هُنّ نساء يعشن بين ظهرانينا. ليست بعيدات عن عوالمنا. نلتقي بهن في لحظة من اللحظات الهاربة. هنا والآن. في هذا الزمن البذيء الذي تغتال فيه الفراشات في وضح النهار، وعلى مرأى الجميع، نساء من بني جلدتنا ما أهلكهن سوى الدّهر! رفضن الذل والهوان والتسوّل وكراء الجسد للمتعة والإمتاع، وبقين صامدات جامدات للحصول على لقمة عيش طاهرة... صامدات وصامتات. ولكل مقام مقال. مقامهم هناك وهنا داخل المقاهي والحانات. وإجمالا، فإن تبغيهن، ففي الحوانيت تصطدِ! أعمارهن تجاوزت عموماً الأربعين وما فوق، ومنهن من عاشت ستين حولا، فلا أبالُك يسأم! ما أقسى الظروف، وما أصعب المأساة، وما باليد حيلة. فلندخل إلى الموضوع! نساء... ونساء يشتغلن داخل الحانات في تنظيف المراحيض... يلبسن كسوة بيضاء من الأبيض الناصع لتواجهن نظرات مجتمع من اللون الأسود القاتم... تجلسن قرب المرحاض أمام مائدة فوقها صينية نحاسية من الحجم القصير... فين اللّي جمعو عليك أهل النية، واهياً الصينية!؟ هذه الأخيرة هي وسيلة العمل، هي بندقية القناص وصنّارة الصياد... واللّي بغى يربحْ، الليل طويلْ، وما عندو نهاية... إنهن عالمات اجتماع بدون شهادة... يعرفن كل شاذة وفادة عن الزبائن، ومن خلالهم، يرسمن الواقع الاجتماعي لهذا البلد... في صمت رهيب، يجلسن، يراقبن، يلاحظن، يتأملن، يتألّمن، يستمعن، يتفوّهن الريح، ولا ينبسن ببنت شفة... هكذا هنّ... الفرنسيون يطلقون عليهم اسم «مدام بِّيبِّي»، ونحن ما وجدنا إلا عبارة «سيّدة السّوطاس»... أو ربما «مدام السّوطاسة»؟! نعم، إنهن يعشن مع أصحاب «الطاسة» الذين يتبرعون عليهن بدراهم قد تُغني من جوع دون أن تُسمِن... فهن لا يُرِدْنَ شكوراً، بل جزاءً. درهم أو درهمان فوق الصينية النحاسية الجوفاء. والله يخلف! العمل كمنظفة المراحيض داخل الحوانيت لا يجمعها إلا الفم. فهن، ولعمري، مناضلات ما أحوجهن إلى الإنصاف والمصالحة، أم هل بالغت؟ فقبل الحكم، هيا نستمع إلى شهادات آتية من عين المكان... شهادات حية ما أقواها! هناك من رفضت الإجابة والحديث. تفهمنا الموقف. فالحديث عن المأساة مأساة. وهناك من طلبت منا تبديل ساعة بأخرى وإلا ستطلب من صاحب البار أن يُخرج لنا الورقة الحمراء... وهناك من رفضت بهدوء واحترام... وهناك من ارتطمت بأمواج الحقيقة والصدق والجرأة، فأطلقت العنان للكلام. وفين ما بغات تخرُج، تخرج... هذه المرأة طلبت أن نكتب اسمها الحقيقي بالكامل، وعنوانها الحقيقي لتعبر لزوجها السابق أنها لن تنسى أبداً بأنه هو السبب الرئيسي إن هي وُجِدَت والحالة هاته... ما علينا. فلسنا قضاة ولا من جسم المحاماة... رفضنا اسمها الحقيقي، وسنسميها «سين» وعلى الدنيا السلام! في حانة داخل أدغال كازانيگرا. في عقدها الثالث (المرأة وليست الحانة) مطلقة، محجبة، ونسيت