في سوق اثنين زواية سيدي اسماعيل أيام الجفاف واشتعال نيران أسعار العلف الجو حار هذا الصباح الربيعي. ليس حارا فقط في سوق اثنين زاوية سيدي اسماعيل. قائظ ولا يُحْتَمَل. الحرارة خانقة صبيحة هذا الاثنين الأخير من شهر مارس. يعاني الأنف ويلاقي أحيانا عُسْرا ملحوظا في استنشاق الهواء. إنه الصيف قبل الأوان في دكالة. صيف دون «صابَا». هذه مَشاهِد من السوق الأسبوعي أيام الجفاف.. في الطريق المتربة البيضاء إلى سوق اثنين زواية سيدي اسماعيل، أشار سي محمد إلى حقل قاحل ثم قال «هادي كانت محروثَا وتكْلات». يقصد أن الفلاح الذي حرث الأرض يئس من فرج التساقطات المطرية فأطلق البهائم لترعى ما نبت من الزرع. مرت الأبقار والأغنام فصار الحقل أرضا جرداء ترصعها أحجار بيضاء مختلفة الأحجام. كأن الفلاح لم يبذر البذور منذ ثلاثة أشهر، وكأن الزرع لم ينبت. «الكروصات» التي تجرها «العَوْدان» أو البغال، عائدة من السوق. لا يتوقف سي محمد القادم من دوار ولاد عتّو، عن بعث التحايا والرد على عبارات السلام. مرر يده على جبينه وهو يقول «اليوم سخون بزاف»، ثم أشار من جديد إلى الحقل الموالي مباشرة وقال واصفا حالته «هاد الحرث حتى هو سارحين فيه البهايم». يظهر كأن نصف مساحة الحقل حُصِدَت. تدخل الفلاح موضحا «البهايم غادا وتتاكل فيه». ترعى على مراحل. جفاف استثنائي سي محمد فلاح «مبشور». لا يتوقف عن الضحك طيلة الطريق إلى السوق الأسبوعي، كأنه يقاوم الإحساس بالمرارة والمستقبل الغامض الذي ينتظره هذا الصيف. فجأة صاح الرجل قائلا «السلام عليكم». رد الرجل وهو ينش على أغنامه «وعليكم السلام»، ثم دعاه إلى عبور الحاجز الحجري ليلتحق به. عبد الرحمان فلاح دكالي صغير. حرث هذا الموسم «شي حرَيْثَا بكْريَا»، لكنها «جاحت». شرح الكلمة الأخيرة قائلا وهو يستعين بعصاه «طلع الزرع عيان». لم تَجُد السماء بالمطر فتوقف القمح عن النمو وبدأ يميل جهة تلك الصفرة غير الواعدة بالحصاد. اضطر الفلاح مكرها إلى تحويلها إلى مرعى ترعى فيه البهائم ما نبت ولم يكتمل نموه الطبيعي. عبد الرحمان في عامه الثالث والستين. لم يسبق له أن عاين مثيلا لهذا الموسم الجاف. «كل عام تنحرث وما عمّرْني عقلت على بحال هاد العام». لم تسعفه خزائن ذاكرته على استرجاع ما يضاهي هذا الموسم في حدة جفافه. قال بعربية أهل دكالة «ما دارْيِينش.. ما عقلْناش فيه»، ثم أردف «سوّلنا الناس كبر منا.. ما عمرو داز بحالو». ختم حديثه عن هذا الجفاف الاستثنائي الذي ابتلي به قائلا «اللي بغى لينا الله بغيناها». البكرية حسمت السماء مصيرها. «المازوزية ما حرثناهاش.. حيت نيَّسْنَا». قال ثم أشار إلى الأرض قبل أن يعلن من باب التوضيح «لارض كارْمَا». يرعى عبد الرحمان قطيع الغنم في الأرض التي من المفروض أن تكون محروثة. لم يحرثها هذا الموسم. لم يبذر بذور الدرة لأنه يئس من سقوط أمطار الخير خاصة بعد أن «جاح» حرث القمح. بالتالي لا داعي للمزيد من الخسارة. ودع سي محمد عبد الرحمان. استعان بطربوشه الأبيض كأنه يطلب منه العون وقال «الناس مساكن غادي يتكرفسو هاد العام». أعاد الاستعانة بالطربوش. سواه وأعاد تسويته قبل أن يضيف «مُحال يكون لعيد الكبير هاد العام». جال ببصره في الحقول وأردف «شوف تشوف». رفع الطربوش عن رأسه. مرر أصابع يده ثم حك