امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب        الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    التكوين في مجال الرقمنة.. 20 ألف مستفيد في أفق سنة 2026    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    هولندا.. توقيف 62 شخصا في أحداث الشغب الإسرائيلي بأمستردام    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    الشرطة الهولندية توقف 62 شخصاً بعد اشتباكات حادة في شوارع أمستردام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    محامو المغرب: "لا عودة عن الإضراب حتى تحقيق المطالب"    مؤسسة وسيط المملكة تعلن نجاح مبادرة التسوية بين طلبة الطب والصيدلة والإدارة    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز        بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط        حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم العربي وإشكالية ممارسة النقد الذاتي على المستوى الفردي والجماعي
غياب المواطنة وممارسة الحريات الفردية والجماعية ساهم في استبعاد إمكانية نقد الذات
نشر في المساء يوم 05 - 02 - 2011

يُعرّف «قاموس لالاند» مفهوم النقد على أنه «فحص مبدأ أو ظاهرة للحكم عليه أو عليها حكما تقويميا وتقديريا بوجه خاص، بهذا المعنى، فالفكر النقدي هو الذي لا يسلم بأي تقرير
دون التساؤل أول الأمر عن قيمته»، ولأن محجة السؤال والتساؤل صعبة وشاقة، فإنها تبقى مشروطة عند الفرد بشروط نفسية ومعرفية وعصبية هائلة، خصوصا عندما يضع الفرد ذاته موضع مساءلة ومحاسبة، معرفيا وأخلاقيا وعلائقيا، وهي عملية شاقة أيضا على المجتمعات التي تجتر قرونا من تقاليد تقديس البشر وإنزالهم منزلة الأنبياء المعصومين، فالنقد في الحالتين معا هو طريق الشجعان والمغامرين والأبطال... فليس من السهل على الإنسان أن يودع هناء وسعادة الاعتقاد الشديد في فكرة ليركب موجة التعاسة والشقاء بنقدها، مع ما يترتب عن ذلك من شك وحيرة وما يتطلبه من عنت فكري وجهد عصبي ونفسي جبار، هنا نفهم معنى أن يكون النقد عند كانط يحيل إلى معنى التأزيم «critiquer c'est mettre en crise»، وليس كل الأفراد وكل المجتمعات قادرين على التأزيم... إذ منهم من يعمل جاهدا لتفاديه ودرء متطلباته... وفق هذه الحدود والأبعاد التي يحيل إليها مفهوم النقد الذاتي، تحاول «المساء» في هذا الملف أن تقف على «نصيب» الإنسان العربي من النقد الذاتي، سواء كفرد وشخص أو كمواطن وعضو في مجتمع, بالقياس إلى عدة مؤشرات مستقاة من الدين والعلم، بشقيه «الدقيق» والإنساني، تظهر الحاجة الملحة إلى النقد، فما تعيشه المجتمعات العربية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والمعرفي من تكلس وتشنج وانحطاط يعزى في الدرجة الأولى إلى كون العربي، حتى الآن، لم يتعلم فضيلة النقد الذاتي، ببساطة لأنه يجامِل ويحب أن يُجامَل، هكذا نحن، رؤساء ومرؤوسين، آباء وأبناء، أزواجا وزوجات.. ومن ثمة دولا وجماعات.
