أخنوش يستقبل لارشير بالرباط    الأرباح تتعزز في بورصة البيضاء    الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية تثير استغراب نقابات الصيادلة    اعتقال مواطن فرنسي بمراكش في قضية ترويج المخدرات والاختطاف ومحاولة القتل    سبيك: المغرب ينجح في إحباط مخطط "تفجيرات إرهابية عن بعد"    عن تنامي ظاهرة العنف المادي والمعنوي ضد أطر التربية..    تلاميذ طنجة أصيلة يتألقون في البطولة العربية لألعاب الرياضيات والمنطق ويحصدون ميداليتين ذهبيتين    حامي الدين: المغرب يعيش فراغا سياسيا قاتلا يفتح مستقبل البلاد على المجهول    أكثر من 130 مقاتلا مغربيا في تنظيم "داعش" في إفريقيا    غوتيريش يدعو إلى "العمل المشترك" من أجل النهوض بحقوق الإنسان    هزة أرضية بالريف وهذه قوتها    إسبانيا تطرد حلاقا مغربيا من برشلونة بتهمة تجنيد مقاتلين لتنظيم داعش    العداؤون المغاربة يتألقون في ماراثون اشبيلية    البنك الدولي: القطاع الزراعي في المغرب يواجه تحديات كبرى بسبب الجفاف    الاتحاد الأوروبي يعلق عقوبات على سوريا    مراكش.. اجتماع حول المخطط الشامل للتعاون العسكري المشترك بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية    المتحدث باسم حماس: تصريحات أبو مرزوق لا تمثل موقف الحركة    جريمة مزدوجة تهز المحمدية ..سبعيني يقتل ابنته وصهره ببندقية صيد    الطالب الباحث مصطفى المحوتي يناقش رسالة الماستر حول البعد التنموي لقوانين المالية بالمغرب    ندوة بالحسيمة تسلط الضوء على حقوق النساء الراعيات للأشخاص في وضعية إعاقة    منخفض جوي يقترب من المغرب مصحوب بامطار غزيرة وثلوج    رئيس الاتحاد الموريتاني لكرة القدم يستقبل فوزي لقجع    نايف أكرد يغيب عن مواجهة برشلونة بسبب تراكم الإنذارات    الملك يهنئ رئيس جمهورية إستونيا    الكاتب الأول إدريس لشكر يهنئ الميلودي موخاريق بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للاتحاد المغربي للشغل لولاية رابعة    حريق يداهم الحي الجامعي بوجدة    فرنسا تدين استهداف قنصلية روسيا    دراسة.. ارتفاع معدلات الإصابة بجرثومة المعدة لدى الأطفال بجهة الشرق    ميناء طنجة المتوسط يستقبل سربًا من مروحيات الأباتشي    "زمن الخوف".. الكتابة تحت ضغط واجب الذاكرة    الجبل ومأثور المغرب الشعبي ..    غزة ليست عقارا للبيع!    تفكيك خلية إرهابية مرتبطة بداعش .. عمليات البحث والتتبع لأنشطة عناصر الخلية استغرقت ما يناهز السنة    سفير اسبانيا .. مدينة الصويرة تلعب دورا محوريا في تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب واسبانيا    دنيا بطمة تعود إلى نشاطها الفني بعد عام من الغياب    الدار البيضاء.. الأوركسترا السيمفونية الملكية تحتفي بالفنان الأمريكي فرانك سيناترا    مع اقتراب رمضان.. توقعات بشأن تراجع أسعار السمك    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    السد القطري يعلن عن إصابة مدافعه المغربي غانم سايس    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    المعرض الدولي للفلاحة بباريس 2025.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما في مجال الفلاحة الرقمية    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي يدعو إلى قتل الفلسطينيين البالغين بغزة    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منبر الرأي مع بشرى بلعلي: شباب الريف في المهجر ضحية الغيبوبة العقلية والمتاجرين بالدين
نشر في أريفينو يوم 30 - 12 - 2015

أسوأ ما يمكن أن يحدث للأباء .. هو أن يُنتزع منهم أولادهم .. أن يستيقظوا ذات صباح ليتفاجؤوا أن كل خلايا البراءة في دواخل فلذّات كبدهم قد ماتت ... قد دُمرت ... لماذا؟... لأن ثمة جماعات تتاجر بالدين أبت إلا أن تدنّس دواخلهم، ليصبحوا بلا إنسانية.. بلا عقل ... بلا مبادئ ... بلاطُهر ... بلا حب ... بلا أخلاقيات أو مُثل أوجبها الخالق لترتقي بها أرواح البشر فوق سواد قلوبهم، فيصبحون ناقمين على مجتمعهم ومجتمعات غيرهم ومهددين لها، نعم، الطفولة هي براءة القلب والروح والعقل من أحقاد وكراهيات وجهالات ما أنزل الله بها من سلطان ... هي طُهر النفس من صراعات تتوارى في الداخل العفن لتلقي بروائحها الكريهة في وجوه الناس، وطُهر العقل من غباء يقودهم إلى سفك الدماء وقطع الأرحام ...
