ربما يتفاجأ المتلقي وهو يقرأ افتتاحيات جريدة العلم ولغتها في النقد والهجاء السياسي الذي أصبحت تكثف منه مع اقتراب الانتخابات ضد حزب الأصالة والمعاصرة وضد الأحزاب الثمانية التي أعلنت تحالفها، فها هو عبد الله البقالي يتحدث عن «رجعية هذه الأحزاب»، كما يتحدث عادل بنحمزة عن تهديد هذه الأحزاب للديمقراطية وللتقدمية وللعدالة، بدون أن يرف لهؤلاء السادة جفن، ولا أن تعتلي وجوههم حمرة أو خجلوالأكثر إدهاشا هو ما صرح به عبد الله البقالي بقوله عن تحالف الأحزاب الثمانية: «إن حزب الأصالة أراد أن يفرغ فائض الأعيان في هذه الأحزاب الصغيرة»، ولا شك أن المستمع لهذا القول ستنتابه رعشة ليسائل السيد البقالي: «على أي أساس تأسس حزب الاستقلال وتضخم ومارس ديكتاتورية الحزب الواحد أزيد من نصف قرن؟ ألم يكن ذلك ومازال على سياسة الأعيان القائمة على الامتياز الأسري والعائلي والعشائري؟ وما هي مشكلة الريف وجبالة والأطلس وسوس والرشيدية مع حزب الاستقلال؟ ألم تكن المشكلة هي نهج حزب الاستقلال التحزب والسياسة والانتخابات والتزكيات على أساس الامتيازات العائلية والمصاهرات النسبية والمالية باعتبارها المنطلق والمحدد لتجبر هذا الحزب الذي أراد أن تكون ممارسته السياسية في المغرب على شاكلة الحزب الدستوري في تونس، وجبهة التحرير الوطني في الجزائر، وهو ما سبق أن أشرنا إليه فيما أورده الدكتور عبد الله العروي في «خواطر الصباح» إبان مصاحبة علال الفاسي لبورقيبة في مصر، ثم عادا إلى وطنهما ليكون بورقيبة رئيس دولة، ويحصل علال الفاسي على حقيبة وزارية من الدرجة الثانية، ولأمد قصير، لكن العروي كان قد جعل هذه المفارقة دليلا على تأخر المجتمع المغربي، لكن أحداث تونس بينت العكس، أي أن تلك المفارقة كانت دليلا على يقظة وتقدم المجتمع المغربي وبنهج استراتيجي، ففي الوقت الذي استطاع بورقيبة بشعاراته البراقة، أن يقود تونس وطيلة أزيد من نصف قرن نحو ديكتاتورية الحزب الواحد والتي واصلها بنعلي وزوجته، عبر ذبح الملكية في تونس كما ذبحها القذافي في ليبيا، في ذلك الوقت فشل فيه علال الفاسي في تكريس ديكتاتورية الحزب الواحد في المملكة المغربية، بناء على يقظة المغاربة وتصدي جيش التحرير والقوى الحزبية والمدنية لكل خطط حزب الاستقلال، ولعل مذابح حزب الاستقلال ومجازره ضد كل من عارض خططه من حزبيي الشورى والاستقلال الذين تقف “دار بريشة” شامخة كجبل أحد على ما لاقوه من ترهيب وتقتيل على أيدي «ديمقراطيي الحزب الاستقلالي»، كما أن المجازر التي شهدها الريف إبان ثورته على إرهاب حزب الاستقلال، لا يمكنها أن تزول من الذاكرة، وللإشارة أنه في إثارتي للقضية في إحدى الندوات بالحسيمة تقدم إلي أحد الاستقلاليين في استراحة الشاي قائلا: «... لقد كنت قاسيا في نقدك لحزب الاستقلال...، إن من كان يقتل في مجازر( 58-59) هو القصر وليس حزب الاستقلال.» فأجبته: لقد كان الريفيون يحملون شعار: «عاش الملك وليسقط حزب الاستقلال»، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تصدرون هذا الكلام الذي تروجونه من وراء حجاب في بيان رسمي لحزب الاستقلال إذا كان صحيحا ما تقولون؟ وتظلون ساكتين منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم؟ مع العلم أن سيدي محمد بنعبد الكريم الخطابي قد حمل المسؤولية الكاملة لحزب الاستقلال في رسالته الصادرة من مصر على إثر المجازر المروعة لحزب الاستقلال حينها ضد كل من سولت له نفسه نقد سياسة ديكتاتورية الحزب الواحد التي كان ينهجها حزب الاستقلال، بل إن معاناة الملكية نفسها مع حزب الاستقلال لم تتوقف، ولعل عبارة المحجوبي أحرضان على بساطتها فإنها تكتنز دلالات جمة حين قال عن وفاة السلطان الراحل : «لقد قتلوا السلطان محمد الخامس بالفكايع». كما ذاق من ديكتاتورية الحزب الواحد التي كانت قائمة على إيديولجية الأعيان العائلية والحزبية والمالية العلامة المختار السوسي بعد أن عزله علال الفاسي من وزارة الأوقاف قائلا عن سبب ذلك العزل : «إن المختار السوسي مجرد فقيه دالقرآن»، أي أنه لا يصلح لنا في التدبير السياسي القائم على الأخطبوطية العائلية والمالية الخاضعة لفنون المقالب والتي