ابتسامة مشعة، وعينان براقتان تقولان كل شيء عن الفرحة التي تتراقص داخل صدر العروس. فرحة امتدت لتصل كل الأهل والأصدقاء وهم يتطلعون بحب نحو العروس الفاتنة التي تتربع فوق المنصة الذهبية. فرحة لم تكن نابعة فقط من الود الذي يكنه هؤلاء للعروس الشابة. إنها فرحة مميزة فالجميع ينظر الآن نحو معجزة تتحرك أمامهم. من يقول إن العروس الرائعة كانت قبل سنوات قليلة مضت ضحية مرض نفسي قلب كيانها وكيان العائلة بأسرها. من يقول إن هذه الجميلة كانت قبل سنوات تسير في الشوارع هائمة وتصيح في وجه كل من يقترب منها. أوهام وكوابيس قبل حوالي خمس سنوات انطفأت شمعة حيويتها فجأة لتتحول إلى حياتها وحياة أسرتها إلى كابوس. بدأت علامات المرض تتبدى تدريجيا. أصبحت بهية الفتاة الهادئة الطبع تحتد وتنفعل لأتفه الأسباب. إنها تثرتر وتتكلم في كل المواضيع وكثيرا ما كان صوتها يرتفع دون مبرر. الفتاة الخجولة أضحت أكثر جرأة في كلامها وحركاتها والمواضيع التي تثيرها. انتبه الجميع لتبدل حال بهية لكن لا أحد كان يفهم ما يحدث. لماذا تصرخ بهية في وجه شقيقها؟ لماذا لا تتحمل نظرات والدها نحوها؟ لماذا تتبرم من صوت والدتها؟ » ولت كتجيها الطجة» تحكي شقيقتها « كتبغي غير تخرج من الدار» لم تعد بهية تتحمل المكوث في البيت. فجأة ترتدي جلبابها وتنطلق مسرعة نحو الشارع لا تلوي على شيء. بات جليا أن بهية تعاني من مشكلة ما. الأمر ليس مجرد تعب نفسي أو توتر عابر رافق فشلها في تحصيل شهادة الباكالوريا، كان الأمر أكبر. «تزاد عليها الحال ولات كتعايرني وتعاير ماما» تروي الأخت الكبرى. تطورت الحالة سريعا وبدأت بهية تدخل في نوبات هستيرية وتتخيل أشياء وأصواتا لا وجود لها سوى في أوهامها. أهملت نفسها ومظهرها ونظافتها. لقد تغيرت كليا. حضن العائلة « هوما سبابي» جملة شهيرة كانت ترددها الشابة وتصرخ في وجه المحيطين بها دون أن يعلم أحد من تقصد بكلامها. « ديوها كتبو ليها وقيلا تخطات شي حاجة» كانت هذه النصيحة والحل الذي قدمه الكثيرون لأهل بهية. لم تتردد وادتها في الأخذ بالنصيحة أمسكت بالفتاة وذهبت بها إلى «فقيه» شهير بفاس التي يتحدرون منها. لكن شيء مما كانت الأسرة تنتظره لم يحدث. كان واضحا أن بهية تهاني من مرض حقيقي. « ديوها عند طبيب نفساني» نصيحة أخرى تشبتت بها الأسرة. انخرطت الأسرة جميعها في خطة العلاج. كانت مرحلة صعبة وقاسية. كان عليهم عرض الشابة على أكثر من طبيب والانتقال من فاس إلى الدارالبيضاء بحثا عن الطبيب المناسب. لم تستسلم الأسرة. كانت الأم تتناوب مع الشقيقات في العناية ببهية. وعندما كانت تمل من بيت الأسرة كانت خالتها تتكفل بجلبها إلى منزلها لترفه عنها وتعطي والدتها فرصة للراحة والتخلص من ضغط العناية بها. ورغم أن زيارات الصديقات لها قلت إلا أن صديقتها الحميمة ظلت وفية لها وكثيرا ما كانت تسطحبها في جولات إلى الحدائق للترفيه عنها. العودة إلى الحياة بدأت الشابة في أخذ العلاج والانتظام في ذلك. كانت مرحلة قاسية أيضا. كانت تمضي جل يومها نائمة. وعندما تسيقظ تظل شاخصة البصر قليلة الكلام. ازداد وزنها وقلة حركتها وانطفأ بريق عينيها. لكنها على الأقل تبدو هادئة. لقد خفت الكوابيس التي تطاردها وهدأت الأصوات التي تحرمها من النوم. شيئا فشيئا بدأت حالة بهية بالتحسن وسط دعاء كل من يعرفها. أصبحت تعي مرضها وتحرص بنفسها على تناول الدواء في وقته المحدد واستشارة الطبيب في كل شيء. عادت بهية تدريجيا نحو حياتها الطبيعية.. ببطء لكن بثبات.. عادت الأحاديث الشيقة تزين كلامها والابتسامة تشرق على وجهها « الحمد لله الطبيب رحمة» تقول والدتها وهي تتذكر الساعات الطويلة التي كانت تقضيها معها في سطح المنزل ليلا عندما كان النوم يهجر عيون بهية. مرت أزيد من ثلاث سنوات وكلما مر الوقت تحسنت الحالة أكثر، واندمجت بهية في عالمها أكثر. نصحها الطبيب بالعودة إلى الدراسة لكنها فضلت الانخراط في سوق العمل لتشتغل كاتبة في إحدى الشركات. كان العمل فأل خيرا عليها كما تقول بهية « خدمت وتخطبت في نفس الشهر». لم تخف بهية مرضها عن الخطيب الذي لم يثنه الأمر عن الجلوس معها على المنصة الذهبية والتطلع في وجهها البهي فرحا بعروسه الجميلة. هدى الأندلسي