ضجيج عجلات القطار المتجه إلى سيدي سليمان، أشبه بصوت أفكار متطرفة تتصادم في رأس شاب حديث الاستقطاب، تبدأ صاخبة دون إيقاع، ثم شيئا فشيئا تتفق على نغمة واحدة: الهجرة إلى سوريا.. في سيدي سليمان استسلمت أسر كثيرة للمصير الذي سرق أبناءها من حضن العائلة، منهم من سقط قتيلا في حرب لا تعنيه في شيء؛ جميعهم ترعرعوا في تربة واحدة، يجمعها الفقر والأمية، فأينعت أفكار متطرفة في رؤوسهم، استسلموا لها ووجدوا من يعينهم على تحويلها إلى واقع انخرطوا فيه قبل الهجرة إلى سورياوالعراق. صباح غائم في يوم عطلة. حركة السير متثاقلة أشبه بتباطئ حركة القطار وهو يقترب من محطة المدينة الصغيرة التي اشتهرت باسم باريس الصغرى (لوبوتي باري). وهو اللقب الذي حملته منذ سنوات الاستعمار الفرنسي حيث استقر بها في بداية الخمسينيات مبدعون كبار أمثال الفنانين التشكيليين هانس كليس وإيفون كليس هارزينغ. أحياء قديمة وأخرى حديثة المعمار وثالثة دروبها أشبه بمتاهات. تحاكي بيوتها علب وضعت بدون ترتيب، بناياتها لا تصاميم لها، جدرانها بدون طلاء، أزقتها تحتفظ بآجر ورمال وأتربة من بقايا البناء، تتخللها مياه الصرف الصحي. من إحدى أزقة حي الغماريين خرج رجل متوسط القامة في نهاية العقد الخامس، يلبس جلبابا صوفيا أسود اللون. سي أحمد رجل حليق عندما تنظر في عينيه، تجد تركيزا قويا واطمئنانا غريبا تؤكده ابتسامة ترتسم على شفتيه كلما أتم فكرة ما، علما أن ساعة اللقاء به كان قد عاد مباشرة من عمله كحارس ليلي، أي أن جفونه لم تغمض بعد. عائلة بسيطة لم يكن هناك أي اضطراب في تفكيره بسبب قلة النوم. كانت كلماته وعباراته مرتبة بعناية، لا يتكلم فقط. يتابع ما يخطه قلمي من معلومات ويتدخل لتصحيح اسمه: «أحمد الدغوغي بالياء». تاريخ استقراره بسيدي سليمان، وهي أيضا مسقط رأسه، يتطابق مع تاريخ زواجه سنة 1983، الذي أثمر ثلاثة أبناء بينهم فتاة، لم يستطع أي منهم أن يكمل دراسته. البنت تزوجت، وآخر أبنائه يعمل نجارا، أما الإبن البكر عزيز الذي فتحت عيناه بعد عام واحد على الزواج، فقد اختار مسارا آخر لحياته في سرية تامة. ترك عزيز الدراسة منذ السنة التاسعة، كان شابا لطيفا كما يحكي والده، اشتغل في البداية في معمل السكر الذي أوصدت أبوابه وشرد عماله، وهو واحد من معالم «باريس الصغرى» التي تسكن ذاكرة شيوخها. لم يكن الشاب مثيرا للمشاكل، خاصة بعد أن أصبح يؤدي صلواته بالمسجد فكان مصدر اطمئنان لعائلته التي ساندته عندما اختار التوجه لدراسة القرآن والفقه وعلوم الدين، متأثرا بصديقه الذي يؤم الناس للصلاة في المسجد الذي يتردد عليه. رحل عزيز إلى الناضور وهناك عمل كمساعد لإمام مسجد يفتح أبوابه لتلقين الأطفال الصغار القرآن، كان يواظب على هذا العمل مقابل أجر قليل يستعين به على تدبر أمور حياته البسيطة، التي بدأت تتعقد شيئا فشيئا بعيدا عن لفت الأنظار إليه. لم يشهد أي أحد التحول الذي بدأت تعرفه حياته بعد