إن النقد هو نوع من العلاقة التي تضعنا، دوما، في أزمة مع الآخر أو مع الذات. أن نمارس النقد هو، بشكل من الأشكال، أن نؤزم علاقتنا مع الموضوع الذي نمارس عليه هذا النقد، سواء كان نصا أدبيا أو سلوكا وممارسة معينة أو ذوات ما. لكن الأزمة (أو التأزيم) هنا ينبغي النظر إليها انطلاقا من منظور إيجابي خلاق ومنتج، وليس من منظور سلبي وغير منتج، لأنها مجرد قناة أو وسيط نتوخى من خلاله إعادة بناء الشيء أو الذات التي ننتقدها، نقف عندها للتمعن مليا في تكوينها وأفكارها وممارساتها، بالشكل الذي يساعدنا على إدراكها وفهمها بشكل جيد. معنى هذا أن علاقتنا بالشيء الذي نمارس عليه النقد لا تكون دائما محكومة بالتساكن والطمأنينة، التي تتسلح أحيانا كثيرة، في نوع من التواطؤ معه. إن النقد مجابهة وصراع يفترض التوفر على أسلحة كفيلة بممارسته. حين يمارس الناقد الأدبي مهمته، فإنه يتوفر على أسلحة نظرية ومفاهيمية تسمح له بتفكيك النصوص، والأمر نفسه ينسحب على النقد الفني، أيا كان تخصصه. أما في ما يخص الممارسة النقدية، التي تبني كموضوعات لها نقد فكر الآخر (الغرب أو أيا كان) وممارساته التاريخية والسياسية والثقافية، أو نقد الذات (نقد عقليتها ونمط تفكيرها وفهمها للوجود والعالم المحيط بها ونقد ممارساتها وإخفاقاتها وإحباطاتها... إلخ)، فإن أولى الأسلحة التي ينبغي التوفر عليها هي الجرأة والمجازفة والوضوح والنزاهة الفكرية والوضوح النظري والفكري والتحديد الصارم للأهداف والغايات المراد بلوغها، وهي لعمري، أسلحة من الصعب التوفر عليها دائما، لأننا إن حزنا بعضها فلا نحوز كلها، لاعتبارات ترتبط أساسا بالعقلية الثقافية وبطبيعة الممارسة السياسية التي يحكمها النفاق والتدليس والتأخر التاريخي، على مستوى البنيات المادية والذهنية، وغياب ثقافة النقد. الأمر لا تتحكم فيه النزعة الإرادوية ولا الفهم التبسيطي ولا القواعد والثوابت التي تأتي من خارج حقل النزاهة الفكرية والثقافية والشجاعة السياسية والتاريخية، بل تحكمه عقدة تناقضات ترتبط بلحظة تاريخية وبإرث ثقافي كله دأب، منذ عقود وقرون، على الوقوف على نواقص وعيوب وأخطاء الذات الجماعية والذات الفردية، دون عقدة نقص أو إحساس كارثي بالذنب أو رغبة في الإذلال وإهانة الكرامة. إن ممارسة النقد للذات الجماعية وللذات الفردية هو من قبيل المهمات الكبرى والأساس التي لا تضطلع بها سوى الشعوب والذوات الواثقة من نفسها، تلك التي تعلمت أن النظر بأعين مفتوحة إلى النواقص والأخطاء هو الشرط الأساس لكل تقدم تاريخي.
النقد وطبيعة التربية
ترتبط ممارسة النقد للآخر أو للذات، عموما، عند الجماعات والشعوب بطبيعة التربية المدنية السائدة في كل واحدة منها على حدة. كلما كانت التربية الدينية جزءا من التربية العامة التي يتشربها الإنسان منذ طفولته الأولى، باعتبارها شيئا عاديا ينمو وينضج مع نمو شخصيته وكيانه وذهنيته، كما بدت ممارسة النقد أمرا عاديا أيضا كنوع من المصارحة مع الذات وكشف خباياها والوقوف عند الأخطاء التي قد تساهم في تدميرها وتأخرها، لاستيعابها وتجاوزها. داخل هذه الممارسة النقدية، التي تكون جزءا من التربية العامة ومن التنشئة الاجتماعية، يصير الحس المدني عاليا جدا، بحكم وضوح المرجعية التي تسنده. يتعلق الأمر، أيضا، بطبيعة الثقافة الاجتماعية والسياسية السائدة داخل كل مجتمع على حدة، هل تنهض على البوح والاعتراف أمام الآخرين وفي الساحة العمومية، أم على الإخفاء والتغطية وإبعاد كل ما من شأنه أن يكشف أمامنا نواقص الذات وأعطابها، وهو الإخفاء والسرية اللذان يقودان، في أغلب الأحيان، إلى استفحال المشاكل وتحول الأعطاب إلى حوادث مزمنة قد تقود في نهاية المطاف إلى الاندحار الثقافي والسياسي، أو إلى الانتحار التاريخي، كما حدث لدول وشعوب بأكملها ولأفراد وشخصيات ثقافية وسياسية وتاريخية معروفة. إن ثقافة الإخفاء والتغطية والسرية التامة ثقافة لا تعترف بالنواقص والعيوب، وقديما قال الشاعر العربي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
