كيف يعيش الناس مجريات حياتهم اليومية أثناء موسم البرد وتساقط الثلوج بقرى الأطلس المتوسط؟ كيف يقضون نهاراتهم محاصرين بالثلوج؟ هذه مجموعة من المشاهد واللحظات الإنسانية بمنطقة بقريت بإقليم إفران قيادة عين اللوح. «مين تيطيح التلج وتتسد الطريق تنعيطو على المقدم ولا الشيخ». قال ادريس، وتدخل حسن في الدردشة ليضيف معززا ما أدلى به شقيقه «هما تيتصلو بالقايد». يتصل المقدم أو الشيخ بالقائد، ويخبرانه بأن الطريق إلى بقريت قد أغلقها الثلج، وأن السكان يطالبون بالتدخل لفتحها ورفع الحصار عنهم. تخبر السلطات المحلية مصلحة الأشغال العمومية، أو «ترابوبليك» كما سماها حسن، فتحضر «ماكينة الثلج» لترفع الحصار عن الدوار الواقع بجماعة سيدي المخفي التي يقول عنها حسن «الجماعة ف الظن ديالي ما تتكساب حتى الغراف لتشرب بيه كاس الما». تأمل ادريس أوحمو ابنته هدى وهي منهمكة في تنظيف عتبة باب البيت. ابتسم ثم رد على السؤال قائلا «تنفيقو مع الخمسة الصباح». أفراد أسرة ادريس وحسن أوحمو يتحركون في الفضاء المحيط بالبيوت كخلية نحل تحت إشراف جبل تيشوت أبرشان وقد صار مرتفعا ناصع البياض. لارض عيانا وخاصها لقوام الدجاجات تُنَقِب عن رزقها في محيط البيت هذا الصباح، بعد أن ضاق الحيز وكسا الثلج الأرض ناشرا بساطه الأبيض على المكان. أسعفتها بشرى ب«اللقط»، ثم التحقت بجدتها لتعينها في نقل الأسمدة إلى حقل التفاح. الزوجات يشرفن علي مغادرة الأغنام للزريبة الواقعة خلف البيت. حدوم ترفض الارتكان إلى الخمول. تدخلت الطفلة وقدمت يد العون وهي تحاصر النعجات الشاردة وتردها إلى القطيع. انسحبت بعد ذلك في اتجاه جذع الشجرة. حملت الشاقور وانطلقت في استخلاص حطب الفرن على شكل أجزاء صغيرة. علق ادريس على ما تقوم به الطفلة «هاد العود الصغير هو اللي تنطيبو بيه الخبز». انتهت حدوم من مهمتها. حل محلها عمها، محمد أوحمو، وانطلق في تجزيء الجذع إلى أجزاء محترمة الحجم. محمد لا يرحم الجذع كأنه يصفي حسابا عالقا معه. حدوم لا تعلم المدة التي سيقاوم فيها الثلج ذوبانه. أنقذها ادريس من الإحراج وناب عنها قائلا «يقدر يبقى شهرين وماشي بعيد يتزاد عليه تلج جديد». سيستمر الثلج في فرض سلطانه على الدوار إلى بحر شهر مارس. سيذوب وترتفع درجة حرارة الأرض، وتنبت البذور التي بذرها الفلاحون. ستنبت رغم أن الثلج يغطيها الآن. قال ادريس «حارثين هاد العام شوية ديال الشعير والكمح والخرطال»، ثم أردف ممتعضا «لارض ماشي ديال الحرث». علاش؟ رد موضحا «ما تتعطيش مزيان». توقف محمد عن توجيه ضربات الشاقور إلى جذع الشجرة. تدخل في مجريات الحديث وأعلن قائلا وهو يضع قدمه على الجذع «لارض عيانَا.. بارْدَا والتراب ديالها عيان». لم يغفل محمد أوحمو عن الوقوف عند ضيق المساحات المحروثة «الواحد عندو جوج كتارات.. ماشي بزاف»، والاستنزاف المستمر للأرض، ما يفقدها خصوبتها، أو كما عبر عن ذلك قائلا «تيحرثها كل عام وما تيبدلش الحرث». حك