عودته، وحتى اللحية التي أسدلها كانت تبدو عادية. مكث أياما قليلة، قبل أن يقرر من جديد السفر إلى نواحي سيدي سليمان مبتعدا عن المدينة التي توسعت وبدأت تعرف أنماطا حضرية متعددة، وتضاعف عدد سكانها وأصبحت قبلة لسكان المراكز القروية القريبة لتزجية الوقت ومخالطة الأصدقاء. لم يتوجه عزيز هذه المرة إلى دار الكداري نواحي المدينة وحيدا، وإنما كان ضمن ثلة من أصدقاء مسجد الحي. هناك لم تكن المجموعة تكتفي بالاستقرار في كتاب أو مدرسة قرآنية، بل كانت تجول عبر قرى ومراكز الإقليم بدعوى «الموعظة». بعد عودته هذه المرة قرر الاستقرار بالمدينة فتزوج من بنات إحدى قريباته، وبدأ يعمل في صنع سندويتشات السمك على عربة متنقلة. عند هذه المرحلة، بدأ الأب ينتبه لتغير سلوك الابن، لكن دون أن يثير ذلك أي شك في نفسه، وكانت أول ملاحظة هي إلزامه على الزوجة لباس النقاب، ثم الدخول في شجارات كلامية مع أخته وأمه حول الحجاب والتلفزيون وتحريم الأغاني، وهي سلوكات يومية كان يقوم بها كلما جاء لزيارة العائلة. طبيعة عمل الأب الليلي واقتطاعه جزءا من النهار لتعويض سهر الليل.. لم يكن هذا الإيقاع اليومي يسمح بنقاشات طويلة بين الأب والابن الذي أصبح مستقلا بحياته رغم بعض الاهتزازات التي عرفها زواجه، باستثناء لحظة ولادة ابنه الذي سماه عمران. من عزيز إلى «أبوعمران» ذات يوم دخل أبوعمران، وهو اللقب الذي سيحمله إلى آخر أيام حياته، على والده وطلب منه دفتر الحالة المدنية لإنجاز دفتر الحالة المدنية الخاص به من أجل تسجيل ابنه. بعد فترة عاد للأب بنسخة من الحالة المدنية مؤكدا أنه سجل ابنه، غير أن تغييرا طفيفا كان يبدو على أبي عمران إذ باستثناء الفرحة بهذا الإنجاز اختفت لحيته، وأصبح حليقا لأول مرة بعد سنوات. هذا التغير جعل الأم تستفسر ابنها عن سر حلق لحيته التي حرص دوما على إسدالها، فكان جوابا غامضا: «بقوة الهضرة ديال الناس..». تخلص أبو عمران من لحيته، لكنه أضاف وثيقة إدارية جديدة إلى محفظته هي جواز السفر. عندما اكتشف الأب الجواز استفسر الابن الذي أجابه بأن هناك عملا ينتظره في ليبيا لتحسين وضعيته الاجتماعية، لم يشك سي أحمد في تصرف ابنه لكن منذ غيابه عن غذاء الجمعة الأسبوعي بدأ يعيد قراءته لكل الإشارات التي اعتبرها عادية. تناول الغذاء الأسبوعي في بيت سي أحمد، وتناول الكسكس كانا طقسا التزم بهما أبو عمران طوال حياته. لكن قبل قرابة عامين، أخلف لأول مرة موعده، ولم يعد إليه قط. تأخر في ذلك اليوم عن الحضور، فطلبه الأب على الهاتف عله تأخر في المسجد خاصة أنه لم يكن يؤد الصلاة مع أصدقائه الجدد في المدينة، بل كان يخرج إلى أقرب تجمع قروي لأداء صلاة الجمعة. ظل الهاتف يرن دون رد... لم يأت أبو عمران لتناول الكسكس في ذلك اليوم. تقاسم الأب والأم وحيدين وجبة الغذاء، ثم استسلم سي أحمد للنوم تحضيرا لليلة حراسة جديدة. في الثامنة والنصف، استيقظ على وقع صراخ وبكاء. لقد