بيوت بسيطة وناس طيبون ومضيافون رغم أنف «أصميد» و«التلْجَا» يسقط الثلج على بقريت، تنقطع الطريق. يسقط الثلج على بقريت، تتعطل الدراسة. يسقط الثلج على بقريت، تتوقف الحياة. يسقط الثلج على بقريت، يستيقظ حسن أوحمو كما هي عادته، على الساعة الخامسة صباحا. يريد فتح الباب فيفاجأ بالحاجز الثلجي وقد انتصب بينه وبين العالم الخارجي. إنه الحصار. سيعيش هو وأفراد أسرته العشرون العزلة لأيام. قد تتجاوز المدة أحيانا أسبوعا كاملا. بل يمكن أن تعيش المنطقة طيلة شهر في عزلة تامة عما سواها من أقاليم المغرب. «شوف النيَّا.. كنت باغي نكول ليك.. سولني “كي تدّيرُو مين تبغيوْ تعُومُو ف البرد والتلْجَا تتطيح؟!”». شحت الكلمات العربية. خانته وهو يسعى جاهدا إلى وصف المعاناة أثناء الاستحمام. «صعيب.. صعيب». اكتفى بتكرار الكلمة. تدخلت الوالدة، رابحة. تحدثت بالأمازيغية. تصر على أن تدلي بدلوها في موضوع الاستحمام. موضوع يعنيها. لايهمها أن المستمع لا يفقه في الأمازيغية. تتحدث بنبرة أقرب إلى الاحتجاج والشكوى. ترجم عنها «ما تنلبسو حوايجنا حتى تنيبْسُو بالسمْرَا». يسحبون جميع الأفرشة من المطبخ. يُحْكِمون إغلاق النافذة والباب. يضاعفون من كمية الخشب في «الفورنو». ينقسمون إلى فريقين. فريق الذكور وفريق الإناث. يستحم أفراد الفريق الأول. ينسحبون في اتجاه مطبخ الدار الثانية بحثا عن فرصة للدفء على مقربة من نار «الفورنو». يلتحق الفريق الثاني بمطبخ الدار الأولى وقد تحول إلى حمام، ليفوز بنصيبه من النظافة الاضطرارية. يتسع الفاصل الزمني بين الاستحمام والاستحمام، أو كما عبر حسن عن ذلك قائلا «الواحد يدير بالناقص من العومان.. احسن ليه يبقى لابس حوايجو». سلطان الثلج ينطلق الثلج في فرض سلطانه على الساعة الثانية صباحا. لا يتوقف عن التساقط. يستمر في التراكم على حيطان المطبخ والناس نيام. يرتفع سمكه إلى الحد الذي يغطي الباب والجدار فالسطح. يغيب الباب. يصير قطعة ثلج جامدة. «الباب ما تيتحلش على برَّا». ينفتح الباب على الداخل. حكمة استخلصها حسن أوحمو من خبرة أجداده، أهل الأطلس المتوسط، ومن تراكم تجاربهم مع الثلوج. إذا أغلق الثلج الباب لا يمكن فتحه على الخارج. على المقيمين في البيت أن ينتظروا إلى أن يذوب الثلج من تلقاء ذاته. يتسلح حسن قبل أن يغلق باب الدار ب«البالا» والشاقور. يستيقظ صباحا، يريد فتح الباب فيفاجأ بجدار من الثلج يقف حاجزا بينه وبين مغادرة الدار. ما العمل؟ عليه أن يهدم الجدار الثلجي. كيف؟ هذا هو السؤال. يستحيل اختراق الجدار الثلجي مباشرة. هناك تلك التقنية العملية التي يلخصها حسن في عبارة «تتحفر غار.. عادا باش نطلع الفوق ونبدا نريب ف الثلج». لم ينسَ حسن ما وقع في ليلة من ليالي 2010. ليلة استثنائية. فجأة انطلق الثلج في التساقط. تطرفت الثلوج في التساقط تلك الليلة. انتبه من نومه قبل السادسة صباحا. ظن أن الثلج لم يسقط، وإذا سقط فلن يتجاوز حدود العادي المألوف. خاب ظنه. المشكلة أنه لم يتسلح بأدوات الحفر. «ما معولينش يطيح الثلج». استعان بما توفر من أدوات بسيطة، وذاق المر قبل أن ينجح في مغادرة البيت. الحطب مادة حيوية قال اسماعيل «نحن الآن في إقليمإفران.. على الحدود مع إقليمخنيفرة وتونفيت التي أسقط فيها البرد ضحاياه من الأطفال»، ثم أردف موضحا أن بقريت دوار تابع لجماعة عين اللوح القروية، وينقسم إلى البقرية وسلوان وأكدال. بيوت بسيطة مشيدة بالحجر أو الطوب، تناثرت في الفضاء الشاسع المكسو ببياض الثلج. انتصب مستودع الخشب والفحم في مدخل الدوار. العشية واعدة بأصميد. امتطى البغل الأول بينما البغل الثاني محمل بقطع الخشب. تدخل اسماعيل موضحا أن الرجل تزود من المستودع بحطب التدفئة، خاصة وأن «الفورنو» النهم في الانتظار. أرسل تحية عن بعد إلى ابن دواره وهو يتحكم في المحراث ويقود خطى «الزوجا». في المشهد الخلفي، نبت البيت وإلى جانبه مخزن الخشب، وقود التدفئة. علق اسماعيل على المشهد قائلا «الحطب ضروري.. يخصصون له جناحا خاصا»، ثم استرسل موضحا أن «العود» مادة ترتبط بها القدرة على الاستمرار في الحياة طيلة فصلي الخريف والشتاء. بعد «سونتر» بقريت، في اتجاه الطريق المتربة إلى أكدال، انتصب بيت حسن أوحمو. مجموعة غرف موزعة على المكان. أوقسو منهمك في إصلاح عطب التراكتور الذي يشتغل عليه مياوما. ترك الفلاح مهمته التي «يسترزق» منها، وتطوع للرد على سؤال «كي دايرين مع البرد والثلج؟». أجاب من الموقع الذي يعنيه ويكتوي به هو وأهل الدوار «ليكارد فوريستيي تيقهرونا»، ثم أضاف «شفتي العود ف البوست؟». يقصد الخشب المحجوز في سيدي عدي، لزن الحرس الغابوي يمنع سكان المنطقة من الاستفادة من الحطب. يمنح ظهير 1917 للسكان الحق في الانتفاع من الغابة وجمع الحطب، على شرط ألا يصيبوا أشجارها بالضرر. ما العمل وبقريت غير لائقة للسكن طيلة فصل الخريف والشتاء؟ «هانتوما تتشوفو القهْرَا ديال البرد». قال أوقسو، ثم استفهم محدثه «واش كاين البرد ولا ما كاينش؟!». الرد الوحيد «ماشي البرد.. هادار راه السم». تدور رحى الكر والفر بين السكان والحرس والغابوي. لا مفر لأهل بقريت من تدبر أمر الحطب والتزويد اليومي للفورنوات من أجل القدرة على مقاومة البرد. قال حسن «آجي تشوف العواد باش غادي ندوزو الشتا». كمية أكيد أنها لن تكفي فورنو الأسرة الذي لا يتوقف عن حرق الحطب. أشار إلى لوحة الطاقة الشمسية التي تعلو سطح البيت. زودت بها سكان الدوار شركة لا داعي إلى ذكر اسمها، مقابل مبلغ 65 درهما في الشهر. مشكلة حسن أنه لن يستفيد منها إلا مع اقتراب حلول فصل الصيف أو في النهارات المشمسة. تشتغل اللوحة في ساعات النهار عندما تنجح أشعة الشمس في اختراق حاجز السحب والغمام، زيادة على أن الشركة لم تزود السكان