هذا النوع من الثقافة، التي تجرم البوح والاعتراف وتعتبر الذات، سواء كانت جماعية أو فردية، كيانا متراصا إسمنتيا قائما لا تعتريه الخطايا ولا تعتوره الهِنات، ساهمت بشكل أساس -وما زالت تساهم إلى حد الآن- في تحطيم دول وكيانات سياسية واجتماعية وثقافية تاريخية. لقد أسهمت ثقافة الانغلاق هذه، والرضى المرضي على الذات، أيا كانت كوارثها، في الذهاب بالاتحاد السوفياتي وبالكثير من الأنظمة التوتاليتارية إلى حتفها وأسهمت في موت الكثير من الثقافات التي لم تستطع التعامل مع مستجدات العصر ومع معطيات الحداثة المتسارعة، فصارت، داخل هذا الانغلاق المميت والتمجيد القروسطوي للذات، مجردَ جثث نتنة تنتظر من يدفنها. إن الرضى المرضي على الذات السياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية هو جزء من المشكلة وليس من الحل.
يعتبر النقد الذاتي من ضمن الفضائل المدنية الكبرى، إن لم نقل تحديدا إنه فضيلة الفضائل بامتياز. إن عدم ممارسته يعتبر من السلبيات أو النواقص التي تجعل مجتمعا ما عاجزا عن مصارحة ذاته، غارقا في ممارسات تتصف بالخمول والطمع وثقافة الكذب والرياء والتملق والخضوع والطاعة العمياء، ثقافة يلقي داخلها كل فرد باللائمة على غيره، يتهرب من المسؤولية ويستكين إلى التقليد, الذي يوفر عليه الكثير من وجع الرأس. لقد سبق للأنظمة والأحزاب الشيوعية، في الكثير من الدول، الرقي بالنقد الذاتي إلى مستوى ممارسة سياسية علنية، لكنها، في أغلب الأحيان، كانت تمارس وفق نهج تحريفي ويكون القصد منها القضاء على الخصوم والمنافسين السياسيين وتنحيتهم، ماديا ومعنويا. لقد تم النقد الذاتي في هذه الأنظمة والأحزاب من منظور إيديولوجي واحدي، همه الأساس رص الصفوف، للاستمرار في السلطة. وقد رأينا مسرحيات سياسية في هذا السياق، سواء في الاتحاد السوفياتي أو الصين أو رومانيا وغيرها. أما في الغرب، فإن ثقافة النقد الذاتي، وإن كانت ذات أسس ثقافية ودينية وفكرية وسياسية متينة، فإنها لم تمارس دائما بنفس الوضوح والنزاهة، لاعتبارات سياسية داخلية أو جيو إاستراتيجية مرتبطة بوضع هذه الدولة أو تلك فوق الخريطة العالمية. لقد رأينا مثلا بصدد فضيحة «ووترغيت» (watergate)، المرتبطة بالتجسس على مقر الحزب الديمقراطي، كيف أن الرئيس نيكسون لم يعترف بضلوعه في التجسس، حتى بعد أن فضح ذلك الصحفيان في جريدة «واشنطن بوست»، واضطر, في النهاية, إلى الانسحاب والتخلي، صاغرا، عن كرسي الرئاسة. الأمر ذاته يمكن قوله عن الدول الأوربية التي استعمرت إفريقيا، إذ لم نسمع ولم نقرأ يوما -وإلى حد الآن- خطابا لرئيس دولة أو لزعيم أوربي ما، يعترف فيه بأخطاء الاستعمار ويمارس نوعا من النقد الذاتي للذات الأوربية المتمركزة عرقيا، والتي استفادت من خيرات تلك القبائل والجماعات البشرية وتركت لها إرثا استعماريا معقدا، ما زالت مشاكله إلى حد الآن تتفجر بشكل عنيف كصراعات وحروب حول الحدود الموروثة عن التقسيم الاستعماري القديم. إن ممارسة النقد الذاتي عملية تساهم، في هذا السياق، في إزالة العمى الإيديولوجي السياسي، للنظر بوضوح إلى الأشياء، بعيدا عن الأحكام المسبقة الزائفة وعن التعاطي المغلوط مع المشكلات وعن النظرة الضيقة إلى الذات، التي تعتبر هذه الأخيرة مركز الكون، وما عداها مجرد أفلاك أو نجوم صغيرة تدور حولها...