رحل أبوعمران.. عزيز سافر إلى سوريا. الخبر تلقته العائلة بشكل غير مباشر. فقد كانت الزوجة تعلم بحقيقة سفر زوجها لكنه أوصاها بعدم إخبار والديه وبقية العائلة إلا بعد أن تقلع الطائرة، وذلك ما كان. أقلعت الطائرة التي تقل أبو عمران وبعض رفاقه إلى تركيا في الثانية بعد ظهر يوم جمعة. بعد ثلاثة أيام، اتصل عزيز، أو أبو عمران، ليطلع العائلة على أحواله. لامه الأب لوما شديدا وأنبه على عدم إخباره لهم بالسفر فكان رده: «سترفضون إذا علمتم أني مسافر إلى سوريا في سبيل الله». على امتداد سنتين وبضعة شهور، كان أبو عمران يتصل بين الفينة والأخرى. عندما تنقطع أخباره يحاول والده أن يتصل على آخر رقم هاتفهم منه لكن دون جدوى كانت أرقام الهواتف الأجنبية تتغير باستمرار، وهو ما سبق لأبي عمران أن شرحه لوالده بأن هذه الأرقام خاصة بالجماعة التي ينتمي إليها، وأنهم لا يخصصون سوى وقتا يسيرا لكل شخص كي يتحدث إلى عائلته. سأله والده وماذا تفعل هناك؟ فأجابه باقتضاب: «نأكل ونتدرب».. جواب مقتضب إلا أنه كان كافيا ليبين أن الشاب الذي ظل طوال حياته مسالما قد انقلب حاله وأصبح متطرفا برتبة مقاتل في صفوف داعش. نهاية مأساوية عندما انقطعت أخباره ذات مرة، استسلمت العائلة إلى فكرة الموت. وبدأ الأب وكل أفراد العائلة يسألون باقي معارفهم وجيرانهم ممن اختار أبناؤهم نفس السبيل، لكن لاشيء كان يؤشر على موته ولم تتمكن العائلة من الوصول إلى أخباره. بالمقابل، مكنت تجربة اختفائه هاته الأب من الاطلاع على العديد من الأشياء وعلى رأسها الحرص على متابعة أخبار ما يقع في سوريا والمعارك التي تجمع داعش بباقي الفصائل، بل أكثر من ذلك أصبح متفاعلا مع باقي العائلات التي هاجر أبناؤها مطلعا على أخبارهم وأكثر من ذلك انخرط في إحصاء قتلاهم في المعارك الدائرة بالشام موزعين على أحياء سيدي سليمان، يقول دون أن يبذل جهدا كبيرا في التذكر. في حي الغماريين قتل ستة، وفي ولاد الغازي خمسة، ونفس العدد في دار بلعماري، وثلاثة قتلى في دوار الخير وفي الدراهميين، وفي دوار الوركة وفي حي الليمون وفي السليمانية، وشخص واحد في الحجاوة … وهو ما يجعل عدد القتلى يقارب الثلاثين قتيلا. ذات يوم، هرع الأب إلى حي أولاد الغازي بمجرد سماعه أن شابا هناك قتل في سوريا، استقصى الأخبار لكن لم يتمكن من الحصول على أي معلومات. هذه المرة تدخلت الأقدار الإلهية. وبعد أربعين يوما من الانتظار اتصل أخيرا أبو عمران بالعائلة، انهارت الأم بمجرد سماعها صوته عبر الهاتف وانخرطت في البكاء وهي تطلب منه العودة، غير أنه اعتبر ذلك مستحيلا وكان رده : "عاونني بالرضا". وتوجه إلى الأب بكلمة غامضة لا تصدر إلا عن شخص راحل دون عودة: "المسامحة". حينها، سأله الأب الذي أصبح مطلعا على أخبار المقاتلين والمعارك عن مكان تواجده فكان الجواب صادما، إذ لأول مرة سيكتشف أن ابنه لا يوجد في سوريا بل في العراق وبالضبط في مسقط رأس صدام