مجلس الحكومة يصادق على قائمة الرخص الاستثنائية التي يستفيد منها القضاة    الحكومة تحدد شروط منح تعويض لمؤطري التكوين المستمر بوزارة التعليم    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بتحديد مبالغ الحد الأدنى القانوني للأجر    وهبي يقدم عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    تونس.. هجوم بسكين على عنصر أمن نفذه شقيق مشتبه به في قضايا إرهاب    روبوت مزود بقدرات شحن ينضم إلى المهمة الصينية للهبوط على القمر    ثلوج وقطرات مطرية في توقعات طقس الجمعة    اعتقال ثلاثة سائقي طاكسيات بالرباط بعدما لاحقوا سيارة نقل بالتطبيقات على طريقة الأفلام    مباحثات مغربية بحرينية لتعزيز التعاون في مجالات التنمية الاجتماعية    بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيرنار جاكوبياك: حركة أنفاس سعت لمقاومة الاستعمار الثقافي وبعث ثقافة مغربية وطنية

* كيف جئتم إلى المغرب، وكيف أضحيتم، في تواصل مع جماعة أنفاس؟
** في حقيقة الأمر، كان الأمر منفى بصحبة زوجتي، لأن أسرتها لم تقبل بي، لذلك قلت مع نفسي: "يلزمنا أن نغير الوجهة". هكذا، وجدنا أنفسنا، بمنطقة قصر السوق، التي سميت فيما بعد الرشيدية. مكان، شكل سنة 1963، أبعد نقطة، لم نكن نملك سيارة ولا أي شيء. تطوعت في عين المكان، بدون أجرة طيلة سنة، فكنا نعيش مثل الجميع، على اقتناء المواد الغذائية، ثم نؤدي أثمنتها في آخر الشهر. سنة 1964، توجهت إلى منطقة تومليلين، لدى جماعة من الرهبان البينديكتين، سبق أن تعرفت عليهم خلال فترة الاستقلال عام 1956. هناك، التقيت أستاذا جامعيا يدرّس بالرباط، فتناقشنا حول الأدب المغاربي الصادر باللغة الفرنسية. بفضل أصدقاء فرنسيين، حصلت على عنوان كتبيّ فرنسي، يعيش بمدينة الدار البيضاء، ينظم أمسيات شعرية، مخصصة للفرنسيين فقط، بينما توخت رغبتي الالتقاء أساسا بمغاربة. رفض، ذاك الأستاذ إعطائي أسماء، لكنني ألححت عليه كثيرا إلى أن استسلم، فأدلى باسم هو: عبد اللطيف اللعبي. حينما التقيت الأخير، اندهش كثيرا، لأن المدرس الجامعي، الذي دلني عليه، لم يكن يضمر نحوه أي ودّ. هكذا، بقيت أجهل السبب، الذي جعله يرشدني إليه... استأنست مع اللعبي، قرأنا نصوصا، وخلقنا نوعا من المنافسة الشعرية. اتفقنا خاصة، على كتابة نصوص كيلوميترية، مختلفة تماما عن القصائد القصيرة، السائدة خلال تلك الحقبة، زمن مجلة "تيل كيل" في باريس حقبة اتسمت بكونها بلاغية جدا. ما اكتشفته حقا لدى اللعبي، توخيه القول دون أي شك، وفق غنائية أصيلة، كما لو كانت المرة الأولى التي سيكتب فيها، مما استمالني تماما. هكذا أخذت في الذهاب لزيارته من حين لآخر. بدأنا نلتقي بانتظام منذ سنة 1964، بالتالي عندما أسس أنفاس سنة 1966، كانت قد مرت سنتان على علاقتنا، فضمني إلى المجلة، بحيث كنت الأجنبي ضمن هيئة للفعل، بعد رفضه تسميتها هيئة تحرير.. كنا نجتمع بين الفينة والأخرى: يحضر البعض، بينما غاب آخرون دائما، خاصة في ظل منافسة كانت بيننا نحن الإثنين ثم النيسابوري، غير أن الأخير كان أكثر تكتما وملتصقا بذاته.
