آوين إلى مداد القلم، ومساحات الورق ، ليروين بلغة السرد والحكي جوانب من يوميات المرأة المغربية، مُحدثات عن بعض من خلجات نفسها وأشواقها للحرية والمساواة. فكما أنهن لا يزلن يبحثن عن موطئ قدم في عالم السياسة والمشاركة في صناعة قرار يصنُع من المرأة شريكا فاعلا، لا مفعولا به، اقتحمت روائيات مغربيات بجسارة عالم الرواية واخترن هذا اللون الأدبي على وجه التحديد، ليحكين هذه المرة بلغة نون النسوة، عن المجتمع وتحولاته وعن ذواتهن كنساء باحثات عن مواطنة كاملة الحقوق، لا هبات يمنحها لهن المجتمع تفضُلا. عدد من الأسماء الروائية اللامعة التي أسست الأدب النسائي في المغرب، وواكبت الخطوات الأولى التي خطتها المرأة المغربية على درب التحرر من قيد الموروث القديم، والارتهان لعقليات تأسرها في قالب نمطي يفرض عليها جملة من الوظائف الاجتماعية المحددة بمنطق العُرف والعادات، ويمنعها عن كل فعل إبداعي ينتقد المجتمع ويبدي رأيه فيه، ومن البوح الخفي، المتستر بتعبيرات اللغة العربية وتشبيهاتها. من بين هذه الوجوه الأدبية التي استطاعت على مدى عقود من الزمن أن تحل مكانة مرموقة في سماء الأدب العربي والمغربي، الروائية المغربية خناثة بنونة، التي استطاعت على مدى سنوات طويلة أن تصنع أسلوبها الروائي المميز، وتعتبر شخصية أدبية ناعمة وصلدة في ذات الوقت انطلاقا من موضوعات رواياتها الآسرة، بل وأن تسهم بشكل فاعل إلى جانب أدباء وشعراء آخرين في رسم الملامح الأولى لمشهد أدبي مغربي، يُقال أنه لم يستطع أن يُواكب بذات النَفَس والدرجة التألق المغربي في ميدان الفلسفة وسجالاتها، فأبدع المغاربة في "الأطروحة الفلسفية" وتأخروا في "الحكي الروائي". "بنونة" التي دخلت معترك الرواية، في سياق تاريخي خاص، كان المجتمعالمغربي خلاله خارجا لتوه من معركة التحرير والاستقلال المُضنية، وما يزال يتلمس طريقه لبناء دولته المستقلة الحديثة، ولم يكن من الغرابة أن تختار عنوان "ليسقط الصمت" عنوانا لأول مجموعة قصصية أصدرتها سنة 1967 عشية النكسة العربية (حرب يونيو حزيران 1967 بين إسرائيل من جانب وسوريا ومصر والأردن وفلسطين من جانب آخر). كانت هذه الرواية مجاهرة من بنونة برفضها لما آل إليه المُجتمع العربي من صمت سحيق، وتأخر في استلام زمام المُبادرة التاريخية، وبناء دول المواطنة، التي لا يصلح غيرها فضاء للإبداع والخلق، يُعطى فيها للمرأة حقوق ومساواة تسمح لها بالخروج من نمطية صورة ألصقت بها على مدى قرون، وسيجتها قهرا في منطقة الظل ومخفية وراء السواتر والحُجُب. واصلت هذه الأديبة والكاتبة المغربية الفذة التي ولدت بالعاصمة الثقافية والعلمية للبلاد "فاس" سنة 1940، عطاءاتها الإبداعية، واقتحامها الجرئ لعوالم الشأن الثقافي بالمغرب الذي كان إلى ذلك العهد حكرا على الرجل، بل وعلى طبقة خاصة من المثقفين والفقهاء والسياسيين، فأصدرت في ستينيات القرن الماضي أول مجلة ثقافية نسوية تحت اسم "الشروق". ورغم أن هذه المجلة لم يُقدر لها الاستمرار لوقت طويل، إلا أنها وضعت "بنونة" على قائمة الرواد