(جلست في مقعدي في الطائرة وسرح الفكر بعيدا. تساءلت: ترى هل يكون أولاد أحمد يسجل هنا إحدى انتصاراته الأخيرة ولو من وراء الغياب…) كل شيء في تونس يشي بالأمان، رغم العمليات الإرهابية الأخيرة. تشعر ببعض الحذر لكن لا شيء يدعو إلى الإحساس بالتوجس المبالغ فيه. كأن التونسيين مرتاحون لحصيلة التاريخ التي جعلتهم يواجهون عواصف "الربيع" كسنديانة موغلة الجذور. في كل مكان من شوارع العاصمة تطالعك اللافتات الخاصة بأربعينية أولاد أحمد. هي بلاد تحتفل بشعرائها. هل هي المرة الأولى التي يحتفى فيها وطنيا بشاعر تونسي؟ ذاك ما قاله المنصف المزغني في بداية قصيدته، بشيء من الحرقة على الماضي. فشكرا للثورة التي أعادت الشعر إلى مكانه في الوجدان الجمعي. تتسابق الذكريات أمامي: هنا في تونس العاصمة قابلت أولاد أحمد. قبل أن يزورنا في البيضاء بالمغرب مرارا. كان السمر الشعري يأخذ منا كل مأخذ حين يحضر. وكنت أطلب منه في كل مرة أن ننهي الجلسة كي ننام. لكنه كان يفضل الشعر والسمر. كانت تونس هي كل حياته. كل لحظاته كانت متوترة بنسغ الحياة. تصادقنا كأننا كنا نتعارف منذ الأزل. حين تعرف على الأسرة وسنواتها الرصاصية: والدي ووالدتي وأختي آسية لم يتمالك نفسه وقال بصدقه وطلاقته: لو كنت هنا لكان اسمي "أولاد الوديع" عوض "أولاد أحمد". قول سأحمله معي ما حييت… تبادر ليلى إلى الترحاب، هي المسكونة بملفات الضحايا. في المساء يأخذني رضا إلى حيث جالس أولاد أحمد آخر مرة. نتذكر ثم أسأله عن عبقرية الحوار الوطني التونسي ودور النقابة فيه. هو يحكي وأنا أنصت وأسأل. أعود إلى الفندق وأرتاح. في الصباح أذهب بالتاكسي إلى بديعة المهندسة المغربية التي اختارت تونس بلدا آخر لها ولأسرتها. ثم نتوجه إلى منزل أولاد أحمد وزهور. منزل في غاية البساطة والتواضع. من هنا كانت المدفعية الشعرية لأولاد أحمد تقصف، فيتوهج أفق تونس بالباقات البرية. تفتح لطيفة وتدعونا للدخول بابتسامة ودودة. تعد القهوة وتجدد الترحاب في انتظار وصول زهور المنشغلة بنقل أشياء الشاعر إلى قصر المؤتمرات حيث ستقام الأربعينية في المساء. تصل زهور. تدعونا إلى مكتب الشاعر. من كتاب لكتاب ومن ذكرى لأخرى ومن مرحلة إلى مرحلة. تتقاطع الاسئلة والدموع بالذكريات. الرحيل أيسر سبيل للصدق. أعرف الآن من الذي كان يسند ظهر الشاعر الأعزل. إذا غامرت أن تتحمل شاعرا يراوح بين الشقاوة والعبقرية، فعليك أن تكون مصنوعا من حنان ورباطة جأش وقدرة على العطاء لا تحد. عليك أن تكون امرأة من هذا العيار. تصل "كلمات" الحب الأخير لأولاد أحمد وأجمل قصائده: صبية مرحة تدرك بالسليقة أن الإرث الذي تحمله يتجاوز كتفيها الصغيرتين بكثير… في الطريق إلى المقبرة حدثتني زهور عن ظروف نشأته بالتفاصيل. كان ثورة عارمة على كل العتاقات والكوابح منذ نعومة أحلامه. في المقبرة وجدنا ناظم الابن البكر يكمل وضع الرخامات على قبر الرحيل. هي لحظات فقط لكنها كثفت كل المشاعر. على بعد خطوات من قبر محمد تربض قبور كبار تونس: شكري والإبراهيمي وأحمد التليلي والآخرين، ثم الإمام الشاذلي أحد الصوفيين المغاربة الذي عاش ومات في تونس. أقترب من كل هؤلاء وفي العينين بعض الندى… في المساء وقبل أن أقرأ قصيدتي ضمن لائحة الشعراء، توجهت لوزيرة الثقافة بكلمة شكر على الدعوة. وفي لحظة ما وأنا أتكلم شعرت بالقاعة تتململ: لقد أطنبت في الشكر على حسن الضيافة وهي عادات، فيما فهمت، تخلى عنها التونسيون كتوق للتخلص من كوابح ماض قريب. كان الجمهور، الذي ملأ القاعة الكبرى عن آخرها، يحاول أن يشعرني بأدب أن الشكر يجب ألا يأخذ من الوقت المخصص للراحل العزيز… وأظن أن الحق كان معه. تركت قصيدتي تندلق من وجداني. قاطعتني القاعة بالتصفيق معلنة تصالحها معي. وأعادت الكرة حين أكملت القراءة وعدت إلى مكاني متأبطا باقة ورد عبقة. أعود إلى الفندق بعد الوداعات القاسية. لقد تأخرنا واضطررنا أنا والشاعر الأردني زهير أبو شايب أن ندشن صداقتنا الوليدة حول عشاء معد على عجل. في الصباح الموالي وأنا أصعد إلى الطائرة، أخذت نسخة من الجريدة. بالخط العريض الغنوشي يصرح: سأقطع كل علاقة لنا بالإخوان المسلمين. من يثق بي يجب أن يحب تونس. أنا تونسي أولا. تونس أولا وأخيرا… جلست في مقعدي في الطائرة وسرح الفكر بعيدا. تساءلت: ترى هل يكون الرجل صادقا؟ ترى هل يكون أولاد أحمد يسجل هنا إحدى انتصاراته الأخيرة ولو من وراء الغياب…