يقول عبد الله العروي : " إن إنكار الثقافة الغربية لا يستطيع أن يشكل في حد ذاته ثقافة ، والرقص المسعور حول الذات المفقودة لا يجعلها تنبث من رمادها " . كلما مرَّرت جملة عبد الله العروي العظيمة هاته أمام ذهني كلما توقفت على مفارقات فضيعة ومغالطات مقيتة شتى لازال يستهلكها فكرنا اليوم دون أن يمل عملية الإجترار المتعبة هاته ، ولازال يقوم عليها وعينا الجماعي على الرغم من هشاشة بنيانها وتهافتها الواضح والجلي الذي يفضحه نظر عقلي وفحص نظري بسيط . من أبرز تلك المغالطات و"البراديغمات" الزائفة التي تحولت إلى أرضية ينطلق منها أي تفكير مسكون بهوس الضدية والمعية أو نقد موجه ضد الآخر - وهذا الآخر كما في جميع الحالات هو الإنسان الغربي وثقافته - هي التي تعتبر ذلك الأخر ، القصي والبعيد عن حميمية ذاتنا، إنسان يعيش في مجتمع فردي وذري متشرذم يفتقد إلى التضامن الجمعي والتآزر الأسري القائم على عصبية الرحم (القبيلة) ؛ وبالتالي فإنه بفرديته المطلقة يعيش في أعتى أشكال الفساد والإرتكاس الأخلاقي ، وأمحن حالات الشقاء والضياع الوجودي ... بينما نحن في مجتمعات العالم الثالث ننعم بحياة أخلاقية وإجتماعية جماعية فريدة وهي كنز يحسدنا عليه غيرنا . حيث تعمل ميكانيزمات التضامن الآلي على الحفاظ على لحمة المجتمع وتماسكه ، وانصهار الفرد داخل صيرورته . هكذا قد نعتقد للوهلة الأولى ، خاصة إن أعوزتنا الحصافة وأعمتنا البلاهة ، أن مجتمعات العالم الثالث (وفي واجهتها المجتمعات العربوإسلامية) مجتمعات يسودها التضامن والحس الجماعي المسؤول الذي يقدم المصلحة العليا للجماعة ويأخر - بل ويطمر - المصلحة الذاتية الأنانية للفرد . بينما المجتمعات الغربية المتقدمة تقوم على نفي رابطة الجماعة والأسرة التي تربط الفرد ببؤرة إنتمائية محددة وبالمقابل تعزز الإستبداد الفردي داخل المجتمع . لن يحتاج منا الأمر معرفة واسعة بميدان السوسيولوجيا لإدراك أن كل ما سبق وتقدم من مزاعم تعوزها الدقة ولا تتطابق بشكل جيد مع الواقع الذي نزداد كل يوم تأكداً واقتناعاً بعجزنا عن فهمه ونقل صورته كما هي . فإذا لم تسعفنا أدواتنا المعرفية في تحليل وفهم الواقع فهل لازال من المعقول والصحي الإعتماد عليها في إصلاح ، وتغيير ، هذا الواقع وتجاوزه ؟ يخبرنا جملة من مفكري الحداثة في يومنا هذا ، ومن أبرزهم د.محمد سبيلا من خلال نصوصه المتنوعة التي تناولت سؤال الحداثة ، أن الحداثة وإن كانت في جملتها تستعصي على التحديد وتنأى عن التعريف المباشر والثابت فإنه مع ذلك يبقى من الممكن اعتبارها ، أي الحداثة ، في أحد معانيها الواسعة هي إرادة "مأسسة" الحياة العامة ، أي هيمنة نظام المؤسسات على جميع أشكال الإجتماع البشري . وهكذا فإن المجتمعات الغربية المتقدمة التي قطعت شوطا بعيدا في مسلسل الحداثة والتحديث أعادت صياغة نظام العلاقات والروابط البشرية والإجتماعية داخل وعاء وقالب صارم لا يخضع إلا لقانون ومنطق المعاملات المؤسستية المنظمة ، والتنظيم هو نقيض العشوائية والعبثية . فعندما يصبح في بلدان العالم