جبينه وهو يعلن «كل شي زين.. كلّو أمر الله». نظر إلى الأكياس البلاستيكية العالقة بشجيرات الصبار، ثم قال «الشتا تتهدّي النفوس»، وأردف «الله يرحمنا». يسلم سي محمد كباقي الفلاحين بمصابهم. طريقتهم في استيعاب الحدث واستساغة الجفاف الذي حرمهم من «الصَّابَا». بلوروا فلسفتهم الخاصة بهم في انتظار نزول رحمة الله. الضرب بالمشحاط عند المدخل إلى السوق. مد سي محمد يده للسلام علي صاحب «كرويلا» مختصة في نقل المتسوقين. الشكوى على طرف اللسان تنتظر أول فرصة للإعلان عن نفسها «الشعير وصل لخمستاعشر مية». قال الرجل قبل أن يسترسل في وصف ما يكابده هذه الأيام «فيمَّا درْتي يضربوك بالمشحاط»! يكفي أنه يستمد من سلوكه اليومي في علاقته بالدابة التي تقود عربته، ليصف معاناته وما يلاقيه في هذه الأيام الجافة. تبقى الخلاصة المفيدة أنه موسم فلاحي استثنائي لم يسبق له أن عاين ما يضاهيه في قلة التساقطات «ما كاينش بحال هاد العام». عند باعة العلف يقف المرء بالملموس على بلاغة صاحب الكرويلا لما تحدث عن الضرب بالمشحاط. قفزت «خنشة النخالة ديال ربعين كيلو» من تسعين درهما إلى «ألفين وميتين وخمسين ريال» كما قال الشاب الذي يشرف على الشاحنة المحملة بهذه المادة. لم يغفل عن التعبير عن تضامنه مع الفلاحين «الدراوش»، ثم عرج جهة التذكير باحتمال «كون صبات الشتا تنزل حتى النخالة لثمانين درهم». اصطفت خيام الحجَّامة تُقابِل شاحنات باعة العلف التي تغطيها «الباشات». «طُونْدُوز» حلاق سوق اثنين زاوية سيدي اسماعيل تشتغل ب«الباتْري» المحجوب في «الصاكوش». سلم الشاب رأسه للحجام وانطلقت الطوندوز في حصد الشعر بينما المتسوقون والمتسوقات يعبرون في اتجاه القهاوي غير آبهين بالمنظر. كلما اقترب حلول فصل الصيف سترتفع أثمنة بيع العلف. قاعدة استخلصها سي محمد من سابق تجاربه. لا يتفق بوشعيب مع القائلين بأن الشمندر أشرف على مضاعفة ثمن بيعه في السوق. انتقل من تسعين درهما إلى مائة وخمسين درهما. يبيع بوشعيب كيس الشمندر ب«تلتالاف ومية ريال». لكن «مع الشتا تيطيح التمان لألفين وتلمية ريال». المهم بالنسبة لبوشعيب أن «الكسابة الكبار هما اللي تيشريوْ العلف». علق شاب تابع مجريات الدردشة على العبارة الأخير فقال «الحولي غادي يغلى هاد العام.. غادي يضُّوبل تمانو». الأمل كل الأمل أن يسقط المطر في القريب العاجل «إلا صبَّات الشتا يطيح العلف ف السوق». انتصف نهار الإثنين ولم يبع بوشعيب بعد نصف حمولة الشاحنة المحملة بأكياس الشمندر. «الله يعطينا الرخَا» قالت المرأة وهي تقتعد خنشة النخالة تحت الباش الذي احتمت به من أشعة الشمس الحارقة. نظرت إلى جارتها ثم أضافت كأنها تعمل جاهدة على إقناع نفسها والتسليم بالأمر الواقع «هاد العام ما كاين صيف». علقت الجارة قائلة «إلا كان الوقت مزيان كل شي تيزيان» كأنها تمني النفس. المّاكن خدَّامَا تتاكل تنتصب مباشرة بعد باعة العلف خيمات قهاوي السوق. يعلن عنها ذلك العدد الكبير من «برارد آتاي» وهي تؤثث مداخلها. عبد الله يتحول «من السوق للسوق» إلى صاحب مقهى. في الأصل فلاح أو كما عبر عن ذلك حين قال «ولابد من شوية الحرث». حرث عبد الله هذا العام القمح. للأسف ضاعت «الزريعة». علاش؟ رد على الاستفهام «ما عنديش البهايم للتَّاكْلُو». يمتلك عبد الله قدرة كبيرة على التهكم من الذات. هو أيضا، يحول الأزمة التي يمر منها هو وباقي الفلاحين الصغار إلى موضوع للتنكيت والضحك. ضحك وقال كأنه يخاطب شخصا آخر «غادي تحصد الريح». وضع البراد على المجمر ل«يتشحَّر على خاطرو»، ثم استوى واقفا وأعلن «الصيف هاد العام آولدي في يد الله». نطق العبارة بنبرة تطغى عليه الجدية هذه المرة، بينما بائع عدة الشاي يتابع المشهد. شبَّه عبد القادر البهائم التي أطلقها الفلاحون على الحرث «الجايح» بآلات حصاد ذات أربع قوائم. قال الفلاح الذي يعمل في أرض سقوية «المّاكن خدامَا تتَّاكل». ضحك وكرر النطق بالعبارة على إيقاع الضحك. النكتة سلاح الفلاحين أيام الجفاف وشح السماء التي أغلقت أبواب رحمتها هذا الموسم الفلاحي. بوشعيب بائع عدة إعداد الشاي في قهاوي سوق اثنين سيدي اسماعيل. وقف خلف الطاولة التي تتوسطها قِطع «طوب السكر» وبعض «القوالب» وعلب الشاي بالإضافة إلى «قبطات النعناع والشيبة». وزن السكر والشاي وأضاف إليهما النعناع، سلم مكونات إعداد براد الشاي إلى الزبون، ثم قال «هاد التيجارَا غير من السوق للسوق»، وأردف مباشرة «فلاح وحارث هاد العام». «عندك شي بهايم؟». أجاب كأنه يحتج «البهايم كاينين وتيعدّبُو فينا»! «كيفاش تيعدبو فيك؟َ!». رد دون أن يتخلى صوته عن نبرة ذلك الاحتجاج «تنْصَيّْرُو عليهم».البهائم عبء كبير في موسم الجفاف. بوشعيب هو الآخر يئس من أمطار الرحمة، واتخذ في عامه التاسع والأربعين القرار المؤلم. أطلق البهائم على الزرع لتجعل منه مرعاها، أو كما عبر عن ذلك بلغته «راه حنا تنَّاكْلُو فيه». يتماهى مع بقراته وأغنامه. يصير هو وزوجته وأبناؤه السبعة تلك البهائم وهي ترعى الزرع الذي لم يكتمل في نموه. حال شح السماء دون نضج سنابله واصفرار حباتها الواعدة بالعطاء في انتظار موسم الحصاد. السوق تحت رحمة «الشُّوم» كما قالت المرأة المعتمرة ل«التَّرازَا» وهي تدعو رفيقها إلى الاحتماء بخيمة المقهى من أشعة الشمس. شمس يخال المرء أنها قريبة جدا من قنة رأسه! خاصة إذا كان عاريا مما يحميه من جمرها الحارق. سي محمد زميل بوشعيب في حرفته الأسبوعية. سي محمد هو الآخر فلاح وقهاوجي من السوق إلى السوق. رد على السؤال في تتثاقل «حارث هاد العام.. زرع وشعير». قال ثم ضرب كفا بكف لأكثر من مرتين، وابتسم ابتسامة مثقلة بكل معاني الإحساس بالمرارة، وأضاف بنبرة تمتزج فيها تلك المرارة بالسخرية أو التهكم من الذات «ما كاين والو.. والو». انتقل مباشرة إلى تفويض أمره إلى العلي القدير «منَّا لله.. يشوف من حالنا». عاد هو الآخر إلى مصير الحرث الذي صار مرعى ترعى فيه البقرات والأغنام والحصان «سارحين فيهم البهايم»، ثم بلور بدوره تلك «الفلسفة» التي يميل إليها الفلاحون ليستسيغوا الجفاف الذي حل بهم فقال «الله اللي بغى لينا». استرسل كأنه يناجي نفسه «كل شي زين.. بلادنا وحنا مَّاليها». الناس ما عندهم كَانَا حضر الناس إلى السوق الأسبوعي ولا رغبة لهم في التسوق. حضروا من باب العادة الأسبوعية. «ما كاين كَانَا» كما عبّر سي محمد عن ذلك واصفا الحالة النفسية للمتسوقين. الجفاف له حكمه الذي يفرض أجواءه على الفلاحين وذويهم. بائع «طايب وهاري» نشر أمامه كومة كبيرة من الفول وكذا الحمص المسلوقين، في انتظار زبائن «الباروك». شبه سي محمد