حسين: تكريت. وكانت تلك آخر مرة ستسمع العائلة فيها صوته. كان كل اتصال من الشام يعني أملا جديدا في وجود أبو عمران على قيد الحياة، غير أن اتصال يوم الاثنين في آخر شهور سنة 2013، كان يعني شيئا آخر، إذ لم يكن صوت المتحدث يشبه صوت أبا عمران. كان صوتا آخر يبلغهم النهاية. «استشهد أبو عمران بعد إصابته». كان ذلك هو نص الرسالة، وهي نفسها العبارة التي توصل بها الأب عند منتصف الليل. كان للتو قد بدأ عمله في الحراسة عندما اتصل به صهره وطلبه للحضور في الحال، لم يخطر بباله قط أن يكون الأمر يتعلق بفلذة كبده عزيز، فكر كثيرا: هل يكون أحد أفراد العائلة مريضا؟ ركب دراجته الهوائية وانطلق مسرعا، وهناك وجد الجواب صاعقا وأشد ألما من كل التخمينات التي خطرت بباله. نفس الرسالة الهاتفية التي توصلت بها العائلة ومفادها: مقتل أبو عمران. لا أحد كان يعلم بظروف مقتله ولا بالطريقة التي قتل بها غير أن ما تداولته وسائل الإعلام حينها، يفيد بأن عددا من مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية في سورياوالعراق قد حاصروا واقتحموا مبنى المجلس البلدي لتكريت، وكان من بينهم أبوعمران، وهي عملية منظمة بدأت بتفجير سيارة مفخخة ثم باقتحام المبنى واتخاذ كل من يوجد به رهينة وقتل آخرين، في الوقت الذي كانت تجري فيه عملية أخرى في مقر شرطة بيجي من أجل تحرير مقاتلين من داعش والقاعدة معتقلين هناك. تدخل الشرطة والجيش العراقيين حينها انتهى بوقوع قتلى في الطرفين وفرار باقي المقاتلين، وهناك سقط أبوعمران قتيلا بعد إصابته خلال عملية تحرير الرهائن. مقتل عزيز بهذا الشكل الدرامي، خلف ألما بليغا في صفوف العائلة. الأب الذي استرجع شريط الأحداث منذ إقلاع الطائرة في اتجاه تركيا تمكن أخيرا من جمع قطع البازل لتتضح الصورة أمام عينيه. لقد كان ابنه واحدا من ضحايا شبكة التجنيد التي استغلت فقره وجهله وانطواءه واختزلت الدين في حمل السلاح من أجل القتل وسفك الدماء. يقول سي احمد: "لو كان الأمر يتعلق بالقتال دفاعا عن البلاد أو عن الصحراء كما فعل جنودنا ما كان ذلك ليطرح أي مشكل، لكن هؤلاء الشبان لايعرفون حتى من هو عدوهم". نكاح أرامل المقاتلين مقتل أبو عمران أو عزيز المغربي وإن كان واقعا تعيشه الأسرة بعد أن تلقت التعازي وأقامت له العشاء، إلا أنها على المستوى الإداري لاتستطيع أن تحصل على وثيقة تؤكد وفاته وبالتالي فحياته مستمرة في الوثائق الإدارية، مع ما يترتب عن ذلك من مشاكل عائلية خاصة بعد أن « تزوجت » أرملته بأحد السلفيين وأنجبت منه طفلا، في الوقت الذي لا يعرف أي أحد طريق هذا الزواج وكيفية توثيقه، ويطرح السؤال هل هو فعلا زواج قانوني؟. المشكل نفسه يخيم على أرامل باقي المقاتلين الذين لقوا مصرعهم، خاصة أنهن مازلن فتيات شابات بدون تعليم أو تكوين يمكنهن من مجابهة الحياة ومشاقها، فيضطررن إلى البحث عن معيل من أصدقاء الهالك أو من سلفيين آخرين يستغلون الوضع