المتقدمة لكل حي أو مجمع سكني هيئة تشبه إلى حد ما برلمانا مصغرا يعنى بمشاكل ومطالب الساكنة وتصبح الأسر ، على قلة أفرادها ، تعقد أسبوعيا إجتماعات يتساوى فيها صوت الكبير مع رأي الصغير لتدارس الإقتراحات والأفكار بخصوص نظام المعيشة والمشاريع المستقبلية للأسرة فإنه يغدو من العيب والعار والبؤس الأخلاقي الصارخ أن نتحدث مجدداً منتقدين لما نسميه بوقاحة المجتمع الغربي الفرداني ، فأين نحن من هذا التنظيم والتدبير العقلاني للحياة الجماعية الذي نسميه فسادا أخلاقيا وفردانية طائشة ؟ وحده افتقارنا للحرية وجهلنا لمعنى الفردانية ما يجعلاننا نتوجس منهما ونخشى الإقتراب إليهما . إن المجتمعات الغربية فردانية في الظاهر ، وهذه الفردانية المرتبطة بالحرية في المبادرة والإبداع هي سر توفقها ونجاحها ، بينما في العمق تقوم هذه المجتمعات على التزام وانضباط جماعي لنظام قوانين مؤسسات صارم ، فالمجتمع الغربي الرأسمالي تجاوز بمراحل تاريخية طويلة نظام الإجتماع القائم على عصبية القبيلة وعصبية الرحم والعقيدة الذي تحدث عنه إبن خلدون في القرون الوسطى ، واستطاع أن يبلور نظام مؤسسات حديثة متينة ليقوم عليه المجتمع الحديث (لاداعي للتذكير بالعوامل الذاتية والموضوعية التي ساعدت على هذه النقلة الحضارية : ثورات فكرية علمية واقتصادية سياسية) . هذا بينما مجتمعاتنا السقيمة ترفع على الواجهة صورة عريضة ومزيفة لنوع من حياة التضامن الجمعي بينما تحت الرماد تستعر نار الأنانية الوحشية ونوازع العدوان الفردية المتطرفة التي على أهبة الإستعداد لأن تخسف ، بأمر ومحرض ذاتي فردي ، وتدمر بكل ما بنته الأيادي والسواعد مجتمعة . (الإستبداد السياسي نموذجا ؛ وقس عليه استبداد الأب على الأسرة ، وبدرجات متفاوتة استبداد الذكر على الأنثى واستبداد الكبير على الصغير) ... بكلمة جامعة ، هناك اختلاف عميق وملموس بين المجتمعات الغربية التي استفادت من إرثها النهضوي والتنويري واستطاعت أن تحقق نقلة نوعية كبرى إلى نظام المجتمع الحديث الذي يقوم على رابطة المؤسسات ، وبين والمجتمعات التقليدية التي لازالت تقوم على عصبية القبيلة وعصبية الرحم والعقيدة . فالإختلاف بين المجتمعات الغربية الحديثة والمجتمعات العربية-الإسلامية (مجتمعات العالم الثالث) التقليدية هو اختلاف فقط في نظام وتركيبة العلاقات التي تسود كل مجتمع على حدى ، وليس اختلاف في طبيعة المجتمع ككل . فإذا كنا قد اعتدنا على هجاء وازدراء المجتمعات الغربية بحجة أنها فردية وذرية البنيان فهذا لا يرجع إلا إلى عجزنا عن إدراك نظام الحياة الغربية الجماعية وكيف تنتظم علاقة الفرد بالجماعة فيها. والواقع أن معظم نقدنا للآخر هو نقد إيديولوجي 'مغالطاتي' ، أي نقد لا يروم التأسيس والبناء ، وتشييد جسور التلاقي مع الآخر ، بقدر ما يروم تصفية الحسابات وتسريب المغالطات . وهذا أبدا لا يمكن أن يكون مدخلا لتشكيل ثقافة أو حتى ذريعة ومصوغة للحديث عن "الحق في الإختلاف" أو دعوة للشروع في عملية إيقاظ الذات المفقودة من سباتها بالطبول والمزامير . عماد أجحا