* ما هو المسار الذي كان مشتركا بينكم؟
** تجسد طموحنا في السعي لقول تلك القصيدة. اعتقدنا- خاصة المغاربة- أن القصيدة الفرنسية، بمثابة قصيدة ذهنية، تكتب لتُقرأ. بينما اقتضى الأمر قصيدة تريد أن تقول. هذا بالضبط، ما أبحث عنه، لأني فكرت في تأسيس قصيدة، تتجه للقول بصوت مرتفع، والخروج من أسوار الجامعة، وقياسا إلى حالة فكرية، ميزت كتّاب تلك المرحلة، بحيث كانت لهم عقدة معينة نحو العلم ولاسيما اللسانيات، فسعوا أساسا إلى أن يكونوا لسانيين وليس شعراء. كما، لو أن صفة شاعر، بالية. إذن، على العكس من هذا المنحى، التقيت هنا، أشخاصا يرهفون السمع للقصيدة. شرعنا، نلقي الشعر، داخل المراكز الثقافية، ثم أثناء إقامتي في مدينة فاس لمدة سنتين، أنشدت الشعر في ثانوية مولاي ادريس. كنت أدرّس الفرنسية، فأدعو التلاميذ للعودة، بعد حصصهم الرسمية، مع الساعة التاسعة ليلا، إلى أحد المدرجات، فأشير عليهم بما يلي: "سنمارس القصيدة الفرنسية المعاصرة". مفهوم المعاصرة، حسب دلالاته الأكثر اتساعا: بدأت برامبو، لكني في ذات الوقت، أتحدث عن الشعراء المغاربة الذين كنت أعرفهم.. كان السياق مدهشا، لأنه عكس الأجواء في فرنسا، يتأثر المغاربة جدا بالشعر، ولا يصدرون حكما على شاكلة "ماذا يعني هذا؟"، بحيث ينقادون وراء الكلمات، ويفسحون لها المجال كي تمسهم، وعندما يدركونها حقا، يصفقون، كي يردد الشاعر ثانية، مقطعه الأخير. خلال تلك اللحظة، تبلور طموح عجيب، جعل من المدة الفاصلة بين الساعة التاسعة ليلا إلى الثانية عشر أو الواحدة صباحا، مجالا لنوع من الانتشاء الشعري داخل مدرج الثانوية. كان الوضع رائعا! استمر التقليد طيلة ثلاث سنوات. في نفس الوقت، كانت هناك مجلة أنفاس، من خلال مشروع اللعبي -الذي لايندرج ضمن اهتمامي لأني لست مغربيا- المتطلع إلى البحث عن مناهضة الاستعمار الثقافي، في أفق العثور ثانية، بل بالأحرى العمل على بعث ثقافة وطنية، استمرت في سبات منذ قرون. مما يقتضي، اكتشاف هذه الشخصية المغربية، التي لن يُنظر إليها حينئذ، مثل اكتشاف ينتمي إلى الماضي، بل كصيرورة ومعطى لم يتم بعد بلوغه، فالجوهري أن نحياه نهائيا، وحثّ الأفراد كي يتمثلوه، ثم يتذوقوا من جديد طعم شخصيتهم الثقافية. كان ذلك غاية المداخلات، التي تقاسمناها حينما أكون بصحبة اللعبي أو النيسابوري، لكن بشكل خاص مع اللعبي. في إطار هذا السعي، بلور وكرّس ثم أصدر نصوصه، إلخ. في حين، يعتبر ما كنت أقوم به داخل ثانوية فاس شيئا مغايرا ابتغى قصيدة معاصرة، تبحث في لغز الشخص وحريته الحقيقية.