النقد الذاتي عند الفرد والجماعة
قلنا إن ممارسة النقد الذاتي شأن يتعلق بطبيعة التربية المدنية التي يتلقاها الفرد، سواء داخل الجماعة التي ينتمي إليها، أو كفرد قائم بذاته. لقد بينت الكثير من السياقات والدلائل أن العرب، عموما، بعيدون كل البعد عن ممارسة النقد الذاتي (l'autocritique)، لاعتبارات عديدة، ثقافية وعقائدية وسياسية واجتماعية وتاريخية.. لنقل، أيضا، إن غياب هذا النقد يرتبط بغياب التربية المدنية أو التربية على المواطنة، من العلاقات الاجتماعية ومن الممارسات السياسية، التي يعتمد أغلبها على الطمع المهذب أو الجشِع، وعلى بث أخلاق الخضوع والتملق والتبعية وتمجيد الزعماء، ضمن ما يسمى الترويض والتدجين أو ما أسماه نيتشه «أخلاق العبيد»، ويرتبط هذا الغياب، أيضا، بانعدام الوعي أو تدنيه إلى الحضيض وبانمحاء كل قيمة مضافة يمكن أن تمنح لمصطلح «المسؤولية» وبغلبة اصطلاحات الستر والتقية وإعلان عكس ما تخفيه النفوس وعدم وضوح الساحة السياسية بالشكل الذي يسمع للفعلة داخلها بأن يساهموا فيها، انطلاقا من مبدأ المساواة.
إن قرونا من الاستبداد السياسي والتحصين الثقافي السلبي للذات ومن الغياب الفاجع للمثقفين الذين صمد القليل منهم واندمج أغلبهم، انطلاقا من تفسيرات متنوعة، في الدول التي برزت بعد موجة الاستقلالات، وغياب المواطنة وممارسة الحريات الفردية والجماعية.. كل ذلك ساهم، بشكل حاد، في استبعاد أي إمكانية لممارسة النقد الذاتي عربيا. هناك التشبث بالرؤى والمواقف والأفكار، إلى آخر رمق، حتى ولو كانت خاطئة, منذ البداية، وعصية على التبرير والشرح، وحتى ولو قادت إلى كوارث سياسية تاريخية كما حدث في 8491، وخلال نكسة حزيران 7691 وخلال حربي العراق، الأولى والثانية، حيث قاد الزعيم -الضرورة شعبا بأكمله إلى الهلاك وعرّض بلاده للاحتلال الأمريكي وللفوضى الخلاقة التي يحلم بها المتطرفون، وانتهى في حفرة. لقد خرج عبد الناصر، بعد هزيمة 7691، ليعلن تنحيه عن السلطة، لكن الجماهير سرعان ما خرجت إلى الشوارع مطالبة ببقائه. كان ذلك الخطاب يتضمن بوادر نقد ذاتي سياسي، لكنه أتى بعد فوات الأوان، أي بعد خراب مالطا ولم يكتمل، ونرى الآن على «الجزيرة» صحافيا عايش أغلب الفترات السياسية في مصر، منذ بداية الخمسينيات وصاحب الزعماء والفعلة فيها، يسرد حكايات شبيهة بتخيلات غير منسجمة ولا متناسقة، ولكننا لم نسمعه ينبس، ولو ببنت شفة، بنقد لموقف من مواقفه السابقة، بالرغم من كثرتها وأخطائها.