ببطاريات تخزين الطاقة ليستفيدوا منها بعد غروب الشمس. عاد حسن إلى مخزون الأسرة من الحطب «ها انتا.. ها العود». سبقته رائحة احتراق الخشب في الإعلان عن الموقد، لكن مع ذلك لابد من معاينة الجهاز الحيوي «ها الفورنو.. خدام بالعود». «جعبة ديال الدخان» تصعد في اتجاه السقف القزديري لتتحول إلى مدخنة بارزة على السطح. فضاء المطبخ مضاء بالفتيلة التي تعلو قنينة الغاز. قال «شوف آحبيبي.. دايرين لينا الطاقة الشمسية وتنضوِّيوْ بالبوطا»! بينما الوالدة تتحدث بالأمازيغية وهي تبحث عن فرصة لتدفئة يديها رفقة أحفادها وحفيداتها. «بغينا الضو». قال حسن، ثم أردف بنبرة امتزج فيها الاحتجاج بالشكوى «حنا ضعنا وولادنا غادي يضيعو حتى هما». عادت الزوجات من المرعى يقدن قطيع الغنم. تحلق أفراد الأسرة حول نار الموقد. تعلو سطح الفورنو «كوكوت» إعداد وجبة العشاء على نار هادئة. أضافت الزوجة الشابة «المقراش» إلى الكوكوت استعدادا لإعداد براد الشاي. سبق حسن طرح السؤال وتطوع موضحا «تنسخْنو بيه ونطيبو بيه». عاد مباشرة إلى الموضوع الذي يقض مضجعه «الفوريستيي قهرونا». الحطب مادة حاسمة في توفير شروط القدرة على الاستمرار في الحياة. تنزل درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر. إذن «خاصك الفورنو ليل ونهار». أعلن حسن كأنه يحتج على الفورنو الجشع «ما خاصش العافيا تطفا». علاش؟ «حيت تتقتلنا السمْرَا». تصل كمية الحطب المستهلك إلى مائة كيلوغرام في اليوم الواحد، موزعة بين الموقدين الاثنين والفرن. تتجسد مشكلة حسن في غلاء ثمن الحطب «16 ألف ريال للطن». كم من طن ستحتاج الأسرة طيلة موسم البرد والتساقطات الثلجية؟ وحده الفورنو يملك القدرة على الإجابة عن هذا السؤال. وقفت الجدة، الحديوي رابحة، وانطلقت تتأمل أفراد أسرتها الكبيرة وقد تجمعوا في المطبخ والغرفة التي ينفتح عليها مباشرة. استثمر مبارك أوحمو الحرارة المنبعثة من «الكوكوط»، وضع يديه على غطاء الطنجرة ليسري المزيد من الدفء في أوصاله. أعلن اليافع الذي انقطع مؤخرا عن الدراسة «إلا جيتي دّير بزاف الفورنوات خاصك الفلوس بزاف». ولأن التلفزة لا تشتغل ليلا بسبب انعدام الطاقة الكهربائية، يجاور مبارك الفورنو إلى حدود الحادية عشر ليلا، ثم ينسحب في اتجاه غرفته الواقعة في الجانب الآخر خلف البناية الأمامية. «تنمشي للبيت وتنتغطى مزيان». يستيقظ في الصباح الباكر، ويلتحق بالفورنو في انتظار وجبة الفطور رفقة باقي أفراد الأسرة، ثم يغادر كل واحد للقيام بالمهمة التي تنتظره في الحقل والمرعى أو الغابة. يتداول أفراد أسرة الحديوي رابحة النوادر حول مبارك، هذا العازب الذي حطم رقما قياسيا في عدد الذعائر التي يسجلها الحرس الغابوي في حقه كلما ضبطوه متلبسا بجمع الحطب من الغابة. العزلة القاتلة هاجس حسن أوحمو اسمه «الطريق إلى تيمحضيت». يسقط الثلج، تنقطع الطريق