كل حلمهم ... الحصول على مبالغ مالية متواضعة أرقامها الأولى يليها صفران ... يقضون الساعات الطوال أملا في جني المال وتدارك الخسارة ... لايعترفون إلا بمنطق ضربة الحظ ... يتسمرون كل يوم أمام هذه الآلة التي قد تفرغ جيوبهم أو تملؤها تاركين وراءهم أسرهم ومدارسهم ... تحت رحمة منطق “الريّاشة”. « ماعندي زهر اليوم ... حتال لغدا ... ». همهمة خافتة، تفوه بها «عادل»، وهو يتأبط محفظته الجلدية، وقد بدت علامات الغضب والانزعاج على وجهه، ثم انصرف لحال سبيله، تاركا فرصة الحصول على تساوي العلامات الكاملة، لشخص اخر قد يحالفه الحظ. يأتي الدور على مراهن جديد، يقف بكل ثقة، يجرب حظه لمرتين ... يتقطب جبينه غضبا ولا يبقى له إلا عض أنامله غيظا وحسرة على 20 درهم، ذهبت أدراج الريح بسبب اعتقاده ب «سوء الطالع». «الرياشة» كناية عما تسببه للمقامر من إفلاس، آلة قمار مهربة من “سبتة” سوداء اللون، تعلوها شاشة صغيرة، تتضمن صفوفا عدة لمجموعة من الأرقام والرموز ... اجتاحت في الشهور الأخيرة، العديد من الفضاءات الترفيهية الشبابية بالدارالبيضاء. “صالات” قمار سرية ! مغامرة يومية بدون عنوان اللهم «الربح أو الخسارة»، فقط وضع قطع نقدية من فئة خمسة دراهم أو 10 دراهم، ثم الضغط بكل هدوء على الزر ... يمكن أن يفتح لهم باب السعادة، التي سيخبو وهجها، سويعات بعد ذلك. يساءلون أنفسهم، أي عمى قادهم إلى هذا الجنون ؟ أهو الفراغ المخزي أم الطمع القاتل فلا يجدون جوابا، وبدل ذلك يجدون أنفسهم ينتظرون دورهم بكل شغف وشوق ... قاصرون وراشدون. وجدوا متعتهم في ملازمة “الرياشة”، التي يمكن أن تحن عليهم خلال لحظات معدودة برزق خفي، بدل الإلحاح المتكرر على أوليائهم، لنيل أعطيات لا تنال رضاهم. يتوجهون عن طواعية للوجهة الهدف ... المحببة والمنبوذة في الآن ذاته. بمولاي رشيد، سيدي عثمان و الحي الحسني ... فضاءات شعبية، استوطنتها الآلة العجيبة، في غفلة عن أعين رجال الأمن. بأحد أزقة منطقة سباتة بالدارالبيضاء، حركة اعتيادية ... صبيان يرتدون قمصان “البارصا” و”الريال”، ينخرطون بكل قوة في شغبهم البريء، مجموعة منهم اختارت التفرج بانتظار دورها في إطار مايعرف ب”الغالبه”، بينما آخرون جلسوا يتهامسون، بالقرب من مقهى بئيس تحول بقدرة قادر إلى قاعة ألعاب خفية. طاولاتا «بلياردو» وجهازان للألعاب الإلكترونية، يؤثتان فضاء القاعة، بينما في ركن قصي جلبة حذرة من شبان، إيذانا ببدء جولة، تترقب المهج بكل شوق وارتباك الحصول بعدها، على مفتاح الفوز؟ مجموعة من الرموز المتطابقة . «نقضي أوقاتا داخل القاعة، قد تصل إلى ساعات متأخرة من الليل، البعض منا يأتي إلى هنا صباحا، وآخرون يأتون في أوقات مختلفة كل على حسب رغبته وميوله ولكن الأهم ... متي سيبتسم الحظ لنا كالآخرين !». يوضح أحد المراهقين. يتحسسوا بين الفينة والأخري، الدريهمات التي في جيوبهم، يقلبونها في أيديهم في طقوس غريبة. « لبارح ... زهير، ربح 300 درهم ... سعداتو». يشرح أحدهم لصديقيه اللذان، تحلقا من