لا تنهض العقلية العربية على البوح والاعتراف، ولم نر يوما فاعلا سياسيا أو زعيم حزب أو مثقفا معروفا أو فاعلا تاريخيا، في مرحلة ما، ينبري أحدهم لممارسة النقد الذاتي لمواقف أو سلوكات يرى أنها غير صائبة، لذا نرى الأنظمة السياسية، مثلا، تحيط نفسها بالمخابرات والأجهزة السرية، بالرغم من أن الأمر في زمن دمقرطة المعلومات والأخبار، سواء عبر موقع «ويكليكس» أو عبر المدونات والشبكات الاجتماعية «فايس بوك» و«تويتر» وغيرهما، أصبح غير ذي جدوى. لقد تواطأ الكثير من المثقفين العرب مع أنظمتهم ومخابراتهم، ومنهم، على مستوى العالم العربي ككل، من استفاد من خيرات الريع النفطي، كما تجلى في ما سمي فضيحة «بونات صدام»، وتلقى الكثيرون منهم جوائز أدبية من أنظمة قمعية، لكن لا أحد منهم انبرى، بجرأة وشجاعة، لممارسة النقد الذاتي لمواقف يعتبرها الكثيرون منهم «عادية»، حيث يمكن أن ترى البعض منهم يدافع في الفضائيات عن الممانعة والحرية وحقوق الإنسان وعما شئت من الشعارات، التي لا تتطلب غير البراعة الصوتية والبلاغية، ويجالس، مساء، رجال مخابرات، واضعا خبرته «الميدانية» رهن إشارتهم... لا يتعلق الأمر، أبدا، بحكم قيمة، بل بحقائق يعرفها الكثيرون و«يصمتون» عنها. ينسحب الأمر ذاته على الفاعل السياسي، الذي قد يخوض في قضايا ومشكلات عديدة ويساهم في اتخاذ قرارات خطيرة وحاسمة، لكنه لا يضطلع، أبدا، بنقد آرائه ومواقفه الخاصة، لأن الأمر يتطلب جرأة سياسية ومعنوية لا يملكها، ولأنه يتعلق بنوع من المجازفة التي قد تعصف بطموحاته ومصالحه الشخصية. يلفي الفاعل السياسي نفسه مرتهنا إلى حسابات وأبعاد تتجاوز قدرته على الفعل والمبادرة، فيخضع لإملاءاتها وضروراتها، لأنه جزء لا يتجزأ منها، جزء من آلة لا تستقيم إلا به ولا تشتغل إلا بوجوده، فكيف ينتقدها، وهي راعيته والساهرة على مصلحته؟! لذا، نرى الكثير من الفعَلة، الثقافيين والسياسيين، في العالم العربي يستكينون إلى مواقف «الدوكسا»، ويتواطؤون ضد حريتهم وحرية الجماعة التي ينتمون إليها ويتحالفون مع قوى محافظة سلبية. هنا، بالذات، يكمن الفرق بين التأويل الديمقراطي للوقائع والأحداث والتأويل الاستبدادي لها، أي في حيز القبول بممارسة النقد الذاتي، الذي يرى الحقيقة والخطأ مفهومين نسبيين، أو حيز رفض النقد الذاتي، الذي يعتبر كل موقف أو رأي أو فكرة حقيقية لا يتسرب إليها الشك، حقيقة يلزم فرضها على الآخرين. يتعلق الأمر، أيضا، بنوع من التأخر التاريخي وبالمعاناة من حالة من القصور الثقافي وباستمرارية أطر ذهنية لا تطرح المسؤولية والمحاسبة والمراقبة والنقد كعناصر ضرورية انطلاقا منها ينبغي الحكم على سلوكات الأفراد والجماعات.