إلى أقرب نقطة من بقريت التي تبعد عنها بأكثر من ثلاثين كيلومترا. قد تستمر العزلة العملية شهرين كاملين. نزول «الباريير» وإعلان الطريق إلى بقريت طريقا مغلقة، يعني لدى هذا الفلاح الطيب «شحال من مرَا حامْلا تتموت». يفرض الثلج الحصار على الدوار فيستغل التجار الظرف ويرفعون من أثمنة المواد الغذائية «الحوانت تيزيدو علينا ف التمان». تنفتح الطريق. يُرْفَع الحصار عن الدوار، ويسافر حسن إلى تيمحضيت فيفاجأ بالفرق الكبير في أثمنة المواد الغذائية. أحيانا يصل الفرق إلى أكثر من خمسة دراهم. «ماشي معقول». ما يهم الريباني أوقسو، شقيق شيخ دوار بقريت، أن الإدارة بعيدة جدا. القائد يستقر في مركز عين اللوح البعيد عن البقرية بمائة كيلومتر. قال الريباني «الله يرحم ليك الوالدين.. إلا بغيتي تجيب عقد الازدياد خاصك تمشي حتى لعين اللوح». تلقف حسن أوحمو الشكوى من الريباني أوقسو. زاد من بلورة حدتها «حنا مشغولين باللي تابعنا.. ما عندناش الوقت». ما يهم حسن هو تقريب الإدارة من السكان «خاصهم يقربو لينا الوثائق». الريباني واضح في صياغة مطلبه «اللي ما شبعانش ف كرشو ما عندوش الوقت يضيعو.. ما يقدرش يمشي لعين اللوح». الريباني فلاح مياوم، إذا لم يعمل فلن يجد ما يأكل أو كما عبر عن ذلك قائلا «خاصو يخدم باش يصور المعيشا». حسن أوحمو يعتز بجرأته. زار العامل الجديد المنطقة فتوجه إليه قائلا «حشوما ندخلوك تشوف الكرنا». علاش؟! الإثنين يوم انعقاد سوق بقريت. ينسحب الجزار وتحل محله الكلاب تسبقها ألسنتها، لتنطلق في لحس لوحة الخشب التي يستعملها في تقطيع اللحم. فعل ينتج عنه مرض «ليكيست» الذي تنقله الكلاب إلى الآدميين. انزوت الحديوي رابحة في الركن الآخر من المطبخ. أشار الحسين أوحمو إلى الخزانة الحائطية التي ضمت أواني الطبخ، ثم أعلن «راهم المواعن»، كأن الطفل استشعر الحاجة إلى تحديد هوية المرفق الذي تحلق فيه أفراد الأسرة حول نار الفورنو. يشرف جبل تيشوت تبرشانت على المطبخ وغرفة النوم التي يؤدي إليها. في الجهة الأخرى، تقابل هذه البناية ثلاثة غرف ومطبخ يتوسطه «فورنو» ثان دائم الاشتعال بطبيعة الحال. زيادة على غرفة مستقلة، يقيم فيها مبارك أوحمو بعد أن عاد من داخلية تيمحضيت. للأسف لا تتوفر على «فورنو» خاص بها. قال مبارك وهو يقترب أكثر من الفورنو كأنه يسعى إلى الالتحام به «تنبقى نسخن هنا عادا نمشي ننعس»، بينما الزوجة الشابة منشغلة بتقطيع الخشب إلى أجزاء صغيرة. تتكون أسرة الحديوي رابحة من سبعة أبناء. ستة منهم تزوجوا وأنجبوا. ارتفع العدد إلى 21 فردا. اجتمعوا هذه الليلة الباردة حول نار المدفأة وانطلقوا يدردشون حول أمور الفلاحة وبيع البطاطس التي ينتجونها. بقريت «مقطوعة» أصلا «من» شبكة المواصلات. إنها معضلة النقل. وحدهم «الخطافا» يوفرون فرصة غير قانونية لربط أهل بقريت بباقي المناطق المحيطة بهم. يسميهم