لقضاء أوطارهم، ما يدفع ببعض الأرامل للاستسلام ودخول غمار علاقات جنسية غير قانونية ينتج عنها في أحيان كثيرة حمل يذهب ضحيته الأطفال والمواليد الذين ينسبون في الغالب إلى آباء قتلوا في معارك داعش. بالمقابل هناك فئة قليلة جدا من هؤلاء الأرامل الشابات اللواتي تمكنن من سلوك مسطرة الطلاق والتي بموجبها استطعن أن يحصلن على حرياتهن من أزواج قتلوا في سورياوالعراق أو انقطعت أخبارهم، وقد اختارت هاته النساء حياة جديدة، لكن ظل بعض السلفيين من معارف الزوج السابق يلاحقوهن وهو مامنع إحداهن من الحديث لنا خلال إنجاز هذا الروبوطاج مخافة التعرض لمكروه. كما أن نساء أخريات اخترن مسطرة الطلاق بمجرد علمهن أن أزواجهن المقاتلين قد تزوجن مرة أخرى من سوريات. فَقَدَ أحمد الدغوغي ابنه في العراق، وكذلك كان مصير عدد من أبناء جيرانه في سوريا، وهناك من سكان الحي من فقد ابنيه، كما هو الشأن بالنسبة لأحد معارف سي احمد، ما شكل صدمة كبرى في حياته، وأصبحت الشام تعني بالنسبة لعائلات أخرى الموت، تقفز قلوبهم من مكانها مع كل مكالمة هاتفية مخافة أن تعلن نهاية شاب ما. تاجر سيدي سليمان لقد كانت شبكات التجنيد، التي "ضربت" مدينة سيدي سليمان، قوية وفعالة واستطاعت في ظرف وجيز أن تستقطب العشرات من الشبان، منهم من عاد وتم اعتقاله بمطار محمد الخامس، ومنهم من لايزال يقاتل في صفوف دولة البغدادي، كما الشأن بالنسبة لعبد السلام الرامي ابن حي الدوار الجديد. حكايته تبدأ على لسان شقيقته زهور بعينين مليئتين بدموع يمنعهما الصبر والجلد من الانهمار. كذلك هو حال زهور امرأة مثقفة، جمعوية نشيطة، وفاعلة نسائية تناضل من أجل وقف العنف ضد النساء في مركز للاستماع. غير أنه بالرغم من كل هذا الوعي وهذه الخصال، لم تنتبه إلى شقيقها الذي اختطفته شبكة التجنيد وحولته من ذلك الشاب البشوش المرح إلى مقاتل بلا قلب. ينحدر عبد السلام البالغ 31 سنة من عائلة بسيطة. والده الذي يعمل بالتجارة دفعه إلى الانقطاع عن الدراسة وهو لم يتجاوز بعد الأقسام الابتدائية كي يساعده في أعماله. بعد رحيل الأب سنة 2008 انخرط عبد السلام بشكل كلي في العمل التجاري وتخصص في جلب السلع المهربة من مليلية وبيعها في سيدي سليمان. بالنسبة للعائلة كان الأمر عاديا فالعديد من شبان المنطقة يعملون في التجارة ويجلبون سلعهم من مليلية، لكن لا أحد كان يعرف ما يقع هناك؟ ومن يلتقي هؤلاء الشبان؟ وماذا يفعلون؟، في الوقت الذي كانوا يتعرضون فيه لأكبر عملية غسيل دماغ. ما يثير هذه التساؤلات هو المرحلة التي قضاها أبو عمران هو الآخر في الناضور والتي كانت بداية تطرفه وانجرافه نحو السلفية الجهادية، وهي مرحلة تقاطع فيها نشاط كبير لشبكة تجنيد في العروي بطلها الاسباني مايا الذي كان يحلم بإقامة إمارة إسلامية في مليلية. ورغم أنه كان مقعدا إلا أنه استطاع استمالة العديد من الأتباع مغاربة وأجانب بفضل تمويل شبكته المحكم عن طريق قرصنة