يعزى غياب النقد الذاتي، أيضا، إلى غياب مجتمعات مدنية حقيقية تتصارع داخلها المواقف والآراء، بشكل إيجابي، يمارس داخلها الفعلة المدنيون النقد الذاتي لممارساتهم، كما يعزى أيضا إلى غياب ذلك الوعي أو الرشد الثقافي الذي تتميز به الطبقة الوسطى في كل المجتمعات. لا يمكن المجتمع المدني أن يوجد إلا في مجتمع ديمقراطي يتصف ويؤمن بالخلاف والتعددية والحوار والصراع الثقافي والفكري والسياسي، الإيجابي والمنتج، وبغلبة التواصل والتسامح. يقول عبد الله العروي في هذا السياق: «لم تتكون بعدُ نخبة سياسية واسعة تتأهل وتتجدد باستمرار، تتحمل المسؤولية لمدة محدودة كعبء مكلف، وبالتالي مؤقت، كمرحلة لازمة ضمن تجربة أوسع وأغنى، فيستطيع المرء أن يقول: هناك مرحلة حياة قبل وبعد السياسة»... («ديوان السياسة»، ص. 351).
إن أحد عوامل غياب النقد الذاتي، أيضا، أن خطاب الحداثة ما زال وليدا طارئا في العالم العربي، بالإضافة إلى التشكيلات القبلية أو العشائرية أو الطائفية التي تسحق، سحقا كليا، الفرد وإحساسه الممكن بفردانيته ومسؤوليته الذاتية، وتحققه في مواطنة الافتراضية، لصالح الجماعة، بكل قواعد وضوابطها الشبيهة بحتميات ثقافية ونفسية وسياسية وتاريخية. إن التربية على الخضوع والاستسلام التام لما تفرضه الجماعة والأعراف لا يمكن أن تفرز فردا يتمتع بمزايا المواطنة واحترام الاختلاف والرأي الآخر والاعتراف بالأخطاء، أي فردا يمارس بشكل طبيعي النقد الذاتي، بل إن ممارسته الاستثنائية تصير, في الكثير من الأحيان، داخل المجتمعات العربية نوعا من الشذوذ والمروق والانحراف الذي يكون نصيبه الحتمي القمع والقهر. المسألة، في العمق، مرتبطة بالعقلية الثقافية، بالمعنى العام للاصطلاح، إذ كيف ننتظر ممن لا يمارس النقد الذاتي لمواقفه وسلوكاته، داخل الأسرة والبيت، كالأب أو الأم مثلا، أن يمارسه خارجها في مكان العمل أو في أي مجال آخر؟ وكيف يمكن للأبناء، الذين تربَّوا على الخضوع والطاعة والسلطة الأبيسية القاهرة، أن يكونوا أشخاصا واثقين من أنفسهم وقادرين على النظر بعين نقدية إلى أنفسهم أولا، قبل النظر إلى الآخرين؟..
لقد قال سينوزا، في إحدى شذراته الفلسفية: «لا نولد مواطنين، بل نصير كذلك»، والإنسان لا يولد متوفرا على القدرة والشجاعة لممارسة النقد الذاتي، بل يتلقاه، باعتباره جزءا من التربية التي تُمرَّر إليه وجزءا من الثقافة والتنشئة الاجتماعية التي يكتسبها ومن المحتويات التعليمية التي يتلقاها في المدرسة والجامعة، والتي تلقنه مبادئ الحس النقدي التركيبي وتشجعه على اكتساب مهارات وقدرات إدراكية نقدية، عوض «حشو» رأسه بمجموعة من المعلومات التي لا جدوى منها...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.