حسن أوحمو «الخطافا ديال البلاد». يُمنعون من ممارسة نشاطهم في غياب توفير البديل القانوني. قال ادريس أوحمو «الخطاف هو اللي تيغيثنا»! ترتفع علامة التعجب عن كلام شقيق حسن حين يعلم المرء أن سيارة الإسعاف «خاصها تجي من آزرو». استرسل ادريس موضحا حجم المعضلة «ما كاينش الطبيب والفرمليا تقدر تجي مرَّا وحْدَا ف الصيمانا». ماذا سيفعل الريباني عندما تلسعه عقرب في الحقل أو الغابة؟ الخطاف ينقذه. ماذا سيفعل حسن إذا تعرض لحادث أثناء الحرث في الجبل أو جمع الحطب من هوامش الغابة؟ لن ينتظر وصول سيارة الإسعاف لأنها أكيد لن تصل. إذن سيلجأ إلى خدمات الخطافة. تطوع الريباني كاشفا عن الإصابات التي لحقت بيديه أثناء العمل، ثم أعلن قائلا «شوف يدي وصباعي.. كاع مجروحين». تتميز المنطقة بالتساقطات الثلجية أو كما يعبر الريباني عن ذلك «حنا تيطيح عندنا غير الثلج». تنضاف «السمْرَا» إلى الثلج فيتحول إلى «زجاج». تكثر بالتالي احتمالات وقوع الحوادث غير السارة «الناس تيزلقو ويتهرسو وما كاينش سبيطار». مرة أخرى «شكون اللي غادي يعتقنا؟». «الخطاف اللي تيعتقنا». «ماكينة الثلج» مطلب حسن أوحمو. على المسؤولين أن يزودوا الدوار بكاسحة الثلوج، لتكون رهن إشارتهم كلما اقتضى الأمر اللجوء إلى خدماتها لفك الحصار عن السكان. لم تُجدِ المسيرات نفعا. انطلقوا في مسيرة من بقريت إلى مكناس على متن السيارات. عادوا منها إلى بقريت بخفي حنين. حسن أوحمو.. فنان تشكيلي من بقريت «أقرأ الفرنسية وأكتب بها الشعر وما عمري شفت المدرسة بعينيَّا»! كان حسن أوحمو المزداد عام 1976 يرعى الغنم في سنوات طفولته ومراهقته. كلما حلت العطلة الصيفية، يأتي أبناء أقاربه الذين تركوا بقريت في اتجاه المدن المغربية وحتى الفرنسية. يرافقون قريبهم في اتجاه المراعي حيث يقضون رفقته ساعات النهار الطويلة. استفاد من رفقتهم في تعلم قراءة الفرنسية والكتابة بها. ابتسم بعفوية أهل الأطلس المتوسط بعد أن نطق بعبارة «العربية.. لا». عاد إلى شرح الطريقة البيداغوجية الناجعة التي أسفعته على إتقان لغة موليير. كانت الأرض سبورته التي أنجز على صفحتها الطينية تمارينه الأولى في كتابة الحروف والتمرس على نطقها السليم. شطب حيزا من أرضية المطبخ، وانطلق سبابة يده اليمنى في التشخيص الملموس للمنهجية التي تعلم بها اللغة الفرنسية. حسن مزهو بإنجازه العظيم. لم يحتج إلى فرعية بقريت ولم يكابد ثلاجة القسم البرد الذي «يسكن في العظام». درس طيلة العطل الصيفية في الهواء الطلق. ضغط على حروف نطقه بعبارة «أنا فلاح». إنها نبرة الاعتزاز بهويته، ثم أردف مباشرة «وتنرسم». يفتخر بفطريته «فنان تشكيلي بلا قرايَا». كانت البداية انطلاقا من ذلك «النداء» الذي يوجهه إليه القلم. «تنشوف الستيلو والدفتر وتنلقى راسي تنرسم بلا ما نحس». ساهم الحصار الذي تفرضه الطبيعة، في التورط