الابتسامة طريقها إلى الشفتين... «الڤيدور» يصفق بحرارة لكي يغادر الحضور المكان. أنا أنتظر... انتظرت إلى أن تنتهي «سين» من تنظيف المغسل المكتظ بما أرجعت معدة الزبون من أكل وخمر وسخط على كل شيء، وعلى أي شيء. وجاءت لحظة البوح... وجاءت لحظة إيقاظ الجروح التي لم تندمل بعد. «ما بقاليا غير الگارو؟» هكذا أجابت بلغة عنيفة حين كانت اقتراحي سيجارة... «ثلاث سنوات وأنا أشتغل هنا. توسط لي أحد أصدقاء زوجي الوحش بحيث بقيت فيه كثيراً حين تركني الوحش ربّنا خلقتنا. قطع العلاقة معه وأوصى عليّ خيراً لصاحب البار. هذا الأخير هو الآخر، تعاطف معي. ليس حباً في، بل كراهية في الوحش. طاولة وصينية وطابلية بيضاء.. والحجاب لكي لا يتبسّل الباسلون... والصمت بعد الصمت... والقيام بواجب تنظيف المرحاضين ذكوراً وإناثاً... ثلاث مائة درهم على رأس كل شهر، والعطلة يوم الاثنين... الأيام كُلها وْنْهارو، والأكيد هو أن ما أحصل عليه من فوق «الصينية» يفوق بكثير راتبي الشهري الذي هو عبارة عن صدقة... السّكارى حين تلعب الخمرة برؤوسهم يكونون أكثر حناناً وكرامة ورأفة. في الساعتين الأخيرتين من العمل ليلاً قد أتقاضى ما لم أحصل عليه طيلة النهار... لكن، الصبر على «تهراسْ الراس» و اجب... أنا في الطابق العلوي. وتسرق أذني أحاديث وكلام وخطابات من الأسفل، حيث يوجد البار.... أعرفهم جميعاً بأسمائهم، فهم أوفياء مخلصون للفضاء... أعرف المهن التي يمتهنونها، والحِرف التي يحترفونها... وأعرف الوقت بالتحديد الذي يدخل فيه هذا، والوقت الذي يخرج فيه ذاك... أعرف المتزوج، كما أعرف المطلّق... أعرف القارىء والجاهل... أعرف الخائن والمخلص... أعرف ممارسات المحامي وأعرف عادات الصحافي... والله العظيم... أعرف حتى من تخونه زوجته... فكلام الليل عندي لا يمحوه النهار... ففي الليل، يفرغون مكبوتاتهم وهم يتبولون... وفي الليل تجود قريحتهم بما تخفيه طيلة النهار... أتألم لحال بعضهم... أعرف أيضاً من «يسلخ زوجته» حين تجاوز حدود «الطاسة»... إنه عالم يا أخي... إنه صورة مصغّرة لمجتمع الشقاق والنفاق... لكني محتاجة إليهم. هم الذين يضمنون استقراري المعيشي.. تنكرت لي العائلة بعد أن طلبت مني العودة إلى عنف الوحش، فأبَيت.. فلتذهب إلى الجحيم... القانون أعطاه حقه وهضم حقي. والحمد لله أنه ليس بيننا أبناء، وإلا لكانت الطامة الشؤمى... في فترة الثلاث سنوات التي قضيتها هنا... مات عشرات الزبائن، وتخَونَجَ عشرات آخرون... وإثنان اليوم على فراش المرض المزمن... وواحد فقد صوابه، ويقول الشعر بين حانة وأخرى طلباً «للتَّنْفيحة» بعد أن غادرته الزوجة إلى الديار الإيطالية هاربة بالطفلين... أما إذا حكيت لك التفاصيل التي عشتها مع الوحش، فأكيد ستبكي دماً... خلّيني عليك، وسير تنْعسْ... راه الطريق خايبة