أعرف موسم أصيلة منذ قرابة الثلاثين سنة. لسبب سأتبين حكمته فيما بعد حملنا الوالد ونحن صغار مثل أغلبية سكان مكناس إلى أصيلة صيفا لاكتشاف البحر. اكتشفت هناك نشاطا غير البحر. اكتشفت شيئا غير عادي على الإطلاق كان محل تندر في حقي من قبل أفراد العائلة وأقراني وأنا في السن الصغيرة حين كنت أرفض النزول معهم إلى الشاطئ لحضور ندوة من ندوات المنتدى. غير ما مرة أوقفني في الباب الحرس بدعوى أنني صغير السن أو بمبرر أنني لن أفهم ما سيقال وكنت أقول لهم إن الوالد بداخل القاعة ينتظرني لكي أدخل. حضرت ندوات استمتعت بها، وحضرت محاضرات لم أفهم حرفا واحدا فيها وحضرت أخرى ظلت ترن في الذهن والذاكرة إلى الآن أبرزها بالنسبة لي العبور الصارخ لإميل حبيبي ذات أصيلة وذات بوح وذات صراخ بالتعب والعناء من حمل هذا الحمل الفلسطيني الإسرائيلي لوحده عودت العين منذ اللحظات الأولى للصبا على رؤية كبار القوم الأدبي والإبداعي يختالون في الممرات الصغيرة للمدينة الخاصة من نوعها، واستوعبت أن بالمكان روحا نادرة، تلقائية، أصلية وأصيلة مكنت من اهتدى إلى فكرة هذا الموسم من العثور على تصور عبقري بالفعل للثقافة في موطن كان يبدو ظاهريا فقط غير مؤهل لها. كنت حينها مثل بقية الأقران أقرأ صحافة المعارضة وأجد فيها انتقادا شديدا للموسم، وكنت أقول لنفسي وأنا أقرأ انتقادات أناس أحترمهم للموسم إنني سأقاطعه الصيف الموالي لأنه "رجعي وسلطوي ومزيف وكل شيء" مثلما كانت تكتب الاتحاد والعلم حينها. وحين كان يأتي أوان الموسم كنت أجدني في مكاني المعتاد مستمتعا بفقراته وندواته، مغتاظا أنه لا يستمر إلا فترة معينة في الصيف، ومتسائلا عن هؤلاء الذين ينتقدونه بشراسة إن كانوا يفعلون ذلك لأن لديهم تصورا مغايرا وبديلا أم أنها الغيرة والأحقاد الصغيرة والسلام؟ فيما بعد حين سيكبر المرء قليلا سيفهم أن قبيلة المثقفين أو من يعتبرون أنفسهم مثقفين هي الأشرس في مواجهة بعضها، وأن الغيرة من النجاح تحرك في الفاشلين كل رغبات التحطيم الجنونية، والموسم أدى لسنوات ثمن هذا الصغر فقط لأنه كان سائرا من نجاح إلى نجاح آخر. تذكرت كل هذا "الموال" هذه السنة وأنا أجد أجيالا جديدة تحاول بدء المعركة الغبية المفتعلة ضد الموسم. عباراتهم تغيرت بعض الشيء، أدواتهم أصبحت عوض الاتحاد والعلم مواقع الأنترنيت والفيسبوك، لكن الفكرة المحركة الغيورة من النجاح لازالت على حالها تحدد نوعية الصراخ وطريقة التعبير عن الغضب، عن الكره، عن الرغبة في قتل هذا المشروع الجميل. لوهلة تساءلت "لو نجح معارضو الموسم في إيقافه كيف ستبدو أصيلة دونه؟". بسرعة يأتي الجواب "لامعنى لها". نعم، هكذا وبكل بداهة لامعنى لها لأنها على امتداد هاته السنوات الست والثلاثين صنعت لنفسها هوية خاصة تسمى الموسم لامفر من الاعتراف بالتماهي التام بينهما. لو غاب الموسم، هل سينجح مثقفو الحانات الصغيرة في تقديم بديل ثقافي آخر لأصيلة؟ لو غاب الموسم هل سيقدمون لسكان المدينة شيئا آخر أم تراهم سيكتفون بقتل الموت وسينامون؟ لو أضحت الكلمة الفصل في هاته المدينة الساحرة للمحكومين في قضايا المخدرات المختفين كل مرة في حزب جديد هل ستصبح أصيلة أجمل؟ لي شرعية السؤال، فأنا لم أكتشف أصيلة على "كبر"، بل تربيت فيها وأدين لموسمها بكثير مما تعلمته في هذه الحياة، وهي تعنيني تماماً مثلما تعني أبناءها، ولم أحضرها فقط ضيفا للموسم حتى لايشهر البعض في وجوهنا الأسطوانة المشروخة البليدة عن تقاضي المقابل للدفاع عن هذا المشروع. هذا المشروع بالتحديد يشرف المرء أن يدافع عنه، لأنه مشروع جمال لابد من حمايته، ومقترح بهاء من العيب اليوم أن يتطاول عليه الكارهون الكالحون. وإذا كان من كلمة أخرى لابد منها عن "مول الموسم" فلابأس من الهمس لبنعيسى في أذنه أن واصل المقاومة الجميلة التي بدأتها منذ نهاية سبعينيات قرن مضى. هذا قدرك: أن تذوذ عن حمى الفن والثقافة والجمال في هاته الأرجاء الزيلاشية إلى آخر الأيام، فلا حق لك في الهزيمة يارجل… أصيلة تأمرك بهذا، وكلنا متأكدون أنك ستلتزم بتنفيذ أمر هاته الجميلة التي تعشقها والتي جعلتنا جميعا تتنافس في هواها على امتداد كل هاته السنوات.. ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق بعيدا عن المركز الوازن لكلماته أكثر من اللازم، تصلك كلمات سكان المدن أو القرى البعيدة والصغيرة صادقة واضحة حين الحديث عن أمن الوطن. مناسبة الكلام تواتر الحديث عن تهديد إرهابي للمغرب، ورد الناس كان واضحا للغاية: نموت من أجل هذا البلد ولانسمح بأي مساس به وليطلب منا المغرب ما يريد ولن يجدنا إلا ملبين.