أكثر في فعل الرسم والتشكيل «مين تيكون الثلج بزاف تنرسم حدا الفورنو». شغل ذاكرة الفيديو بهاتفه المحمول، ثم قال «هادي الخيْمة». تأمل صورة لوحته ثم أعلن «أنا اللي رسمتها» دون أن تفارق نبرة الاعتزاز لسانه. انتقل شريط الفيديو إلى لوحة أخرى «هادي اللوحة ديال الفلاح.. تيحرث بالزوجا». ابتسم قبل أن يضيف «مخلي اللحْيَا» كأنه يتحدث عن ذاته عندما يعفي ذقنه من واجب الحلاقة. الفيديوهات والصور الفتوغرافية هي الأثر الوحيد المتبقي له من الأعمال التي أنجزها. أين ذهبت أصول اللوحات التي رسمها حسن؟ تتشكل الإجابة في صيغة حكاية تستحق المتابعة. اشترك أفراد الأسرة في سرد الوقائع. تراجع حسن وترك لأقاربه النيابة عنه في مهمة الكشف عن مصير لوحاته التي أنجزها في مرسمه الثلجي. مر سياح بلجيكيون من بقريت. التقوا بحسن المضياف كسائر أهل الدوار الأطلسي. دعاهم إلى بيته. دخلوا إلى المطبخ الذي يستعمله غرفة لاستقبال الضيوف. هناك فوجئوا بثلاث لوحات تشكيلية معلقة على الحيطان. أثارت الأعمال الفنيةانتباههم، ولم يخفوا أنها نالت إعجابهم. زادت حدة الإعجاب لما كشف حسن عن هوية الفنان الذي أبدعها. فلاح أمي من بقريت، لم يسبق لقدميه أن تخطيا عتبة فرعية الدوار. دققوا في تفاصيل كل لوحة من اللوحات. أعادوا الفحص والتدقيق. تأكدوا من حضور التوقيع «كنت داير فيها التوقيع ديالي». طلب ورقة وقال «ها أنا نوريك التوقيع ديالي»، وتطوع ليرسم عليها توقيعه كما يثبته أسفل كل لوحة ينتهي من تشكيلها. طلب الضيوف من حسن أوحمو أن يبيعهم تلك اللوحات التي قتل بها الوقت طيلة الساعات الطويلة على مقربة من نار الفورنو. عرضوا عليه مبلغا من المال فرد عليهم «غير خودوها»! رفض مبدأ البيع، وتنازل عنها طوعا! لا غرابة. منح ضيوفه الأجانب لوحاته دون مقابل. تنازل عن إبداعه من باب حسن الضيافة وكرم أهل الأطلس وبقريت. عاد الضيوف محملين بعدة الرسم. هدية إلى فنان بقريت. الصباغة وقطع الثوب المخصص للتشكيل. في انتظار إنجاز حسن أوحمو للوحات جديدة، يمنحها إلى زواره عن طيب خاطر. غاب ابنه للحظات ثم حضر وهو يحمل لوحة هي ما تبقى له من أعماله. قال الأب «هادي خدمت فيها غير بالكريو والألوان». تعرضت اللوحة للإهمال. تلاشت خطوطها وأشكالها. ربما هذا هو السبب الذي أعفاها من واجب الكرم. طلب منه ابنه أن يعيد رسمها. أمسك بها وانطلق في إبراز الخطوط والأشكال، ثم قال «خاصها الزجاج باش ما تمحاش». انطلقت نساء الأسرة وفتياتها في الغزل مستعملات تاظوت (الصوف) وإقرْشال وإيزدي (المغزل). تشكيل آخر في انتظار الاكتمال وأخذ صورة زربية أطلسية. ابتسم حسن. ترك لابتسامته فرصة التحول إلى ضحك. نظر في اتجاه الفورنو وجال ببصره في أرجاء المطبخ والنساء منهمكات في الغزل كأنه يطمئن على الفضاء الحميم، ثم قال «ثلاثين لوحة صدقتها». الله يخلف عليك آحسن أوحمو. جمال زايد