يولد الطفل بريئا طاهرًا من هذه الكراهيات والجهالات، ثم يعمد مجتمعه إلى تلويثه، لا بالبذاءات فقط، بل خلف عباءة الفكر الأناني الجهول الزائف أحيانًا ! و بالغباء والجهل المستتر خلف عباءة الدين أحيانًا أخرى، فهذا النوع الأخير مايهمنا في هذا الموضوع, وخصوصا الظاهرة المثيرة للجدل وهي الانضمام المكثف لأبناء الجالية الريفية إلى مثل هذه التنظيمات المشبوهة, فما الذي يجعل هؤلاء الشباب ينجذب للدولة الإسلامية ولم تسلم منهم حتى فتيات في الثالثة عشرة من أعمارهن, مخلفين عائلات مفجوعة, ومجتمعات حائرة, ليطلون بعد فترة على شريط يوتوب شاهرين سيوفهم في العراق أو سوريا, ويتباهون بإنجازاتهم الدموية, وسارقين الأضواء في كل نشرة إخبارية بفظاعة ابتكاراتهم الوحشية, ملثمين كأشباح لا وجوه لهم ولا لسان ، الموت يتكلّم نيابة عنهم ، له صوت الرصاص والمدافع والسكاكين والحرق ... يخاطب أشخاصا كانوا آمنين، لم يكن أبدا في حسبانهم أن يمرّوا يومًا على نشرات الأخبار جثثا ملقاة في الشوارع، أو أشلاء محمّلة في شاحنات للبضائع ... الموت في خطابه الجائر، لا يبرّر، لا يشرح، لا يعتذر ، لاوقت له، دوما ثمّة وليمة بشريّة في انتظاره.. تعبر دبّابة فوق جثة سبق لقناّص أن قتل صاحبها لقتل الوقت، فتُحوّلها من كائن بشريً إلى مواد أوّليّة، وتواصل طريقها ... وتهدّ القنابل البيوت على ساكنيها... وينطلق الرصاص ليجهز على رجال يصطفّون مكبّلين ويتركهم أرضًا في انتظار من يتطوع بدفنهم، خيطا طويلا من النار صوب قفص يحوي شخص فسرعان ما يضحي فحمة, إنها تذكرني بعصور مظلمة وقبيحة كان يُعدم فيها حرقًا من يُتهم بالهرطقة, ثمّ يأتي دور الأطفال المذهولين من أمرهم، فيكون من نصيبهم الذبح بالسكاكين، قبل أن يستوعبوا ما يحدث لهم ...