الفلاح الشاب جبينه ثم قال «لارض عيات وخاصها بزاف ديال القوام». يقصد الأسمدة لإنعاش خصوبتها ومقاومة الانخفاض الشديد لدرجات الحرارة. يعترف محمد أوحمو أنه يعاني كلما أراد التحدث بالعربية. تخونه الكلمات ولا يسعفه معجمه العربي على التعبير بطلاقة. أشجار التفاح العارية من وريقاتها «ما زال ما غاديش تعطي». قال ادريس ثم أردف كاشفا عن السبب «يالاه عندها ربع سنين». لن يذوقوا من ثمارها في القريب العاجل. عليهم أن ينتظروا إلى أن تبلغ عامها السادس. المهم أن وريقاتها ستبدأ في الإعلان وجودها الأخضرانطلاقا من شهر مارس. حبل الغسيل يستفيد من انعكاس أشعة الشمس الصباحية على جدار البيت، بينما الملابس الأخرى قد نُشرت على السياج المشكل من أغصان الأشجار اليابسة في انتظار تحولها إلى وقود. مباشرة انتصب البناء المخصص للفرن الطيني على شكل «عشَّا» تحميه من الثلوج المتساقطة. أعلن ادريس موضحا «الفران تنصوبوه غير بالتراب لبيض ولا لحمر». حبل الغسيل مرة أخرى على مقربة من الفرن. الثلج كائن عجيب، يستغل قطع الخشب ليحتمي بها ويؤجل ذوبانه. إذا لم يسقط المطر ستطول مدة مقاومته للذوبان إلى ينصرم فصل الشتاء وترتفع درجة الحرارة. بشرى وهدى لا تتنازلان عن حقهما الطبيعي في اللعب. تستغلان أدنى فرصة لترتجلا لحظة فرح طفولي. تضحكان وتمرحان على مقربة من الفرن الطيني وحبل الغسيل. رحلة شاقة في اتجاه الربوة «هاد الصباح كاينين غير الحمير». قال ادريس أثناء الصعود في اتجاه الربوة، ثم أردف وقد وضع يديه في جيبي سرواله «البغال مشاوْ للغابة». قاد البغال «واحد الدرِّي من عندنا» في اتجاه الغابة على الساعة السادسة صباحا. «غادي يوصل عليه حسن» ليعودا بها مساء محملة بالحطب. كل بغل من البغال الثلاثة يحمل قنطارا ونصف القنطار من الحطب. مؤونة ثلاثة أيام أو أربعة أيام على أكبر تقدير. عند بداية حقل أشجار التفاح قال محمد أوحمو «العود اليابس ما بقاش ف الغابَا». عندما ترتفع درجة الحرارة ينطلق الناس في تجميع الحطب استعدادا لاستقبال الشهرين الأولين من موسم برد جديد. «بيبي» لا يتوقف عن إصدار ذلك الصوت الخاص به. الطريق المتربة انتقلت إليها عدوى الثلوج التي تغطي المكان، وتجمدت فعلا كأنها صارت قطعة من جليد. السير يتطلب المزيد من الحيطة والحذر. وضع القدمين في الموقع المناسب فعل حاسم في التقدم خطوة أخرى على الأرضية المتجمدة. في الجهة الأخرى من الربوة، نبتت مجموعة من البيوت. الثلج يحيط بالدور البسيطة، ثم الدجاج وبيبي والجراء. مشهد أقرب إلى لوحة فينة. خرير المياه صوت أخّاذ يعلن عن مجرى مائي قريب. الوصول إلى تلك البيوت يقتضي تجاوز «القناطر» المرتجَلة على «الواد الصغير» (آسيف آمزيان). استعمال قطع الخشب أو أو جذوع الشجر المربوطة بالأسلاك فرصة للسخرية والتهكم «هاد القنطْرا دارْها الرئيس ديال الجماعة»! قال ادريس قبل أن يضيف «عندنا حنا ثلاثة القنطرات». الغطاء النباتي ينقذ مستعمل القناطر