يوم السوق الأسبوعي بالعيد. «الناس تيْعَيْدُو من اثنين لاثنين». هذا الإثنين للأسف الشديد ليس يوم عيد. قال جاره في دوار ولاد عتو وهو يرتشف من كأس الشاي «ها انت تتشوف السوق خاوي». تتطوع سي محمد ليقدم التوضيح المطلوب «فيه غير الحريْفِيَّا». أضاف «الله يحسن لعوان»، ثم انطلق في سرد الحالات التي لا ستثني نفسه منها «كاين اللي مشى على خيْشَا ديال النخالا خادْها ومشى.. كاين اللي خدا بالا ديال التبن شراها ومشى.. آش يبقى يدير والوقت عيانا؟!». البهائم لها الأسبقية «لوليدات يبقاوْ بلاش»! قال سي محمد ثم أردف «اللهمَّ يعطي للبهايم.. الوليدات يصبرو»! مدد الفقيه رجليه على الحصير ثم انحنى وأمسك بأصابع قدمه كأنه يقاوم تشنجا أصابها قبل أن ينطق بعبارته «الناس مضرورين». ترك أصابع قدمه وأضاف «بنادم مكدر.. طايح عليهم الضيم». تساءل «آش يصرفو؟!»، ثم عاد ليعزز الحالات التي انطلق جاره في جردها «كاين اللي جا للسوق دار ومشى.. كاين اللي ما مشاش مسكين كاع». سكت عن الكلام لثوان. ارتشف من كأس الشاي ثم تساءل «آش غادي يصرف؟! الحليب ما كاينش.. الخرفان اللي مولّف يبيع منهم ما كاينينش.. منين يصرف؟! ما شاء الله». بقرة.. بستَّ وعشرين ألف ريال! ضرب سي محمد موعدا مع زوجته لتنتظره في خيمة بائع «المانطات» والوسائد و«البونجات». هذا التاجر «تيدّي الخير». وضع خابية ماء في مدخل «متجره» رهن إشارة المتسوقين في هذا اليوم الحار. انتبهت البنت وهي تمر من المكان إلى إناء الماء والغراف. مسحت حبات العرق عن جبينها الندي، ثم توجهت إلى سي محمد بطلبها الغالي «اعطيني شريبة الما». أطفأت عطشها ثم قالت بعد واجب الشكر والترحم على الوالدين «يا لطيف.. الصيف جا قبل من الوقت». غنُّو امرأة طيبة وبسيطة كأغلب النساء القرويات. تحمل هّم ابنها المراهق الذي ترك في عامه الخامس عشر زاوية سيدي اسماعيل، ويرفض العودة من أكادير «حيت كاين الجفاف». نطقت بالجملة، نظرت إلى الشاب المهاجر من جنوب الصحراء الكبرى الذي وصل بسلعته إلى سوق اثنين سيدي اسماعيل. يحمل عينة منها عارضا إياها على أنظار الناس، بينما البقية على «الصاكاضو» خلف ظهره. أمر لا يٌصَدّق. باع سي محمد السوق الماضي إحدى بقراته الأربع ب«ستَّ وعشرين ألف ريال»! انفعل وهو يسعى إلى رفع علامة التعجب والتأكيد على مبلغ البيع البقرة في موسم الجفاف «صافي كلت ليك ستَّ وعشرين هي بعتها بستَّ وعشرين». لو كان الموسم خصبا و«كايْنَا الصَّابَا»، كان هذا الفلاح سيبيع بقرته على الأقل ب«ميَا وربعين ألف ريال». له أسبابه التي تدعوه إلى التخلص من البهيمة وقبول هذه الخسارة. تتطلب منه تلك البقرة ميزانية لا تقل عن مائتَيْ درهم كل عشرة أيام، إن هو أراد أن يحافظ عليها «أوهي عاطْيا المنظر». تساءل كأنه يتوجه بالسؤال إلى شخص آخر «آش من رباح عندك انتايَا؟!». أحسن حل هو التخلص منها قبل فوات الأوان «اللهمَّ نبيعها باش ما كان ونتهنّى من صداعها». سعيد فقيه دوار ولاد عتّو، محظوظ، ولم يخسر ما خسره جاره سي محمد. باع إحدى بقريته بستة آلاف درهم. قاد البقرة الأسبوع الماضي إلى السوق وقد قر قراره على بيعها بأقل خسارة ممكنة لأن «العلف غالي والربيع ما كاينش». ابتسم وقال حامدا «الحمد لله طاح تمانْها غير بتمانين ألف ريال»! جمال زايد ت: وراق