كيف استطاعوا فعل ذلك؟ ... مجرّد تصوّري بأن كائنا بشريا يهجم على عنق طريّة لطفل، فيقطعها بجرّة من سكين، على مرآى من أطفال وأمهات ينتظرون دورهم من الذبح متظرّعين منتحبين، يفسد علاقتي بالجنس البشري, وماذا إن كان هذا النوع الشاذ من البشر يضم أفرادا من عرقك وبني قومك الذين كانوا رمزا للحرية والإنسانية, وأحفادا لأعظم رجل شهده التاريخ المعاصر والذي نادى بالسلم والحرية والتآخي بين البشر, حيث جاء في إحدى مقولاته المشهورة "إذا كانت لنا غاية في هذه الدنيا فهي أن يعيش كافة البشر مهما كانت عقائدهم وأديانهم وأجناسهم في سلام وأخوة", وقد كان يمقت سفك الدماء فتلك الحروب التي كان يخوضها فرضت عليه, "هذه الحرب أقحمنا فيها الأجنبي...", وكان محاربا نبيلا عامل أسراه معاملة إنسانية لقد كان يقول: "الأسير أسبق من المجاهد في الحصول على أكل جيد رغم الظروف الصعبة التي كان تمر منها الثورة".
فما أقسى أن يتجرد الإنسان من كل مشاعره، ليغدو في مرحلة يأباها الحيوان ... حتى الحيوان لا يقتل فريسته بمثل هذه الوحشية .. فقد كان برنارد شو صادقا في قوله «الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يثير رعبي».
والحق لو تأملنا هذا المأزق الدموي الذي يتخبط فيه شبابنا وخصوصا المهاجرين منهم, لأدركت على الفور أن الأزمة التي يكابدها مثل هؤلاء الشباب هي في حقيقتها أزمة عقل, أو بالأحرى أزمة فساد او تعطيل العقل وهي أزمة تعاونت على تفاقمها عوامل دينية سياسية بالدرجة الأولى تعتمل بداخلها جملة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية, وتغذيها مبادئ عقيمة كالسمع والطاعة وقدسية رجل الدين لا قدسية الدين ذاته, وزندقة المتمنطق....إلخ
سألت أحد أبناء منطقتنا المهاجرين، وكان شابًا في مقتبل العمر: والذي ما فتئ يردد بعض العبارات "سنحارب كل ماهو علماني ولبيرالي والحل هو عودة الإسلام". حين نردد هتافًا عن إيمان به، فمن المفترض أننا ندرك مغزاه جيدًا، ونعرف بدقة معاني مصطلحاته، فقل لي ماذا تعني بالمصطلحات «علمانية – ليبرالية- ثم الإسلام هو الحل »؟
فكر وقدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم قال ما معناه:أعني بمصطلح «علمانية» استبعاد الدين من كافة مناشط الحياة، واستبدال القوانين الوضعية بشريعة السماء، وأعني بمصطلح «ليبرالية» إطلاق العنان للحريات الفردية وشيوع ثقافة الإباحية والفجور. أما «الحل هو الإسلام» فأقصد بها بأنه آن الآوان لنطبق شعار شيوخنا الذين طالما نادوا به وهو أن الإسلام هو الحل وأنه قادم لا محالة، وأن محاربته لن تزيدنا إلا إصرارًا على نصرته, وسننشئ دولة إسلامية, تطبق الشريعة وتحكم بما أنزل الله وتطبق حدود الله على كل عاص وكافر.