المؤسسين في الحقل الثقافي في المغرب. فبنونة، التي واصلت عملها منذ سنة 1968 مديرة لمؤسسة تعليمية بمدينة الدارالبيضاء، ستواصل بالموازاة مع ذلك وبحماسة وافرة، سَبْقَها الأدبي وفتوحاتها الثقافية، فكانت امرأة تتجاسر بثقة فتضع موطن القدم في تجارب أدبية عدة متفائلة بنجاحها، ابتداء بالقصة القصيرة، فالرواية الطويلة، وقصيدة النثر، فهي تدخل غمار كل لون أدبي مُسلحة بقلم رفيع ولغة عذبة قوية، وفكر مؤمن بقضايا أمته وآمالها في الانتعتاق والتحرر. وهكذا أصدرت خناثة بنونة سنة 1969 أولى رواياتها بعنوان "النار والاختيار" والتي حصلت على الجائزة الأدبية الأولى بالمغرب في نفس العام، ليقع عليها اختيار وزارة التعليم المغربية لتدرس ضمن مقررات الدرس الأدبي على مدى سنوات في المدارس المغربية، وما تزال العطاء الأدبي لهذه الروائية متواصل، حيث فازت السنة الماضية بجائزة "القدس" التي يمنحها " اتحاد الأدباء والكتاب العرب" عرفانا منه بإنجازاتها وعطائها الأدبي. ولعل هذه النزعة لإثبات الحضور النسوي، لا من حيث تميزه ك"جنس مختلف" عن الذكورة السائدة، بل من حيث قدرته على مقارعة الأفكار وإبداع النص، والمساهمة في بناء تصور حول المجتمع العربي والمغربي المنشودة بعد عقود من الاستعمار الأجنبي، لم يؤرق فقط الروائية خناثة بنونة، بل أرق معها جيلا كاملا من الأديبات والشاعرات المغربيات اللائي سترين النور خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ بلادهن، فبعد أن كن ذوات حُظوة فاستفدت من تعليم عصري على خلاف سائر النساء المغربيات في ذلك العهد، انبرين لتأسيس جيل الرعيل الأول من الأديبات اللواتي اخترن الرواية والقصة لطرح قضاياهن على مجتمع كان يتعامل مع كل إبداع نسائي ب"توجس وارتياب"، و"خوفا على العرض والشرف". وجه آخر يرافق الأديبة بنونة في رحلة البحث عن أدب بنون النسوة وهواجسها، هي الأديبة المغربية "رفيقة الطبيعة" التي أصدرت سنة 1969 أول مجموعاتها القصصية بعنوان "الرجل والمرأة" حاملا دلالات واضحة تتساءل عن طبيعة العلاقة بين كائنين يضعهما المجتمع الذي يحث الخطو على درب الانفتاح، في مفترق السؤال عن الصورة التي سيصنعها لهما مستقبلا، وحدود التماهي والتضاد بينهما، ونقطة الاشتباك الذي من الممكن أن تشتعل في الذاكرة الجمعية بين امرأة الماضي التي يقبل بها المجتمع ويحتضنها، وسيدة الحاضر المتطلعة إلى المستقبل التي ترتاب منها ويتوجس. كما أنتجت هذه القاصة والروائية المغربية أعمالا أدبية أخرى تميزت بذائقتها الفنية والأسلوبية اللافتة، كقصتها القصيرة "تحت القنطرة" وأخرى بعنوان "ريح السموم". فيما سردت أيضا روائيات مغربيات أخريات أمثال "فاطمة الراوي" و"ليلى أبوزيد" للأجيال المغربية اللاحقة عذابات معركة نيل الاستقلال التي خاضها آباؤهم وأجدادهم، وسبرت أغوار التغيرات الاجتماعية الطارئة على الأسر المغربية في ذلك الوقت وهي تنتقل من زمن إلى زمن آخر مغاير، بتحديات وآمالات جديدة. فكتبت "فاطمة الرواي" سنة 1967 روايتها "غدا تتبدل الأرض" بحس نضالي