لا تتماشى مع حفظة القرآن، وهو ما دفع العلامة السوسي لأن ينزوي في مراكش ليموت هناك هما وغما وكمدا من سلوك صاحب كتاب «مقاصد الشريعة»، كما عمل حزب الاستقلال في إطار سياسة الأعيان على السيطرة التامة على وزارة العدل ولعقود من خلال شرنقة السيد محمد الفاسي على الكتابة العامة لوزارة العدل، ليعطي لعمليات التصفية السياسية والاقتصادية صفة قضائية مبيضة ضد خصومهم السياسيين وضد كل من ينتقد ديكتاتورية الحزب الواحد، وقد عانى وزراء العدل أنفسهم من تلك الشرنقة لسيادة الكاتب العام، الذي أزاحه بصعوبة الملك الراحل إبان الثمانينات، هكذا إذن يتحدث حزب الاستقلال الذي أدخل المؤامرات للساحة السياسية والحزبية بأنه يتعرض للمؤامرات، لكن من طرف من ؟ في البداية كانت التهمة لصيقة بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تصدى للعجرفة التي مارسها وما يزال هذا الحزب لتداول الامتياز الحزبي والسياسي والاقتصادي والإبقاء عليه بين أعيان العائلات ودائما ( entre famille) وكل ذلك بغطاء ليبرالي لمطاردة المرجعية الفكرية اليسارية للحزب، وواصل حزب الاستقلال معركته على كل الجبهات النقابية والاقتصادية والسياسية، وما أحرج ديكتاتورية الحزب الوحيد أن رموز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانوا في حزب الاستقلال، وعليه لن يستطيع تخوينهم كما كان يسهل عليه إطلاق بارود التخوين ضد كل من عارضه، مع تستره الدائم خلف شعارات: «الوطنية – الاستقلال- مقاومة المستعمر- السلفية....»، ولما أخفق الحزب في نسف الإطارات النقابية التي واجهت سياسة الامتيازات الاقتصادية لأعيان حزب الاستقلال عمل الحزب على تفريخ إطارات نقابية مصطنعة وخاوية على عروشها ولم ينج منها حتى «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب» عبر ضربه بما سمي حينها «الاتحاد العام لطلبة المغرب»، كما اعتبر الحزب الواحد أن «حزب الحركة الشعبية» مؤامرة للإطاحة به، في الوقت الذي نهج فيه هذا الحزب الذي تتحدث أفواهه بكل جرأة عن نقد الأعيان، كل وجوده الانتخابي على ما سماه الباحث «جون واتربوري» ب «التركيبة العائلية الأخطبوطية، عبر منحه التزكيات الانتخابية الدائمة وبالوراثة لعائلات معينة راكمت من الثروة واحتكار السلطة مما لا يمكن عده، ضمن ما يمكن تسميته ب«الإماراتالمتحدة» التي نذكر منها إمارة «آل حجيرة في وجدة» تصوروا معي أن التزكية الانتخابية لحزب الاستقلال في الانتخابات هي لآل حجيرة دون غيرهم من أعضاء الحزب ، فمنذ 1963 ظل المرشح الوحيد للحزب هو عبد الرحمن حجيرة الذي وافته المنية وهو على مقعده الانتخابي، وبعد وفاته جاء ابنه عمر حجيرة وراثة، والذي تبين من برنامج «المواطن اليوم» في ميدي1 سات خواءه السياسي والثقافي الحزبي، وأن وجوده في المنصب ينبني على حق وراثي وليس على أهلية سياسية أو استحقاق حزبي نضالي، وكأن حزب الاستقلال في وجدة ومنذ 1963 لم يستطع أن يفرز أي إطار سياسي يمكن منحه تزكية الحزب خارج آل حجيرة الذين دفعوا في ظل إمارتهم بحق الاستوزار لابنهم «توفيق حجيرة» ضمن النظرية المقدسة المعنونة ب:)entre famille) ووجدنا تطبيق النظرية نفسها لحزب الاستقلال في الحسيمة مع مضيان وآله، والذي خلد في مقعده ومنصبه باسم الحزب الواحد، وهو يعمل الآن عبر التوسط لتوظيف بعض الأسماء من إمزورن وغيرها عبر بوابة الوزير الأول والسيد بوكاري الذي استقدمه الحزب الواحد لإمساك ملف التوظيفات واستثمار المسألة أكثر فأكثر، وتمتد سياسة الإمارات والأعيان العائلية الاستقلالية لتسجل آل الأربعين بطنجة الذين يسيطرون على معامل المنطقة الصناعية، وآل قيوح في أكادير والذين يتربعون على بورصة الخضر والفواكه لابتلاع مداخيلها، وآل الرشيد في العيون، مع العلم أن نهج حزب الاستقلال القائم على الأخطبوطية العائلية والأعيان يحتاج إلى مقال خاص للكشف عن فضائح حزب الاستقلال في تقدمه الانتخابي والتي يعتبرها مكسبا ومفخرة له هناك بدءا بالتجارة اللاقانونية في الخمور من لدن مرشحي الحزب في الداخلة ووصولا إلى التوظيفات الشبحية وبطائق الاستفادة المجانية من مواد الاستهلاك وهلم جرا وشرا .... (*) أستاذ باحث