الخميس من كل أسبوع هو موعد "الافتر وورك"، يلتقي فيه زملاء العمل حول طاولة في ناد او مطعم، يأكلون ويشربون، يتداولون و"يتناممون" في أمورهم المهنية بالخصوص. هي عادة شائعة في العديد من الدول الغربية، ماعدى إسبانيا، الإسبان يشربون كل مساء، لا ينتظرون الخميس، يشربون، ويلهون وتجدهم يشتكون من تفاقم الأزمة !! الإسبان يشبهوننا، هم ايضا يتكلمون بصوت مرتفع، يُسمعون اصدقائهم دون ان يضايق ذلك من حولهم، وما إن "يسخن الرأس" حتى ينخرط الجميع في شبه قداس جماعي لا تقطعه سوى ترانيم "otra" "otra". البعض عندنا أصبحوا (او اصبح) هم ايضا يتعاطون لهذا النوع من التقاليد، في احترام تام للشكل والموعد، يلتقون كل خميس... تعرفهم من هندامهم وكلامهم..، بنكيون بربطات عنق لم تفك منذ عقود، ومسؤولو مبيعات ثرثارون وكاتبات يدخنن بشراهة .. احيانا يكون كلامهم متشابه، فلا شيء يحلو و يعلو فوق الحديث عن ذلك "النمرود" او تلك "الأفعى" الذي "يحفر" لهم !! تَصَوّر؛ غالبا ما يبدأ أكثرهم ثرثرة باداة التعجب هذه ؛ تصور انني انا القادم من تجربة كبيرة، انا من قام بكل شيء الى ان جاء "النمرود" ليظفر بكل شيء!!! تصوري، تقول السكرتيرة ؛ انها لم تسمع من مديرها ولو كلمة شكر على كل مافعلت، وهي تظن ان السبب يعود بطبيعة الحال الى "ديك اللفعة". يتهافت كل واحد على انتزاع الكلمة وحق الحديث عما يعتبره حالة استثنائية وخاصة وغريبة يمر بها او يعيشها، ولكن دون جدوى !! الثرثار يحتكر الكلام، فالثرثار لا يحب الاختصار، يحكي نفس القصة بنفس الأسلوب... قصته مع ذلك "الشاف" الذي انبهر ذات يوم لعمله واصطحبه الى المدير ليردد أمامه انه لولا النباهة واليقضة التي يتمتع بها لكانت الشركة الان تعاني... الثرثار شخص مزهو بنفسه، في المقابل هناك السكوتي، يسمونه الحكيم وهو على العكس من كل مايمكن ان توحي به هيأته لا يتكلم كثيراً لانه لا يجد مايقول، ليس لديه مايقول، فلقد قضى عمره وسط اوراق "الزبدة" يحل التمارين الرياضية المعقدة، قبل ان يحصل على مقعد في المدرسة العليا للگنوگا ويضفر في الأخير بپوسط مكلف بمهمة هندسية .. قضى السنوات الاولى في الوظيفة يبحث عن موقع مميز، الحياة بالنسبة اليه؛ عام من التحضير زائد اختبار تساوي معدل يبوؤه الصدارة، انتقل من الكتابة على أوراق الزبدة الى أوراق الاجندة يدون فيها المواعيد ونقاط الضعف ونقاط القوة ليكون عند حسن الظن، سافر الى مراكش وبويرطو بانوس، اشترى سيارة واستبدل "دجينات" السويقة بأخرى اصلية، خانته اردافه التي مسحتها وأرهقتها المقاعد الخشبية الباردة في المدرجات فجعلت الملابس الغالية تظهر وكأنها معلقة فوق هيكل او "علاّقة"، ما أفقده الجاذبية والصدارة في هذا الجانب... جمع ماشاء له ان يجمع من العقد فجاء يفرغها مع زملائه في ساعة "الافتر وورك" هذه ! لا تحلو له النميمة، يقضي معظم الوقت في كاندي كراش، بينما لا يرفع الآخرون رؤوسهم الا ليعاودو غطسها في فيسبوكهم متفقدين جيمات الطاگ في المكان الذي يتواجدون فيه. إذا كان الفيسبوك فضاء مجانيا فإن الكتابة فيه "كتسوا الفلوس" فلوس المطعم وفلوس الطائرة وفلوس الفندق الذي نقيم فيه و"نطاگي" انفسنا به على جدراننا. اثناء الجلسة لا مجال لتحوير الكلام الى حدث من الأحداث المحلية او العالمية او واقعة من الوقائع، دون ان يطأطأ كل من حول الطاولة رأسه في دلالة على علمه بالموضوع، الجميع مطلع أشد ما يكون الاطلاع، من أتفه الأشياء الى أكثرها جدية، من القطة التي ترضع الهامستير الألماني، الى الشباب الذي أفطر بدعوى انه علماني مرورا بالعمل السري الذي قام به البرلماني.. الانسان اصبح كائنا يأكل ويشرب وينام ويقرأ الأخبار !! جلسة "الافتر وورك" تعد كذلك موعدا دوريا لاستعراض التفوق، "ديفيلي" للنجاح، التفوق كما تعلمناه وفهمناه.. والذي بدأ تفوقا على ابن الجيران في المعدل العام تحول الى تفوق في كم المكاسب التي نحرزها خلال العام قبل ان يصبح تفوقا في القرب والتقرب من المدير العام .. اذا كان من شيء يلتقي ويتوحد فيه البنكي ومسؤول المبيعات والسكرتيرة حول مائدة الافتر وورك فهو هوس التفوق على الاخر، لا احد يسعى للتفوق على نفسه و على احلامه الخاصة وطموحاته... الطموحات التي اندثرت عندما اجبر ذوو الميول الأدبية والفكرية والفنية الى التوجه الى كلية الطب والهندسة والاقتصاد لانها تضمن المستقبل، فضاع الطب وضاعت الهندسة وضاع الاقتصاد وضاع المستقبل. بقلم : الحسين العيساتي * * l'after work