البدائية عندما يفقد توازنه ولا يجد أمامه سوى العيدان ليمسك بها حتى لا يهوى ساقطا في اتجاه المجرى الضاربة مياهه في البرودة. الثلج تطرف في طغيانه على هذه الجهة من بقريت. بعض الممرات موحلة وتناثرت عليها بقع ثلجية كأنها قطع قطنية متجمدة، ويتطلب استعمالها الكثير من الاحتراس للحفاظ على التوازن عند انطلاق كل خطوة حتى تكتمل دون مفاجآت غير سارة. قطع الثلج تقاوم رافضة الذوبان على الرغم من كثرة استعمال الممر وذلك الكم الهائل من آثار الخطوات. ينتج عن التقاء القدم بها ذلك الصوت القريب إلى أثر الارتطام بشيء صلب. تطوع ادريس ليوضح أن بقايا الثلج المتاسقط لن تذوب إلا إذا عرفت المنطقة تساقطات مطرية مهمة. المطر عدو الثلج. انتبه الكلب إلى العناصر الغريبة فانطلق في النباح. نهره محمد أوحمو فابتعد المسافة الكافية وأطلق العنان للنباح رافضا التنازل عن واجب القيام بالمهمة المنوطة به. غادرت النساء البيوت يدفعهن الفضول لاستقبال الوافدين. الفرن الطيني هذه المرة انتصب في العراء مباشرة. تحيط به الأعمدة كأنها مضارب خيمة نزعت الريح ثوبها. الثلوج تطغى على محيط الفرن وتكسوها تقريبا ببياضها الناصع كأنها تتحدى نارَه. تطوع رفع الغطاء المعدني عن الفوهة وأعلن قائلا «هادا هو الفران فين تنطيْبُو المعيشَا». حمل قضيبا حديديا كان موضوعا إلى جانب البناء الطيني واستعمله كأنه يرتب قطع الجمر وقال «هادا تنصوبو بيه العافيا والخبز». ينقصه فقط الاستعانة ب«اللوح» (الطرَّاح) لتكتمل عملية إعداد تلك الخبزات كبيرة الحجم. ارتطام الأقدام بالسطح الثلجي يخلف دائما ذلك الصوت الخاص. السير على الثلج إحساس آخر بوقْع القدمين حين التقائهما بهذا السطح الاستثنائي. رغم طول المسافة الفاصلة بينهم، يتبادلون الأحاديث بالأمازيغية المحلية. يرفعون الصوت. عم ادريس أوحمو يستعين بعكازه وهو يقود خطى طفلين يرافقانه في رحلة عودته إلى بيته. إنه أوحمو محمد بجلبابه الصوفي «القهوي» ذي الخطوط البيضاء. كبير أسرة أوحمو بعد رحيل شقيقيه إلى دار البقاء. «عندو شي سبعين سنة» قال ادريس بينما انشغل شقيقه محمد بتخليص حذائه من الثلج العالق به كأنه يتخلص من بقايا الوحل. قال «هادا ماشي تلج.. قليل بزاف»، ثم تذكر العام ما قبل الماضي الذي أغلقت فيه الثلوج المتطرفة في تساقطها الطريق إلى البقرية شهرين كاملين. بيبي احسن من الدجاج المنطقة معروفة بتربية «بيبي». هذا الطائر الداجن «تيبغي البرد» أوضح ادريس، وتدخل شقيقه محمد ليغني الموضوع فقال «ما تيمرضش لا ف البرد ولا ف الصيف». على العكس من الدجاج الذي يصير هشا كلما ارتفعت درجات الحرارة. لحوم بيبي تتميز بالجودة طيلة الموسم البارد خاصة «النتْوات»، ويُقْبِل الناس على استهلاكها مفضلين إياها على لحوم الدجاج. ما يهم محمد أوحمو أن «بيبيات تتكون فيهم الشحْمَا بزاف». ابتسم، بل أطلق ضحكة مدوية وتلمظ ثم أردف «ف البرد خاصنا الشحما». في فصل الصيف تفقد لحوم بيبي جاذبيتها ولا تثير الشهية «ما دبحوش واخا يكون تيموت»! علاش؟ «لحمو تيزراك وتيبْسالْ مين تيسخن الحال». المدخنة تنفث دخان ما احترق من حطب في الفورنو. العجول كأنها ترعى في الثلج. تدخل ادريس ليرفع الالتباس «الربيع ما كاينش.. تنعطيوهم العلف»، وأردف مباشرة «حتى للصيف عادا يطلع الربيع». ضحك وأضاف «ف الصيف هاداك العجل غادي يولي ثور تبارك الله». صعد محمد أوحمو فوق ركام الأعواد وانهمك في تصفيف أجزاء الحطب وترتيبها ليسهل استعمالها. نظر إلى الركام ثم علق قائلا «تكون هنا واحد رَبْعَ طن». اقتعد ادريس أوحمو الأرض المتجمدة. لحظة للاستراحة والاستفادة من أشعة الشمس على مقربة من الساقية، ثم أعلن «واخا بارْدا ومجمْدا تنريحو عليها». وضع يده على الأرض المتجمدة كأنه يجس مدى برودتها وأردف «ولفناها حيت كبرنا فيها». لا ينكر أن المداومة على هذا السلوك يؤدي مع التقدم في السن إلى الإصابة بالأمراض «تتجمع البرودَا ديال عمر كامل.. تتمرض بالروماتيزم». يستثمر الفلاحون المدة التي يغطي فيها الثلوج الحقول والمراعي لاسترجاع الأنفاس. عطلتهم التي ترغمهم الثلوج على الاستفادة منها. يعاني الفلاحون المياومون من ندرة فرص العمل في هذه المرحلة من كل عام. تذوب الثلوج وتتحرر الأرض من قيدها، فيعود الفلاحون إلى أعمالهم اليومية. تزدهر سوق العمل في فصل الصيف باعتباره موسم الحصاد والدراس وجني الخضر. خدمات القرب «ما شفنا لا الضو لا الطريق لا والو». قال الفلاح الذي يلقبه أقاربه ب«المقدم». لم تنفع المسيرة التي نظموها في اتجاه مكناس. لم يلتقوا بالوالي. كان غائبا في مهمة. استقبلهم من ينوب عنه، وكانت الوعود فقط. بعد أسبوعين ستنطلق الأشغال لشق الطريق وتزويد المنطقة بالكهرباء. إلى يومه هذا ما زال الوضع على ما كان عليه، وما زال الناس ينتظرون خدمات القرب «خاص كل شي يكون هنا.. خاصنا الضو والطريق والماكينا ديال التلج والسبيطارات وطبيب وطبيبة يكونو هنا». سيارة الإسعاف وحدها لا تكفي. عندما تنغلق الطريق تصير سيارة الإسعاف غير ذات فائدة. ضحك وقال بعد أن سوى طاقيته الزرقاء على رأسه «خاصنا ليكوبتير»! أما الانتفاع من حطب الغابة فيوازي الحق في الحياة «إلا ما كاينينش العواد غادي نموتو»، أو «يعطيوْنا بلاصا خرى نعيشو فيها»! شرب مباشرة من «الغراف الكبير»، ثم قال موضحا «هاد الما دابا إلا ما خلطناهش مع السخون ما نقدروش نشربوه». ذكور الأسرة يتحلقون حول صينية الشاي. أنشد حسن أوحمو قصيدة غناها الراحل محمد رويشة حول فلسطين. اعتذر عن ترجمتها «واعرا نترجمها». يعتبر الراحل مدرسة مغربية لأنه «غنى بالعربيا والشلحا.. ما تخلى على حتى شي وحدا فيهم.. الله يرحمو مسكين. الحادية عشر صباحا. انتهى حسن من تناول ما تيسر من الخبز والزيت والبيض المقلي. ارتشف من كأس الشاي، ثم انسحب في اتجاه الغابة حيث سيجمع «العود اليابس» لتستعمله الأسرة حطبا للتدفئة، لأن الفورنو الجشع دائما في الانتظار. جمال زايد