* ماهي الذكرى، التي تحتفظون بها، عن تلك الحقبة؟
** لقد عشت ثلاث سنوات رائعة. كتبت قصائد كيلوميترية مكنتني من رؤية ما كان خاضعا للمراقبة في فرنسا. بمعنى، أننا لا نكتب أي شيء، لكننا نكتب وفي نفس الوقت، نستمتع بما يجدر سماعه. أن تكون هنا، على بعد ألفي كيلوميتر من كل انشغال أدبي لاسيما الباريسي، موقع مكنني من اكتشاف ماهية شخصيتي. في الواقع كان الأمر مثيرا، إنه تمرد ضد كل ما هو موجود، مما عمل على تقويضي، لكنه أيضا، جسّد شيئا آخر... وهنا تجلت مساهمتي في أنفاس. التقينا مع رسامين، مثل: المليحي و شبعة.. قدموا عندنا إلى فاس، التأمنا ثم أسرعنا إلى اقتطاف فاكهة الليمون من حديقة كبيرة.. كان مشهدا رائعا جدا. ذهبوا لشراء أشرطة لأم كلثوم، وأخبروا صاحب المحل أنها لفرنسي، استمعنا لها أربع أو خمس مرات، بعدها قالوا: "طيب، سنعيدها ونغيرها بواحدة!" ثم عادوا إلى البائع، وخاطبوه بما يلي: "إنها ليست بالضبط الأشرطة التي تطرب ذاك الفرنسي، هل يمكننا استبدالها؟". بادروا إلى فعل ذلك ثلاث مرات، مما سمح لنا بسماع ثلاثة أشرطة مختلفة، مع أننا لم نبتغ شراءها كلها! لقد اكتشفت معهم أم كلثوم، ضمن أشياء أخرى.
* هل هيأ لكم ذلك تعلم العربية؟
** لا، لكني أحسست بهذا النوع من القلق، أن تكون عربيا.. كنت شغوفا، كي أكتشف أكثر ثم أعبّر، مقارنة مع تحمسي لتعلم لغة معينة. لقد كنت مأخوذا جدا، صوب ماكنت أكتبه.
* كيف عشتم تطور أنفاس؟
** فيما بعد حدث لقاؤهم، مع السياسيين الكوبيين، ثم السرفاتي والماويين. هنا همست إلى نفسي، يجب أن أتوقف، فقد تحسست لغة الخشب. أنا من الجيل الذي خاض حرب الجزائر. رحلت، إلى المغرب سنة 1956، لكي أتبين إمكانية مغادرتي الجيش، عوض المشاركة فيما سموه ب"إعادة السلام"، مع أنها كانت حربا، في حقيقة الواقع. لقد سافرت إلى المغرب، بواسطة الالتجاء إلى وسيلة توقيف سيارة مارة، لكي أتحقق مما يقع، وماذا يحدث. قلت:"لا يمكن تصديق سواء هؤلاء ولا أولئك، بالتالي، سأذهب لأختبر الوضع في عين المكان". تجولت في المغرب، لثلاثة أشهر، وفي النهاية امتلكت جوهريا فكرا تشاركيا.. خلال تلك الحقبة، لم نكن نملك حق رفض الخدمة العسكرية، مادام مصيرك سيكون السجن! فإما الجيش أو الاعتقال! أو تنفذ بجلدك وتهاجر. فقلت: "لن أجازف بالنفي طيلة حياتي، لصالح بورجوازية مغربية، ستشغل مواقع الفرنسيين المغادرين. لذلك، سأعود إلى الجيش، لكني سأرفض كل رتبة". إذن، ماذا بوسعي فعله، انسجاما مع مستوى علمي معين حصلته وقتها، وهو الإجازة. رفضت كل رتبة، ووعدت نفسي، ب"عدم الامتثال، للقيام بكل فعل أستهجنه". كان هذا واضحا، إلى حد ما، بحيث تبينوا شخصيتي سريعا ثم عملوا على تحييدي بذات السرعة! كانت، أجهزة الجيش السيكولوجية، فعالة جدا! بالتالي، لم أشارك في أي شيء، ووضعت هامشا، كإداري داخل المكاتب، مع ذلك بقيت أحتج بصخب، مستهزئا من الثكنة، وأصحاب الرتب، مما أوهمهم أن اندفاعي هذا، مرده إلى جهة