ومشرملة...». حان وقت موسم الهجرة إلى الشمال. مدينة البوغاز تحتضن فعاليات السوليما الوطنية... دخلنا إلى الحانة بحثاً عن المرأة المعلومة... ليست بالنحيفة ولا بالغليظة... الطابلية زرقاء وحجاب أبيض وصينية صغيرة من النحاس فوق مائدة مستهرئة تتذكر أيام فرانكو... مزيج من الطنجاويين، وضيوف المهرجان من سينمائيين وسوليمائيين و... إلى غير ذلك. وإلى آخره... محظوظاً كنتُ بالفعل، إذ هي التي بادرت بالحديث معي حين وضعت درهماً فوق الصينية، قائلة دون أن تبتسم، وبلكنة بعيدة عن لكنة أهل الشمال: «هاد الناس ديال السينما سقرامين شوية؟» ها هنا، فتحت لي المجال. شكراً مهرجان الشمال... «سأُكلّمُهم واحداً واحداً» أجبتها... وما يكون غير الخير ألالا! هذا ما كان. كل من صعد إلى المرحاض من الأصدقاء وغير الأصدقاء إلا وتبرّع على المرأة بدرهمين أو أكثر انتقاماً من ملاحظتها المتسرعة، باستثناء واحد فقط، وأهل السوليما يعرفون بُخلَه أشدّ المعرفة. خلّينا في المعقول... قبل أن يطلق النادل يديه للتصفيقات من أجل مغادرة المكان. وقفتُ أمامها إخباراً بأنني أقوم بإعداد عمل صحفي على «نساء المراحيض»... «الله أودّي» أجابت: بْسْبابك، دوّرو معايا مزيان صحاب الأفلام»... دسرت شوية، وخاطبتها: عاودي لي على راسك، وعلى هاد الخدمة ديالك هْنا؟ هي الأخرى، رفضت السيجارة التي اقترحتُ عليها. وأعطتني موعداً في الغد في الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً... مشي مشكل. اللّي بغى يحضر للندوة ديال الأفلام، شغلو هذاك... كنتُ في الموعد. الحانة فارغة إلا من زبون إسباني يتلذذ بالرّيكار. والتلفزيون ينقل إعادة نقل مباراة البارصا ولا أدري مع مَنْ؟ اسمع يا ولد لبلاد! قل لأصحابك السوليمائيين، إن حياتي تستحق أن تكون فيلما أفضل من تلك الأفلام التي يطبخنا بها التلفزيون.. أنا بنت القنيطرة، ولا يعرف أحد هنا بأنني قضيت ستة أشهر في السجن، لأنني كسرت ِرجل أخت زوجي: «رعفت أمه..» هاد الشي يبقى بيني وبينك» إنه بفضل ذلك الإسباني «مول الريكار» وجدت هذا العمل.. يعيش وحيدا في طنجة منذ سنوات، وكنت أتكلف مرتين في الأسبوع بتنظيف بيته وغسل ملابسه إلى أن توسط لي عند صاحب المحل هنا.. فهو زبون يومي، ولا يمكن للباطرون «أن يخسر إليه خاطره»... ثم إنني لا أشتكي على أحوالي، ولا أبكي ظروفي.. نعم، أنا عصية الدمع شيمتي الصبر.. جئت بنفسي إلى طنجة، لأحرق منها إلى إسبانيا، و«عواجت الفكوسة»، وبقيت هنا بين البحرين. لم أعد أفكر في الحريك واللهم فگيع بلادي. ها هم الإسبانيون يهربون من بلادهم. وماذا عساني أفعل هناك؟ هنا أربح لقمة عيش من أوساخ المراحيض، وأكره البلاد والعباد. «كحل الراس خايبين مالقيت فبوهم خير.. زوجي حقير كان يعيش تحت ظل أمه وأخته، وكان يخضع لهما، إذ قالا إنني عاقر، وعليه الزواج على سنة الله ورسوله. رفضت الضرة ووقع ما وقع إلى أن وجدت نفسي أشارك عاهرة نفس الزنزانة.. تزوج زوجي بأخرى، ولم يكن الإنجاب.. وهذه ذنوبي، أقول... ارتميت في أحضان الإسباني، ولم يمسسني أبدا.. يحب الرجال أعتقد. لكنه رجل سخي وكريم، أعاد لي بصيصا صغيرا من ظلام هذه الحياة القاسية.. يحترمني الناس هنا، و لا أتحدث إليهم، ممنوع الحديث، والرزق على الله... أنزوي وحيدة كل ليلة في الركن قرب المرحاض.. أشاهد، وأستمع.. سماع اللغة الإسبانية يعجبني ولا أفهم حرفا.. اللكنة الطنجاوية تعجبني إذا لم تكن لغة الشتم والسب التي تتداول أحيانا بين البعض.. المهم، أعيش اليوم لليوم.. ولا أمل في الغد... فمن سيقوم بدفني إذا أخذ صاحب الأمانة أمانته..؟ دموعها دفعتني إلى وضع حد للنقاش: وغادرت المكان وفي نفسي شيء من حتى... مدينة النخيل: أخبرني الصديق البهجاوي بأنه يعرف الكنزة المبحوث عنها داخل حانة من حوانيت مدينة سبعة رجال. وكان اللقاء.. لم ترفض أن نلتقط لها صورة.. لكننا رفضنا.. تجاوزت الستين من عمرها بالكاد.. وليس لها ما تخسر، على حد قولها. تزوجت وترملت، وكافحت من أجل تربية ابنتها الوحيدة.. هذه الأخيرة لقيت حتفها في الديار الإيطالية وهي في ربيعها السادس والعشرين... وكانت الصدمة أقوى من القوية.. تكلف بعض المحسنين، هنا وهناك، بنقلها إلى المقبرة المنسية بالقلعة. ولم تبق سوى الذكريات الأليمة. كانت ترسل إليها بين الفينة والأخرى ماتيسر من الأورو.. وتركتها بعد الوفاة عرضة للضياع، ومرض السكر ما لقى فين يجي!... بلهجة مترددة، تبحث عن كلمات مفقودة ضائعة بين الذكرى والذاكرة: «لاحظ بعض الجيران أنني لم أعد قادرة على إعداد الخبز وبيعه.. واقترح علي الجلوس قرب مرحاض داخل بار.. حتى التنظيف في الصباح، يساعدني فيه بائع السجائر بالتقسيط.. الله يرضي عليه... أجلس، وأنتظر دريهمات الزبائن خاصة بين المساء والليل..». هذه المرأة لا ترتدي الحجاب، بل تحمل كيسا أحمر تضع فيه ما قسم الله، وتضع درهما واحدا فوق الصينية الغريبة الملونة... إمرأة يظهر على ملامحها جمال أصبح في خبر كان، وليت ولعل.. فما جدوى الجمال إذا كانت دائما مختفية في هذا الركن، وبعيدة عن نظرات تقدر الجمال؟ دواء السكر؟ لا يهم، المهم هو القدرة على شراء سكر من أجل كأس شاي منعنع والقدر والقضاء عند الله.. أنا مؤمنة و أودي الصلوات الخمس.. لكنني أتعذب لكوني أحصل على لقمة عيش في مكان يبيع الحرام... أنا لا ألوم هؤلاء السكارى: فإن أنت سألتهم، ستجد البعض يعيش المأساة العارمة، و ألف حكاية وحكاية... هم أيضا يختفون هنا لإفراغ التعاسة... كم مرة سمعت البعض يبكي داخل المرحاض، أو في انتظار دوره في المرحاض... الأغاني التي يرددها البعض أغاني حزينة تدل على عمق واقعهم المزري.. فالمال