حسابات بنكية وتزوير بطاقات الأداء، وقد توسعت شبكته إلى مدن أخرى. استمر عبد السلام في عرض سلعه المهربة، ثم راودته فكرة الزواج وتكلفت الأسرة بالبحث عن عروس لابنها، لكن ما أن اكتمل شهر العسل حتى وقع ما لم يكن في الحسبان. تعرض عبد السلام لحادثة سير خطيرة سنة 2012 عندما كان مستقلا سيارة رفقة أخته وزوجها وشخص آخر توفي في الحين بعد انقلاب السيارة على طريق القنيطرة. خرج عبد السلام من الحادثة حيا لكن لم يخرج سالما فقد أصيب إصابات خطيرة: رضوض وكسور، أرقدته في مستشفى الادريسي بالقنيطرة لمدة تزيد عن شهر. لم تكن الإصابات الجسدية وحدها التي نالت منه لكنه تأثرا نفسيا بشكل كبير. لذلك فبعد خروجه من المستشفى كان عبد السلام شخصا آخر غير الأخ البشوش الذي يمزح باستمرار مع إخوته. تقول شقيقته زهور: «كانت لحيته منسدلة، لم يعد عبد السلام الذي نعرفه، وشيئا فشيئا بدأ خطابه يتغير، أصبح بفرض على إخوته ارتداء الحجاب، وألزم زوجته بالنقاب، وتوقف عن العمل». مسجد دوار الجديد لم يستطع عبد السلام أن يمارس عمله في التجارة كما كان يفعل، بعد أن عجز عن السفر إلى مليلية نظرا قطع الحديد التي مازالت تشد يده اليمنى المصابة بعدة كسور، فأوكل العمل لأحد أقاربه. خلال مرضه أصبح مداوما على مسجد دوار الجديد حيث نسج صداقات جديدة ورمم صداقات قديمة وأصبح لقاءاته متعددة مع «الإخوة» يتداولون خلالها مواضيع دينية، لم تتجاوز هذه المدة ثلاثة أشهر، لكنها كانت كافية كي يعلن عبد السلام عن اختياره ويتخذ قراره. لمسة الرفقة بالمسجد المذكور كانت بادية على العديد من الأشخاص الذين رحلوا إلى الشام والتحاقوا بالتنظيمات الإرهابية، العديد منهم مر من هذا المسجد الذي عرف قبل فترة بكونه قبلة للسلفيين. العديد منهم أيضا مر من مرحلة التجارة أو بيع المأكولات الخفيفة ووجبات السمك على متن العربات المجرورة. وفي كلتا هاتين المحطتين كانت جرعة التطرف والغلو تتضاعف مع مرور الأيام. الخطة كانت هي أن يبحث كل مجند حديث عن عضو جديد لتوسيع الجماعة التي تمثل حسب رأيهم الدين الحقيقي الذي غفل عنه الناس. أصبح من المعتاد رؤية أشخاص ذوو بروفايلات متشابهة ولباس موحد لا فرق بينهم سوى في طول القامة، أما الوجوه فهي نفسها تتقاسم ملامح القسوة والتشدد تجاه الآخر، والرضا والتضامن تجاه بقية أعضاء نفس المجموعة. لحي منسدلة ونظرات حادة تعكس رؤية مختلفة للأشياء والسلوكات السائدة في مجتمعنا التقليدي منها والحديث، ما تفتئ أن تعلن حربها على « المنكر». ولم يكن هذا المسجد وحده الذي يجتمع فيه السلفيون، لكن كان هناك لقاء يجمعهم بمسجد الغرب بسيدي قاسم يتردد عليه أبناء سيدي سليمان بعيدا عن مساجد مدينتهم هناك كانت تضمهم اجتماعات أمام باحة المسجد لمناقشة موضوع «الجهاد» الذي بدأ يشكل لديهم محور اهتمام خاص. وكان دليلهم هو شخص يلقب بأبي أمامة أفتى لهم بشرعية الجهاد وضرورته، وكان هذا الأخير من أوائل