ما، تدعمني! الضباط، كان دائما لديهم الانطباع، بضرورة ترحيلي، بسبب ذلك. هكذا، استطعت التخلص من السياق نهائيا، بكيفية شخصية. لكن في نفس الوقت، كنت متقززا من رؤية شباب وأصدقاء، يقبلون على أنفسهم، ممارسة التعذيب، كي يحظوا أكثر بتراخيص لإجازات، والرجوع بالتالي إلى الحياة المدنية، فظيع. بينما، كنا نحاول البرهنة، بعدم وجود للحرب على وجه الإطلاق. كان الموقف عبثيا تماما، مثل "فابريس" Fabrice في رواية ستاندال: chartreuse de Parme la . كنا نذهب للتسكع، باللباس المدني، في الجبل المجاور للجزائر العاصمة، كي نثبت بأنه لا يحدث شيئ، وفي نفس الوقت ننتشل ذواتنا من السأم.. عندما رحلت إلى المغرب، سنة 1956، التقيت جزائريين أمدّوني بصحيفة جبهة التحرير الوطنية "المجاهد"، التي كانت تصلنا من سويسرا، بطريقة سرية جدا. بدا إلي، أن لغة "المجاهد"، تتسم بكونها خشبية، بل اكتشفتها أكثر ستالينية، من اللغة الجافة السيئة للحزب الشيوعي، الذي عرفته حقا في فرنسا. كنت، كما لو أني محصن، حيال هذا النوع من اللغة. عشت تجربة، من هذا القبيل سابقا، مع أشخاص آخرين، فترة مراهقتي، وقد كنت وقتها منبهرا بالإيديولوجية الماركسية-اللينينية، بحيث لم يكن القصد يتعلق بالبحث في الحقيقة، لكن الممارسة الدائمة للدعاية. من هذه الأجواء أتيت، لذا حينما سمعت اللعبي، يحدثني بعبارات، مستقاة من العقيدة الماوية، كان جوابي: "الأمر غير معقول!" ثم رحلت، وبقينا أصدقاء. في لحظة ما، قلت: "سأتوقف هنا، ولن أواصل مع أنفاس". سنة بعد ذلك، عدت إلى فرنسا، لمحاولة القيام بعمل ما، رفضت اقتفاء خطى السرفاتي. بوسعي القول، أني ساهمت مع أنفاس إلى غاية انعراجها سياسيا نحو الماركسية اللينينية، والماوية السرفاتية. حاول أبراهام السرفاتي في اعتقادي، بناء فكر ماركسي- لينيني للعالم الثالث، بينما كنت مصابا بحساسية نحو هذا الاتجاه، لذلك حدث التباعد. فيما بعد، التقيت واللعبي ثانية. حين اعتقاله، أسرع إلى تحذيري: "أهم شيء أن لا تأتي إلى المغرب، لأنهم يعتبرونك، الشخص الملهم، لفكر التشويش على النظام". هكذا، تفكير البوليس دائما! ما إن يتواجد أجنبي حتى توجه إليه تهمة تحريض أهل البلد، تحت مبرر أنهم ليسوا قادرين على التفكير من تلقاء ذاتهم، بكيفية طبيعية! راسلته حينما كان في السجن، باسم مستعار لأحد أصدقائي هو"بارتيليمي". استمرت مراسلاتنا، لكن مع الحفاظ دائما على هوة التباين في الرأي. أدرك اللعبي جيدا، أني لن أنضم إلى حركته. داخل السجن، عاد إلى توضيح هذه المسألة كليا، وبكيفية شجاعة جدا، فقد عُزل بشكل مرعب. وفي عمله: le chemin des ordalies، لم يتكلم اللعبي بتاتا لغة الخشب، بل بالفعل هو من يبحث عن الحقيقة، ويريد لها أن تتجسد. عندما قرأته، تناقشت معه في هذا السياق، لقد التقيته منذ فترة قصيرة بمدينة مونبوليي. كان رائعا، أن نجدد اللقيا، غير أن تباين تصورنا ظل قائما.. شعوره نحوي، أني أتجنب التورط. لم يستوعب، تصوري.