قلت: حسنًا، أنت محقٌ فيما بلغه فهمك، مغبونٌ فيما أخذت من غيرك، مخطئ في الاندفاع والتعميم ... عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء, مصطلح العلمانية فهو مصطلح فضفاض تتعدد مدلولاته في الأدبيات الفلسفية والسياسية المعاصرة, فالتعريف الاصطلاحي الشائع هو فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، لكن ذلك لا يعني بحالٍ فصل الدين عن الحياة والمجتمع ؛ فالدين مكون أساسي من مكونات الهوية لدى كثرة من الشعوب، لاسيما العربية، وهو موروث حضاري نشط يتجدد دومًا وفقًا للمتغيرات الزمانية المكانية. وبعبارة أخرى، الإسلام دينٌ سماوي بلغ من أفئدة الناس ما لا يمكن أن تبلغه أية أيديولوجيا، أما العلمانية فهي في منبتها الأوربي الحديث فكرٌ وضعي ثائر، لا على الدين، وإنما على تسلط رجال الدين، وتطويعهم المقدس لتحقيق مآرب دنيوية هي أبعد ما تكون عما ينادون به. وكون دولة المسلمين ذات نظام علماني (مدني) إنما يعني حمايتها من هيمنة أولئك الذين اتخذوا من الدين دثارًا للحكم، ومناطًا لفرض اجتهاداتهم العقلية التي قد تصيب وقد تخطئ، ويعني أيضًا حماية الدين وأهله من تسلط الدولة وتدخلاتها واضطهادها لحرية ممارسة شعائره على هذا الأساس يعيش المسلمون في المجتمعات الغربية ومن بينهم أنت, وإذا كانت العلمانية الأوربية الحديثة لم تف بوعودها بشأن الحرية و المساواة نتيجة المغالاة في رد الفعل إزاء الكنيسة (حيث انتشرت العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية)،فإن ما يحمله تراثنا من ملامح لما ندعوه بالعلمانية الإسلامية كفيل بأن يدشن لها معنى جديدًا وواعدًا؛ أعني تفعيل ملكة العقل التي ميز الله بها الإنسان عن كافة مخلوقاته، ولعل هذا التفعيل يمثل مطلبًا محوريًا من مطالب شريعة الإسلام الغراء.
أما مصطلح اللبيرالية ، الذي يشير إلى نزعة فلسفية سياسية ترفع من شأن الفرد وحريته في مواجهة كافة الاستبداد الفكري والسياسي. صحيح أن ثمة تفسيرات مختلفة وتطبيقات متباينة تتأرجح بين الاعتدال والتطرف لمفهوم الحرية، لكن عموم الليبراليين يدعون في المجمل إلى دستورية الدولة، والديمقراطية، والانتخابات الحرة والنزيهة، وكرامة الإنسان، وحرية الاعتقاد والمساواة والسوق الحر والملكية الخاصة،.... إلخ، وهي أمور يقرها الإسلام بشكل أو بآخر بما يتفق مع مبادئه ومنطلقاته. تتجلى حرية الفكر مثلاً في قوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين" (النحل: 125), وتتجلى حرية الاعتقاد في كثرة من الآيات، منها قوله: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " (الكهف: 29)، وقوله: "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا " (النساء 80). ويتجلى مبدأ المساواة في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير" (الحجرات: 13). وتتجلى كرامة الإنسان في قوله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضيلاً" (الإسراء: 70) ... وهكذا. هذه هي المبادئ الأساسية لليبرالية، فإذا ما نُقيت مما شابها في الغرب من إطلاق للحريات دون ضوابط شرعية ومجتمعية، أو دعوات للإباحية والفجور، باتت تحقيقًا لمبادئ الشريعة كما رسمها الإسلام. ولا ينبغى تحميل الأفكار وزر ما فعل بها الناس، ولا تحميل النظرية وزر التطبيق الخاطئ لها، مثلما لا ينبغي تحميل الأديان السماوية وزر الممارسات الشائنة أحيانًا لمعتنقيها، وإلا انطبق ذلك علينا أيضًا, فإذا نظر أهل الغرب إلى المسلمين وبلدانهم ورأوا ما فيها من فساد وتخلف وجهل وتكبيل للحريات ووأد لحقوق المرأة...قالوا هذا هو الإسلام فازدادوا نفورا منه وانتقادا.