حوله، متحسرين على خبث لعبة الحظ، التي جعلت زهير، الذي لم تطأ قدميه هذا «الكازينو» الصغير، إلا منذ ثلاثة أيام، يغنم مئات الدراهم، بينما هم أدمنوا ساعات نهارهم وليلهم في اللعب دون طائل. كل برهة ... كل دقيقة، تمر ... يستحثون هممهم، ويتطلعون إلى بارقة فرج، تزف إليهم البشرى، ينصرف بعضهم لدقائق ثم يعود ومعه بعض النقود ... مسترسلين في عملهم المضني، إلا أن يرخي الليل سدوله، غير آبهين بما يجري في حيهم الصغير. «القطعة» خيار البعض، أشواط من لعبة «البلياردو» أو الألعاب الالكترونية، ليهدؤا من روعة غضبهم وتطيرهم من “العكس” الذي يطاردهم ويعكر صفوهم منذ الصباح، إلا أن لوعة الحنين والشوق، تغالبهم من جديد. هدر مالي وسنة بيضاء ! يروي «سعيد» (شاب عاطل)، كيف بدأت قصته مع «الآلة العجيبة» بشكل لم يثر في البداية أية شبهات، ولم يكن يتصور يوما أنه سيصبح مدمنا. فقد كان يتردد في البداية بشكل متقطع وغير منتظم، إلى غاية اليوم الذي ربح فيه ما قدره 1000 درهم على دفعتين، وكأن الحظ الذي ابتسم له ذلك اليوم مصيدة قادته إلى مزيد من الطمع وبالتالي إلى الوقوع في براثن الإدمان على «الرياشة». يصف سعيد انجذابه «الذي لا يقاوم» إلى دوامة اللعب المتكرر، بقوله « في مرحلة ما لم يعد اللعب لمرة أو مرتين يكفيني ». وكما هي العادة في كل ألعاب القمار، فالربح لا يكون بعيدا عن الخسارة، وفي كل مرة يزداد الضغط لتوفير المزيد من الأموال. وهكذا بدأ سعيد في تخصيص بعض مدخراته الشهرية، وفي كل مرة كان يبتدع كذبة جديدة على نفسه، إلى الحد الذي أصبح معه ثلث راتبه المتواضع مخصص ل «الرياشة». «مهدي» (16 سنة)، قضى سنة دراسية بيضاء بسبب تردده المزمن، على كل قاعات اللعب التي يسمع بوجود “الرياشة” بها، « لم أكن أعلم أن الأمر سيتطور إلى هذا الحد ... أصبحت، أبذر كل مصروف الجيب الذي يخصصه لي الوالد على اللعب المتكرر، ليلا ونهارا ... انقطعت عن الدراسة لأيام ... وحتى إذا توجهت للفصل، كنت أنتظر بتلهف انتهاء فترة الدوام، وانطلق عقبا إلى حيث “صاحبة حاجتي”، التي جعلني الإدمان عليها، أرسب وأقضي سنة بيضاء». «في الأسابيع الأولى ... العشرات حالفهم الحظ، وتحصلوا على مئات الدراهم كل يوم ... مابين شخصين إلى خمسة أشخاص كانوا يظفرون بربح وفير ... أما الآن ... فقد غذا الأمر مستعصيا». «يصرح عبدالرحيم»، شاب في 24 سنة، يخسر يوميا علي ولعه المزمن مابين 30 إلى 60 درهم، من أجل وهم الربح الوفير الذي يمكن أن تدره عليه “الرياشة”. « بعملية بسيطة ... خسرت في هذا الشهر مبلغا يقدر ب 1300 درهم ... لم يحالفني الحظ إلا مرتين مرة فزت ب 300 درهم ومرة أخرى ب 500 درهم، أي مامجموعه 800 درهم، بينما 500 درهم ... ذهبت إلى جيب صاحب القاعة، هذا هو منطق القمار ... لابد من رابح وخاسر». يضيف مسترسلا، ومخاييل الخيبة ترتسم على ملامح وجهه في يومه التعيس. «مك جايا ... مك جايا»، يفر مذعورا، يركض هائما على وجهه ... خوفا من ضبطه متلبسا من طرف أمه. مشاهد تتكرر باستمرار