ليس هو السعادة بحال.. يخسر بعضهم أموال قارون داخل الحانة... لكن الكآبة لا تفارق وجهه... إنه عقاب من الله، لأن الخمر حرام.. والله يعفو عليهم مساكن، واخا نبقى أنا بلا خدمة...» غادرت الحانة، وتركت الجمل بما حمل.. عودة إلى كازانيكرا... وعودة مرة أخرى إلى إنسانة محجبة داخل حانة وسط أدغال البيضاء... صديقة لي طمأنتها للحديث معي، وكان الموعد بعيدا عن العيون: «اغتصبوا شبابي بتزويجي رجلا أكبر مني بكثير في قريتي النائية... ولم أجد بدا من الهروب من الجحيم، وسأعفيك من التفاصيل، أرغموني على مغادرة المدرسة البعيدة، ووضعوني لقمة سائغة أمام حيوان في صفة آدمي. فكرت في وضع حد لحياتي بدواء البرغوت، وأدركت أنه لا فائدة، وسيغتصب الحيوان فقيرة صغيرة أخرى، وسيقومون بطي الملف.. الحل إذن، هو الهروب، وإلا وضعت حدا لحياته لأقضي حياتي بين زنازن السجون... أنا الآن، فيما يشبه الزنزانة.. أختفي حين أقصدها، وأختفي حين أغادرها.. وأختفي بداخلها... لا مشكل لدي مع السكارى، بل يتعاطفون معي أكثر من تعاطف قريتي معي ذات أيام.. أنا سجينة المحبسين الآن، لا حياة، ولا حرية، و لا أسرة، ولا عائلة، ولا أقارب ولا أصدقاء.... ولا هم يحزنون! أكتري بيتا صغيرا مع إحداهن تبيع الخضر بالتقسيط، مأساة فرَّاشة تتقاتل مع الزمن لتحمل القفة إلى ابنها بسجن عكاشة... لا نلتقي إلا نادرا.. هي تغادر صباحا، وتعود مساء، وأغادر أنا ليلا إلى حدود منتصف الليل حين هي تحلم بأصوات مرتفعة.. في بادئ الأمر، تدبرت عملا في «الموقف». أقف بجانب المغلوبات على أمرهن تحت الشمس غير الدافئة في انتظار من يطلب مساعدة في البيت من تنظيف وغسل الملابس مقابل دراهم معدودة... وحين سولت لأحدهم نفسه بالتحرش علي ذات نهار: كانت الثورة في وجهه بالسكين، وغادرت المكان والعمل سيان.. هنا، على الأقل الطمأنينة سائدة... بل أحيانا من السكارى الكرام من ينقلني إلى بيتي معززة مكرمة... القيادة في حالة سكر لا هم لي فيها.. أنا ميتة، قبل أن أموت..». يلقبونها بالحاجة، وهي لم تستطع لذلك سبيلا... عكس الأخريات،صديقتنا ثرثارة تتدخل في شؤون ضيوف الحانة... هناك بمدينة الرباط داخل فضاء متواضع تواضع المترددين عليه، اقتحمت هذا العالم للهروب من البطالة بعد أن تركها زوجها عرضة للضياع.. مات زوجها بعد أن سقطت عليه حديدة في الرأس. كان يشتغل في شاحنة الأزبال يجمعها ويضعها في مؤخرة الشاحنة.. يدفعها لكي لا تسقط أرضا إلى أن سقطت على رأسه الحديدة المعلومة.. ترك ولدين وبنتا لم يبلغوا بعد سن الرشد. توقف أحدهما عن الدراسة لممارسة مسح الأحذية وبيع السجائر بالتقسيط، وظلت قساوة الحياة وقصر اليد... وبررت الأم خروجها ليلا باشتغالها عند عائلة بورجوازية بالعاصمة، لأنه من العيب ومن العار أن تشتغل الأرملة لها فلذات