* ألم يبدأ هذا التحول السياسي، منذ أولى أعداد أنفاس، عبر التأمل في الثقافة، حتى وإن لم يتشكل ذلك فورا؟
** كنت إلى جانب هذا النوع، من إعادة التساؤل، مثلما فعل فرانز فانون، وكل التيار المسمى بعد ذلك، بالعالم الثالثي. لقد كنت كليا مؤمنا بهذا التحرير للعقول، بل، واعتقدت أنها قضية ينبغي لها كذلك الامتداد إلى فرنسا. مثلا، كتاب ألبير ميمي: بورتريه المستَعمَرِين، وقد سبقه بورتريه المستَعمِر. كنا متفقين، لقد رأينا فعلا أن الأول كالثاني، كانا مبتورين، فالمستَعمِر يسبب البتر، والمستعمَر يتحمل ذلك. بالتالي تقوم جدلية، بين الواحد والآخر. كنت كليا هنا، منخرطا بالمطلق في المشروع، لكن عندما أضحى انضواء.. مثلا نصوص، تأتي من السفارة الكوبية، يظهر أحدها لينين بمثابة إله يجعل القمح ينمو، وأشياء من هذا القبيل. هنا صرخت: (كفى! لاينبغي أن نغالي). في حقيقة الأمر، كل ما ساد سلفا، مع ضرورة التحرر مما عانيناه.. لقد أدركوا فعلا، أنه ليس خاصا بالمستعمَر، بل تبلور طموح ثقافي، دعا بالمطلق إلى ضرورة التخلص مما فُرض علينا، دون إدراكنا لما صُنِع لنا مسبقا، إذا صح القول. إذن بهذا الخصوص، كنا متفقين تماما، في هذا الإطار، كتبت نصي: كامو المستَعمِر المتسامي. بحيث، أن أكثر الأشخاص انفتاحا مثل ألبير كامو، يعتبرون دون دراية منهم، ضحايا رؤية جاهزة، نحو الآخر. شعرت، أنه بهذا التبادل الذي كان لدي معهم في المغرب، يمكنني التخلص من هذا التأثير، بالتالي أن أحرر ضمنيا، فكري ذاته.
* هذا أفسح المجال فيما بعد لكثير من الأبحاث، حول الرؤية التي كانت للكتّاب الفرنسيين حول المغرب. أعمال حول الاستشراق.. لقد كنتم رائدين، لأن هذه الأعمال تعتبر نسبيا حديثة؟
** خلال تلك الحقبة فكرت في تهييء أطروحة حول إدريس الشرايبي، لكن اللعبي والنيسابوري، كانا مهتمين جدا، بالكتابة عنه. لذلك، قلت مع نفسي:(ليس علينا نحن الفرنسيين، القيام بذلك، ومن ضمنهم أنا. أولا، لا أنتمي إلى هذه الثقافة ولا الماضي ذاته، وإذا كانت هناك موروثات، فليست أبدا نفسها. بالتالي، سأستفيد لحظتها من الأمر لصالحي، وأستثمره لأهدافي). إذن رفضت.
* لقد عانى بيرت فلينتFlint، من كونه أجنبيا ولم يفهم جيدا خطاب التحرر من الاستعمار الثقافي، وعلى المغاربة أن يكتشفوا ثانية أنفسهم بأنفسهم.. لقد أحس بأنه وٌضِع ضمن كيس المستعمِرِين. هل انتابكم كذلك، أيضا هذا الشعور؟
** لا، أنا كاتب، واثق من نفسي إلى حد كبير! لقد تحدث غوستاف يونغ، عن هؤلاء الأوروبيين الذين يصيرون بغتة زنوجا مع الزنوج، وعربا مع العرب، إلخ. لم أشعر قط، أنني أفعل ذات الشيء. في نفس الوقت، لم يحدث لدي الانطباع أبدا، أني كنت آثما استعماريا. امتلكت، أساسا لفترة طويلة جدا، فكرا جماعيا: كنت أشعر مثل الضحايا، ولا يوجد فقط المستعمَرين، لكن هناك أيضا من لم يُمنحوا إمكانيات اكتشاف أنفسهم، ويفكروا، يعني ببساطة أن يصمدوا. أنا عشت وسط هذا العالم، حيث يتعلق الأمر، بأن تصمد، ثم نقطة إلى السطر. إذن، لم أعان، بهذه الكيفية، وأحيانا أشعر أن اللعبي، يخاطبني: (لاينبغي لك أبدا، على أية حال أن تأخذ حيزا أكثر مما ينبغي، فتقدم انطباعا أنك الفرنسي الذي)، أدركت هذا جيدا، وقلت مع نفسي: (صحيح، لايمكنني التفكير مكانه). بالتالي، فوّضت له الأمر. صحيح، كانت لديهم هذه الرغبة بأن ينجزوا مشروعا كهذا، وليس الفرنسيون من سيذهبون إلى الاستفسار عن إدريس الشرايبي وألبير ميمي ومحمد ديب.. أسماء قرأتها جميعا، كأشخاص لهم هذه الحاجة، ويلزمني العثور على الضرورة المماثلة، ليس من أجل الاهتمام بهم، ولكن محاولا التحرر من التمركز حول الإرث العرقي الأوروبي، وهذا الفكر المتعالي المستند على رفض الذهاب نحو الآخر، بل الاكتفاء بتغيير الآخر، وإعادة ربطه به. توخيت، التحرر كليا من هذا.