ليافعين، وجدوا ضالتهم في أحضان «القمار الهاوي» ولو عبر سرقة أسرهم. سماسرة من نوع خاص !! «بوشعيب» “صعصع الدرب” كما ينعتونه بالحي، يظهر كشبح من خلال غلالة الدخان الكثيف الذي يزفره بتلذذ شديد، يصعد النظر في الكل، من القدمين إلى الرأس بأعين حاسدة، كما لو اجتاحه إحساس بالدونية، يشير على أحدهم بالإقتراب، يجمع بقايا السيجارة بين أظافره الطويلة، و عندما دفعها إليه ابتسم بوضوح، أخذها و قرفص بجانبه : – كاين شي بياس جديد ولا والو ؟ – وي ... ديما الجديد ... وبنادم حتا هو موجود !!! يتبادلان الأسئلة و الردود المقتضبة حول صفقة مفترضة لعدد من «الرياشات»، وأعينهما مثبتة على الطاولات والأيدي والكؤوس. من حين لآخر يلتفت «شعيبة» نحو مسير القاعة، ويبتسم ابتسامة مشجعة و مطمئنة، يدلفون إلى باب جانبي، لينسل المسير في أثرهم بعد برهة. « هاذشي لخدام ... غير التبزنيس آولدي». يعلق أحدهم على الأمر. «عبدالقادر» أو “عبيقا”، كما هو متداول عند أغلب المقامرين بالقاعة المذكورة، سمسار من نوع خاص. يوظف هذا الشخص، كل ملكاته في سبيل جلب زبائن من مختلف الشرائح والأعمار، يصبحوا مع التعود، أوفياء للمحل ولعادات هدر الوقت والمال في سبيل جنون الإدمان على “الآلة العجيبة”. يعتبر “عبيقا” وجها مألوفا في العديد من المقاهي المعروفة بمزاولة أنشطة القمار غير المرخص به، خاصة بإحدى الفضاءات المعروفة بشارع الفداء، حيث يستقصي جديد المعلومات والأخبار حول القاعات والمقاهي الجديدة التي تعرض خدمة «الريّاشة»، وذلك للاتصال بالقائمين عليها، من أجل عقد اتفاق يتقاضي عمولة دورية عنه، من أجل الترويج للمحل وجلب القاصرين المولعين بها. قبل فوات الآوان ! أكد مصدر أمني أن مختلف السلطات المحلية والأمنية بالبيضاء قامت في الأشهر القليلة الماضية، بحملات واسعة منسقة، ومداهمات ضد قاعات الألعاب والمقاهي المعروفة بأنشطة مشبوهة، انتهت بحجز معدات تستعمل في القمار، كما حررت السلطات محاضر بالواقعة أدت اقرار متابعات قضائية في حق بعض الأشخاص الذين يتابعون من أجل إعداد أماكن للقمار بدون ترخيص. «العشرات من آلات القمار المعروفة ب«الرياشة» تم ضبطها وهي آلات تشبه إلى حد ما، أجهزة الألعاب الالكترونية، إلا أنها مخصصة للقمار، إذ يقامر اللاعب بمبلغ يتراوح بين خمسة و10 دراهم من أجل ربح 300 إلى 500 درهم. وأطلق عليها باللسان الدارج “الرياشة” ... إننا على أعتاب تجذر ثقافة قمار دخيلة، تهدد السلم والأمن الاجتماعي في المغرب... يجب دق ناقوس الخطر قبل فوات الآوان.» يصرح المصدر. مدمنو «الرياشة» أشخاص تولدت عندهم رغبة جامحة في امتلاك المال، لا يفكرون إلا بالدراهم التي في جيبوبهم كيف ستتحول إلى آلاف الدراهم ... أشخاص ساروا أسرى أحلام زائفة ... يحلمون في سوق أوهامهم أنهم يربحون. بالنهاية يجدون أنفسهم منعزلين مع نعيمهم المزعوم، وعندما يعودون لجادة جوابهم، يدركون الحقيقة بأنهم كانوا يطؤون على دروب الشوك وهم حفاة ولكن الآوان يكون قد فات. محمد كريم كفال