أما بالنسبة لعبارة الإسلام هو الحل في زمن لا يعترف إلا بالعلم والتكنولوجيا, فالعلم برأيي هو الحل, فلو فهمنا حقيقة الإسلام وجوهره, ولو لم يكن الإسلام لدينا مجرد شعار نتاجر به سياسيا واجتماعيا لاستقطاب العامة والبسطاء, لكرّرنا إن العلم هو الحل, فالله لا يعبد بالجهل والعلم هو بوابة الدنيا إلى الآخرة, وبه نحقق قول الله تعالى: (يرفع الله الذّين آمنوا منكم والذين اوتو العلم درجات), فمثلا بعد قرون كابدوا مرارتها, أبدع الغربيون والروس واليابانيون واليهود في كثير من مناحي الحياة, علما وأدبا وإحتراما لحقوق الإنسان, وبناءً لحضارة نلهث خلف غبارها ونعيش على فتاتها. ورغم تعرضهم لكثير من كوارث الطبيعة والحروب والأوبئة على مدار سنوات طويلة....لم يقل أحدهم أن ديانتهم هي الحل , لم يقل الغربيون أن المسيحية الكاثوليكية هي الحل, ولم يقل الروس أن المسيحية البروتيستانية هي الحل, ولم يقل اليابانيون ان الشنتوية أو البوذية هي الحل, ولم يقل اليهود أن اليهودية هي الحل لقد أدركوا وطبقوا (رغم كونهم غير مسلمين) دعوة الإسلام الأولى:" إقرأ" وتفعيل ملكة العقل الذي يعتبر مطلبا محوريا من مطالب الشريعة الإسلامية الغرّاء, والذي ميز الله به الإنسان عن كافة مخلوقاته. فهاته الديانات السالفة الذكر غير مسؤولة عن تفوق أتباعها, كما ان الإسلام كدين ليس مسؤولا عن تخلف العرب إنما هي مجموعة العوامل السياسية والإجتماعية اللاعقلانية التي تنحر في جسد الأمة الإسلامية دون هوادة, فالعلم وتفعيل ملكة العقل هما الحل فبهما وفي معيتهما تتجاوز الأمم محنها وترتقي وتسود العالم.
بالإظافة إلى العلم والعقل للنهوض بالأمة لابد أيضا من العدل, فالحكم مداره العدل، وهذا الأخير هو الهدف الأسمى للشريعة. فالعدل هو أساس العمران كما يقول ابن خلدون والظلم منذر بخرابه, ويقول ابن قيم الجوزية في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية": «السياسة الشرعية مدارها العدل، ولو لم ينص عليه الوحي وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ما ظهرت أمارات الحق، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثَمّ شرع الله ودينه.
كان الشاب ينظر إلي محدقًا، تتجلى في عينيه علامات الرفض تارة، وعلامات الرضا والقبول تارة أخرى. وما أن أنهيت كلامي حتى قال: لعلي لا أفقه بعضًا مما ذكرت ...عندما أعود إلى ديار المهجر سأراجع شيخي وأنظر في الأمر. حينئذ أدركت مدى ما للشيخ من تأثير في تشكيل وعي الشاب وغيره ممن يعيشون في جلبابه، فيرددون كلماته عن فهم أو عن غير فهم ... قلت له: إذن أوصيك بشيء، إذا ذهبت إلى شيخك وجلست في معيته، لا تخلع عقلك مثلما تخلع حذاءك ... حاوره وناقشه، فكل إنسان يؤخذ منه ويُرد ... ولئن لم تفعل، فلربما استعدت حذاءك، لكنك أبدًا لن تستعيد عقلك. وتذكر أن هؤلاء الشيوخ لايخدمون إلا مصالحهم الشخصية و أن الدين عندهم مطية للهيمنة ويجعلونه ذلولا للمنافع الخاصة والاستلاب العقلي والفكري, وعليك أن تميز بين الإسلام كدين قيم ارتضاه لنا رب العزة كمنهج حياة وبين من نصبوا أنفسهم زيفا كمتحدثين باسمه, الذين تسربوا من شقوق الغيبوبة العقلية لهاته الأمة ليعيثوا في الارض قتلا وفسادا, فهم و أولادهم مثلا ينعمون بدفئ العيش في الدول الغربية والدراسة في أفضل المدارس, وأنت وأمثالك يخدعونكم ويسوقون لكم مشروع ديني غامض غير محدد المعالم, ولا يمت للدين الاسلامي بأي صلة مبني على مبادئ شاذة وغريبة, فبدل أن تتأثروا بعلماء الدين الأجلاء الذين يخاطبون عقول الناس ويحترمونها, تنساقون وراء من يتلاعب بمشاعركم ويبيعون لكم الأوهام والهواجس, كزواج النكاح في الدنيا والزواج بحور العين في الآخرة, ويرسلونكم إلى قتل أنفسكم وغيركم من الأبرياء, فبدل أن توظفوا كل طاقات العقل وإمكاناته بصفته أعظم هبة منحها الله للإنسان, تعيدون العمل بمقياس القرون الوسطى الكفر والإيمان.