من سافر إلى الشام. الرحيل والصدمة بعد ثلاثة أشهر، زار عبد السلام أخته ذات يوم في محل بيع الورود الذي تعمله به وأخبرها بأنه مسافر إلى أكادير. السفر إلى عاصمة سوس كانت في القديم عادة بالنسبة لعبد السلام وكان يقوم بهذه الرحلة مرة في السنة للترويح عن النفس أوللقيام ببعض الأعمال التجارية. باركت الأخت الفكرة واعتقدت أنها مناسبة كي يخرج شقيقها من حالة المرض التي يعاني منها منذ الحادثة. غير أن الرحلة هذه المرة لم تكن ككل مرة إلى أكادير. من سوريا جاء صوته يطلب من أخته الصغرى حورية «المسامحة»، أخبرها بمكان وجوده وقال لها «موعدنا في الجنة»! كانت صدمة العائلة كبيرة ليس فقط برحيل عبد السلام إلى الشام ولكن بالأثر الذي خلفه ذلك على الأم، التي أصيبت بشلل نصفي وفقدت القدرة على الكلام والحركة. عندما علم عبد السلام بمرض والدته اتصل من جديد للاطمئنان عليها بعد أن شعر أنه وراء مرضها. كثيرا ما كانت تنقطع أخباره حتى يشيع نبأ وفاته، إلا أن اتصاله يعيد الحياة إلى الهاتف المحمول، في آخر اتصال له قال لهم بأن الموت مر بجانب بعد أن تعرض المكان الذي كان قد لجأ إليه للقصف فأصيب إصابات بليغة برصاص وبشظايا. كانت الأم تمر من لحظات عصيبة كادت أن تودي بحياتها وهو ما حذر منه الطبيب الذي أوصى أفراد العائلة بعدم تعريضها لأية صدمة جديدة، اهتدت إحدى بناتها إلى فكرة تجنبها مثل هذه الهزات التي تشعر بها كلما انقطعت أخبار ابنها فسجلت اتصالاته التي كانت محتفظة بها وصارت تسمعها بين الفينة والأخرى صوته على اعتبار أنه مكالمة جديدة. عند رحيله ترك عبد السلام زوجته حاملا في شهرها السابع، ومنذ ذلك الحين لم يستطع الطفل إلى غاية اليوم أن يرى والده الذي اختار ساحة المعارك المضرجة بالدماء على التملي بوجه طفله الحديث الولادة. وقد كان في البداية قد حاول ترحيل زوجته لكن العائلة أغلقت هذا الباب في وجهه. غير أنه لم يتأخر كثيرا في البحث عن زوجة أخرى هذه المرة كانت تحمل الجنسية السورية. بالنسبة لزهور وبقية العائلة مازال هناك أمل في عودة عبد السلام ويأملان في أن يحرك الإحساس بالندم ومصير والدته التي تصارع المرض بسببه، الرغبة في التكفير عن رحيله المفاجئ والرجوع إلى بلده. زهور تقول إن لعبد السلام قصة مع حوادث الموت التي خرج منها سالما وهي عديدة تذكر منها على سبيل المثال يوم سافرت به والدته إلى مولاي يعقوب نواحي سيدي سليمان وهو لم يتجاوز بعد عاما ونصف فسقط من ظهرها وتدحرج إلى نهاية الوادي، وكانت الأم على وشك أن تفقد عقلها بسبب ما وقع خاصة بعدما نقلته إلى البيت بين الحياة والموت، لكنه استيقظ في اليوم الموالي وكأنه لم يتعرض لمكروه، ثم نجاته من حادثة السير التي أودت بأحد مرافقيه، قبل حوالي عامين، ونجاته قبل شهور من القصف الذي تعرض له في سوريا. هي حكايات فقط ينسجها الأقارب أملا في اللقاء بأبنائهم في هذه الحياة لا كما يقول الأبناء في «الحياة الأخرى».