الكبد داخل فضاء مملوء بالسكارى.. تتنقل مختفية، وتعود مختفية لكي لا ينكشف السر، الثرثارة تخبر الجميع داخل الحانة، بأنه لا أولاد لها ولا بنات، باستثناء النادل الأمازيغي العالم بسر المرأة... قالت: «هذا قدري، ولا مفر من القدر... مازلت في انتظار «التأمين» بعد وفاة زوجي، إنها جريمة نكراء.. كان حريا أن يتم البحث والتحقيق على من وضع الحديد في الأزبال، لكن، لا حياة لمن تنادي.. كَمَّدْنَاها والتزمنا الصمت، وتحلينا بالصبر، وهاد الشي مكتوب، والأجل وْفَى... هنا، أنظف أزبالا من نوع آخر، زوجي مات في الأزبال... وأنا مع الأزبال، وبين مرحاضين أتقاضى أجرتي الخجولة، وأعيش ليستأنف ولدي وبنتي دراستهما على قد الحال.. السكارى يشفقون علي، ويتبرعون علي... فيهم المبالغة عطفا وحنانا حين تدوخ الرأس. إنهم فقراء يخسرون كل ما ملكت أيديهم في الحرام... أستمع إليهم، أنصحهم، أقول رأيي في مشاكلهم وتعاستهم، هناك من يقبل يدي، وهناك من يبكي كطفل صغير أمامي.. وهناك من يستدعيني إلى بيته لأملأ الفراغ القاتل، وهناك من يهديني لباسا أعيد بيعه من أجل اقتناء كسوة غير لائقة لأبنائي... أكيد، سيفتضح أمري في يوم من الأيام، وسأعترف بالحقيقة أمام أبنائي.... ثم سيثورون ... في وجهي ولا محالة. فماذا عساني أقوم به حينئذ؟! هذه، عزيزي القارئ، نماذج لعينة اجتماعية، ماذا أقول؟!، ظاهرة اجتماعية التي نمر أمامها، ونضع درهما أو بدون، أن نتساءل أو نتأمل في وجدانها وكينونتها... إنهن يشتغلن داخل فضاء يقال عنه إنه من الممنوعات المحرمات... فضاءات مملوءة عن آخرها من المواطنين المغاربة ولا يمكن إخفاء الشمس بالغربال؟! هؤلاء النساء علينا الالتفاتة إليهن: فهن مواطنات من لحمنا ودمنا.. جالسنا إحداهن، وسكتت بعضهن عن الكلام غير المباح. خرجن من المجتمع، ودخلن إليه من بابه القصير، وهن مختفيات كأنهن قتلن كنيدي.. يمكن، عزيزي القارئ، أن نخمن بأن عددهن هو عدد المقاهي والحوانيت في أجمل بلد في العالم... نساء يتعذبن في صمت مرير أمام صينية تنصع بالتعاسة والقساوة والألم... نساء ينظفن المراحيض، ولا يعترف بهن لا القانون ولا الرجال.. يعشن المأساة العارمة، ونحن عليهن ساهون... درهم أودرهمان لتأنيب الضمير، وكفى المؤمنين شر القتال... كل واحدة منهن حياتها، سيناريو بالأسود والأسود، وهل من مخرجين؟ يخرجونهن من الظلمات والظلام إلى الضوء والأنوار.. ما بالنا لو اعترفن بهن كما نعترف بالأخريات صاحبات المهن الأخرى.. أم، هل أخطأت؟! وتجدر الطرافة في الأخير، بأن كل التي أدلت بتصريحات أمامنا: قالت إنها تفضل أن يستهلك الزبائن الجعة عوض النبيذ أو القاسح: لأن شرب الجعة تعجل بالتردد على المرحاض، وتكون «التدويرة» أكثر... نعم، كِيفْ الجعة، كِيفْ النبيذ، الله يرزقنا غير الصحة و السلامة؟!