فهكذا عندما يلتقي العقل الفارغ بالعقل الحرباء يولد التطرف والإرهاب, فهذا النوع من العقل الفارغ الذي يتميز به مثل هؤلاء الشباب ويسمى أيضا بالعقل التابع أو الإسفنجي, وهو عقل المستسلم لعقول الآخرين بغض النظر عن صحتها أو خطئها، صدقها أو كذبها، ملاءمتها أو عدم ملاءمتها. وصاحب هذا العقل في الغالب ضعيف الشخصية، مفتقد للثقة والاعتداد بالذات، عاجز عن الرؤية النقدية، خارجي المرجعية بشكل مطلق، يمكن تمثيله بالإسفنجة؛ تمتص كل ما يُلقى إليها بسرعة، ثم تُعيد إخراجه بالعصر كما هو، فلا تستبقي إلا أقل القليل منه، لتحمل عليه المزيد أو الجديد مما يمكن فقده بسهولة. ويسهل تشكيل مثل هذا النوع من العقول والتلاعب به من قبل الجماعات الدينية, التي تتميز بذلك العقل الحربائي وهو عقل قادرٌ على التفكير والفحص والاستنتاج المنطقي الصحيح، لكنه أناني النزعة، وصولي النشاط، خبيث الهدف، مغالط غالبًا في القياس، يقبل ما كان فقط في مصلحته ولو اتسم بالخطأ والكذب، ويرفض ما كان ضد مصلحته ولو اتسم بالصحة والصدق. وهذا العقل هو أخطر أنواع العقول على المجتمع وأكثرها مراوغة. وينتشي عندما ينتصر ويملك مثل هذه السلطة الروحية والدينية ويتحكم في مصائر هؤلاء الشباب الذين غابت عقولهم وأصبحوا رهن إشارته.
ولنا أن نتخيل حال شبابنا بشكل عام وفي المهجر بشكل خاص يترك ثروته العقلية لعوامل الصدأ والتآكل والتحلل حيث يقع في هاوية غيبوبة عقلية تفقد مقوماته على التفكير المنطقي والمنظور النقدي ويتحول إلى مادة متكلسة أو هلامية, تصبح تحت رحمة هؤلاء المتاجرين بالدين التي تملك أسلحته وتجيد إعادة استخدامها في إعادة صياغة هاته المادة وتشكيلها وتوظيفها طبقا لأهدافها العاجلة والآجلة, وذلك في زمن لا يعترف إلا بالعلم والوعي واليقظة.
فما على شبابنا إلا تفعيل ملكة العقل وخصوصا ذلك العقل الممارس للنقد, فالنقد هو جوهر الفكر او الاقتبار الحقيقي لموضوعية العقل ويقظته وهو امتلاك لامكانات وأدوات ومناهج متجددة باستمرار والعقل بدون ممارسة للنقد هو مجرد مخزن للمعلومات والمعارف, وأن يفعّل عقله من خلال اكتساب المناعة الفكرية التي تحمي الأفراد والمجتمعات من التطرف والتعصب والكراهية فيبدأ العلاج بالقراءة, وينشئ الأفراد، كما المجتمعات، بالقراءة والاهتمام، فكرا نقديا, وفي ذلك تتشكل القدرة على الملاحظة والتمييز, يقول "إيريك فروم": "إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاتَه، ولا أن يكون له مركز في ذاته، ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً".
سأنهي مقالي بمقولة أميرنا عن حثه لنا على القراءة منذ أكثر من قرن:"أوصيكم يأبنائي بالقراءة والكتابة وعليكم أن تعودوا أنفسكم على ممارستهما...."
بشرى بلعلي / طالبة باحثة
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.