* هل نجحتم؟
** أعتقد بأني نجحت في بلورته، على نحو ما. لكني، قمت به من خلال فكر متمرد، بحيث كان لدي الانطباع أنه يجدر بي، تحدي الناس في فرنسا عندما عدت سنة .1969 أردت، أن أصدح بالقصائد الكيلوميترية، التي لم تكن تناسب قط العصر، ولم أنتمِ إلى أي حزب. لم أك شيئا، مع ذلك سلكت السبيل. لقد كنت مدعيا جدا، ثم بعد ذلك المجازفة، لأنه في العمق اعتمدت على الطاقة التي اكتشفتها داخلي، من أجل مهاجمة الآخرين، بحيث تماثلت مع وضع دون كيشوط في مواجهته لطواحين الهواء، إلى أن أصابني المرض، نعم بالفعل مرضت: فالثوار لا يتجاوزون سن الأربعين! لقد، حققت تحرري الذاتي، وأنا أنتحر بكيفية ما، بإدراك نوع من الصلابة، لكن بحيوية دائما، على أية حال. هنا بدأت مغامرة جديدة، لا صلة لها مع أنفاس. مغامرة شخصية، وصوفية.
* مع هذا المسار الذي قادكم كي تصبحوا راهبا، كيف تقيّمون آنيا تجربة أنفاس؟ هل كانت حقبة استقصاء؟ أم انفلات؟ أم معاناة؟
** لا أعرف أبدا. احتجت إلى مثل هذه اللقاءات. لقد اقتفيتها، ضمن بحثي عن طريق الحرية. أظن، أن هذا، يمثل جزءا من مساري. لا يوجد تناقض، بل على العكس، كانت هناك حاجة إلى فكر يتخلص من مبدأ اللا-تناقض، المتأتي من سيكولائية العصر الوسيط، مثلما يعيش الشعراء فطريا حالة إعادة المساءلة، بفكر متناقض، بل والسلب. بمعنى، نعلم جيدا، وجود ما هو متعذر بلوغه، وبشكل خاص، لا يمكننا انتحال الذات الإلهية، أو القيام بعملها ولا بلوغها، بحيث سيظل ذلك صعب المنال، طبعا، إذا كنا مؤمنين. يقوم تسامي، بين الخالق والمخلوق، هذا مايراه المسلمون فعلا، لكنهم لا يتمثلون، سوى هذا التسامي، بينما يحس الشاعر بوجود هذا اللغز، واستحالة تناول الحقيقي، مع شعوره في ذات الوقت، بإمكانية أن يحياه يوميا، من خلال كل وجوده. بوسعنا القول، في الآن نفسه، حين اتصافنا بالإيمان، أن الله متعالي ومحايث، تناقض يجهله للأسف كثير من الأشخاص المؤمنين، لكن الشعراء يعيشونه رغم تحدثهم عن إلحادهم. يحسون، بلغز الحياة، وكونه يستمر لغزا، لكني مع ذلك يمكنني أن أحياه. بهذا الخصوص، ماعرفته برفقة أنفاس، لا يتناقض مع مآلي الراهن، فقد مثّل ذلك مجرد مرحلة. على العكس، أشعر أن الأشخاص الذين التقيت بهم وقتها، اكتسحتهم حاجة أنطولوجية، كي يصبحوا عميقين جدا.
حاورته: زكية الصفريوي
ترجمة: سعيد بوخليط
* هامش :
(Kenza Sefrioui :La revue Souffles (1966- 1973
Editions du sirocco 2013. PP.313- 321


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.