصة تترجمها اليوم الدعوات المتوالية والمستمرة بشكل يومي في شرائط فيديو وفي كتابات يتم تداولها على نطاق واسع في المواقع الاجتماعية والداعية إلى التكفير والمحرضة على القتل، في تعارض تام مع ما ينص عليه الدين الحنيف، الذي يدعو إلى المجادلة بالتي هي أحسن ويستهجن الفظاظة («ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» سورة آل عمران). هكذا تحولت التكنولوجيا إلى وسيلة للتحريض أو ما يسميه الدعاة «التدافع»، وهي اليوم السلاح الأساسي للمتطرفين في نشر أفكارهم واستقطاب الشبان وتهجيرهم إلى بؤر التوتر في العالم، ولعل أكبر بؤرتين يتم حالياالاستقطاب إليهما هما سوريا ومالي، اللتان تعرفان تواجد العديد من الشبان المغاربة ممن وقعوا في شباك دعاة «الجهاد». يبدو الأمر هنا أشبه بإعادة إنتاج لما وقع قبيل تفجيرات 16ماي، التي صادفت عودة المغاربة الأفغان، الذين تم استقطابهم في وقت سابق وتهجيرهم إلى أفغانستان باعتبارها أرض الإسلام التي يحتلها الكفار (الاتحاد السوفياتي سابقا) والتي وجب على كل مسلم أن يسعى إلى تحريرها. وبعد أن صدرت فتاوى تكفير المجتمع المغربي واعتبار البلاد دارا للحرب، حسب ابن لادن والظواهري وقادة تنظيم القاعدة، توصل المقاتلون بتعليمات بالعودة إلى بلدانهم لاستكمال «الجهاد». هذا السيناريو تتكرر عدد من فصوله اليوم بنفس الطريقة والأسلوب لكن بتقنية «دمغجة» أكثر فعالية خاصة بعد الثورات التي شهدتها عدة دول عربية، وكانت فيها الفرصة سانحة للركوب عليها من طرف المتأسلمين، مع ما صاحب ذلك من تنامي المد الأصولي الذي لم يعد مسلحا بالتكنولوجيا الرقمية فقط، بل أيضا بالأسلحة الخفيفة والثقيلة المحصل عليها من الأنظمة المنهارة بشمال إفريقيا. بعد تفجيرات 16ماي، قامت مصالح الأمن بمئات الاعتقالات التي استمرت، لكن ليس بنفس الوتيرة ، بعد أن تطورت آليات التتبع الأمني والاستخباراتي، وتقنيات جمع المعلومات والأدلة قبل التدخل الأمني، لكن العجز كان واضحا على مستوى المتابعة الفكرية والتربوية التي كان من اللازم أن تشكل مناعة لضحايا الاستقطاب قبل الوقوع بين أيدي محترفي غسيل الدماغ والتأطير الإرهابي. النتيجة اليوم هو دخول المجتمع في دوامة لفقدان هذه المناعة تدريجيا، وسيزداد النزيف مع استفحال الأزمة الاقتصادية، التي تعرف جل المجتمعات التي تعاني منها بروزا أكثر لقيم المحافظة التي تتحول إلى التشدد والتزمت، مقابل الانفتاح الذي كانت تعيشه من قبل، وهو ما يعني المزيد من «حطب» الفتنة. محمد أبويهدة