عالي، فيما أبدعت "ليلى أبوزيد" رائعتها "عام الفيل" سنة 1983 وهي تستجمع من الذاكرة شذرات ومشاهد من اللحظة القديمة المفعمة بالتطلع والشوق للاستقلال، متسائلة عن واقع الزمن الذي يلي لحظة الحرية والانعتاق تلك، ومدى استجابته فعلا لأحلام الشعوب في الاستقلال من سلطة كل مستعمر مستبد سواء أكان أجنبيا محتلا، أو من أهل الوطن وخاصته. ولا يبدو أن التأريخ للأدب النسائي في المغرب من قبل ذوي الاختصاص على ما يقول بعض المتتبعين، قد أوفى هذا النوع الأدبي حقه، فما تزال الكتب التراثية تتحدث عن أديبات مغربيات، عُرفن خلال عهد الدولة المرينية (حكمت المغرب ما بين عامي 1244 م – 1465م) بفاس (شمال) على سبيل المثال لا الحصر، بقريحتهن الأدبية الفذة، وجودة شعرهن ونثرهن، كالشاعرة المغربية "سارة الحلبية"، فيما يحصر البعض الآخر تاريخ هذا الإبداع إلى الفترة الاستعمارية وما صاحبها من انفتاح للفتيات على التعليم والقراءة واطلاع واسع على إنتاجات الأدب العالمي والعربي . أما وتيرة اقتحام المرأة لعالم الرواية والأدب في المنطقة المغاربية، لم يكن بذات الحيوية والحركية التي عاش على وقعها المشرق العربي وهو يتلقى إبداعات روائيات وشاعرات ك غادة السمان" و"نازك الملائكة" و"ليلى بعلبكي" وغيرهن، ويعود ذلك في رأي البعض إلى انفتاح المرأة هناك في وقت مبكرة على وسائل التعليم الحديث وحركة التحديث التي شهدتها بعض الدول خلال بواكير القرن الماضي مثل، مصر وسوريا ولبنان. ومع بداية ثمانينات القرن الماضي امتلأت رفوف المكتبات ودور النشر في المغرب بعدد من الأسماء النسائية التي اختارت الرواية والقصة لغة لإيصال تصوراتها عن مجتمع قطع أشواطا لا يُستهان بها على درب الانفتاح، وإن كانت المرأة فيه تواصل معركتها الحقوقية لانتزاع الاعتراف بها كفاعل أساسي في المجتمع، يتقلد المناصب العليا في الدولة، ويتوفر على هامش حرية تكفله له المواطنة الكاملة لا المنح المهداة. ولمعت أسماء جديدة خلال هذه الفترة منها مليكة مستظرف ونزهة برادة وزهرة رميج وأخريات أظهرن مراسا أدبيا متميزا، وإلماما لافتا بقضايا مجتمعهن، فتناولت أعمالهن الأدبية موضوعات شتى، تواكب التحولات التي عرفها المجتمع المغربي خلال هذه الفترة، من حلم الانتقال الديمقراطي مرورا بمآسي الفقر والبطالة واشكالات أزمة الهوية والعولمة، ونضالات المرأة لكسب رهان المساواة وغيرها. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وظهور جيل جديد من المدونات اللائي سمح لهن هذا الفضاء الواسع من التعبير عن ذواتهن بحرية دون الحاجة إلى قنطرة توصل أفكارهن، أو وسيط للتعبير عن تصوراتهن حول المجتمع والأديان والسياسة والأدب، فيما تواصل الساحة الأدبية المغربية في التعرف على أسماء جديدة تقتحمها، لروائيات شابات يخضن تجربة الكتابة والسرد الأنثوي، ما يجعل حقل الأدب النسائي في المغرب مفتوحا على حراك واسع يعكس حراكا موازيا لمجتمع بدأ يواجه بجسارة عددا من الموضوعات الإشكالية ك حقوق المرأة" و"مسألة الأقليات" و"الحريات الفردية" وغيرها.