الأستاذ العربي المساري، كان نجما لدورة منتدى أصيلا الثقافي الدولي لهذا الموسم، تم تكريمه وتنظيم نداوت عنه، وسير أخرى وتدخل في الباقيات، كنت تراه دائما في الوقت المحدد حتى وإن تأخر الباقون، بربطة عنقه وابتسامته المتحفظة ولغته الأنيقة، وإلى جانبه زوجته التي الحب بينهما، ظاهر .. أنجزنا معه هذا الحوار الذي تحدث فيه عن منتدى أصيلة الذي شهد على تطوره منذ تأسيسه حتى الآن، عن تكريمه في هذه الدورة، عن الاتحاد المغاربي الذي كان موضوع نقاش المنتدى، وع ما حدث مؤتمر حزب الاستقلال. أنت كنت مراقبا لموسم أصيلة منذ بدايته، كيف تنظر لتقدمه عبر كل هذه السنوات؟ الناس يأتون لأصيلة وهم متيقنون أن البرنامج سيكون منوعا وكثيفا. كنا نجتمع في البداية قلة، كان ذلك في سنة 1978، منذ ذلك التاريخ كان بن عيسى يخطط لأن يصير المنتدى جامعة صيفية، كنا قد بدأنا بثلاثة أو أربعة أيام، والأمر تطور الآن إلى أن صار شهرا.. في البداية كانت رئيسة المنتدى هي عزيزة بناني، أستاذة الأدب الاسباني في كلية الآداب، وكان إلى جانبها شاعر قرطبي كعميد مساعد، وكان الأمر بالخصوص حوارا في العلاقات الإسبانية المغربية، حينها كتبت الصحافة العبارة التي كنت قد قلت بها توصيفا للبغية من المنتدى، وهي كلمة «ديساردينتار»، أي نزع رائحة السردين عن تلك العلاقات، فالإسبان لم يكونوا ينظرون لنا، إلا كمنطقة للسمك و»الصيد البحري» و»مراكبهم المحجوزة هنا»، وغيرها من القضايا المحدودة، لما قلتُ تلك الكلمة كانت توصيفا لما يحدث في أصيلة، كنا نلتفت نحن وهم إلى الأشياء الحضارية المشتركة، وعبرت عن أن هناك أشياء أساسية لنشتركها في المستقبل كما كنا نفعل في الماضي، ولهذا سمى بن عيسى الجامعة الصيفية بالمعتمد بن عباد، كان الأمر مقصودا، لنوجههم إلى تلك الأشياء المشتركة، ومنها «المعتمد»، حتى على الرغم من النقاش الكبير حول الشخص وسياقه، هو الذي كان قد أقاله يوسف بن تاشفين في فترة ملوك الطوائف، وأدبه بذلك الشكل المعروف في التاريخ، ويوصف المستشرق المؤرخ الهولندي «دوزي» وحتى الكثير من المؤرخين المشارقة، المعتمد بأنه كان شاعرا، لكن أحضره الفقيه بن تاشفين مسجونا ذليلا، ليستحضرهما رمزين متناقضين، أحدهما رمز للغلظة والقسوة، والمعتمد رمز للشعر والحياة، أما نحن فنعتبرهما معا رمزين لتاريخنا. ما التطور الذي شهده المنتدى في 34 دورة، أنت الذي كنت قد عاينتها جميعها؟ ما وقع هو أنه في كل سنة يحضر ثلاثون أو أربعون مثقفا من المغرب وخارجه، من اسبانيا والمشرق والمغرب العربي وأمريكا اللاتينية وافريقيا، كل سنة يحضرون لنقاش أمور حيوية بالنسبة للثقافة العالمية، يواكب باستمرار القضايا المطروحة في تلك اللحظة، ليكون لها هنا انعكاس في أصيلة، وتصبح النقاشات المطروحة هنا مرجعية، فيقول المهتمون أنه قيل في أصيلة كذا أو كذا، لدرجة أن ميغيل أنخيل موارتينوس قال إن أصيلة أهم من دافوس، فدافوس الذي يلتقي الناس به في سويسرا لمناقشة القضايا السياسية، لكن هذا أهم، فهو تحضر فيه أيضا دول الجنوب بكثافة، وأيضا بكفاءة.. لقد تطور المهرجان عبر كل هذا الوقت تطورا كبيرا جدا، خصوصا نحو الحرية، التي تتوفر للمتدخلين، هذا الجو من الحرية يجده الكثير من الضيوف غريبا. لما بدأت مشكلة الصحراء، احتاج الحسن الثاني للإضافات التي مثلتها الحركة الوطنية، فترك الناس «تتفوه» بما تفكر به إلى حد ما، وحدث أن تدرب المغاربة على قبول بعضهم البعض، حتى مع الاختلاف، فتجد الاستقلاليين والاتحاديين، يأتون في ضيافة بن عيسى الذي ينتمي لحزب التجمع الوطني للأحرار، ولكنهم يقبلون الفصل بين بن عيسى كشخص ومضيف وكانتماء سياسي، فيعتبرونه مثقفا أولا، أتقن عمله لما أنتج كل هذه الأشياء الجيدة، فيأتون لأصيلة ليجدونها مدينة نقية كريمة ومعطاءة، ويكسب بن عيسى الانتخابات، ليس لأنه تجمعيا، بل أصيلي، والناس كواحد منهم، قد تقع المنافسات بين المختلفين سياسيا، لكن مميزات أصيلة تغمر الجميع، ومنذ اللقاء الأول كانت الأمور حبية وبسيطة، دون الكثير من التفصيلات غير المنتجة، كان الشعار حينها «تعالوا نتشمس ونتشارك»، فيحضر الفرد في الصيف ليرتاح، ومعه يناقش. في البداية كان الضيوف ينزلون في طنجة، أما الآن فقد توفر هذا المبنى -يقصد قصر الثقافة الذي يضم أجنحة لإقامة الضيوف وقاعات للندوات- الذي نحن فيه الآن، والذي له قصة تبين التراكم الذي وقع، كان خربة، تحت ملكية الإسبان، ولكن لما رأوا بن عيسى والمجهودات التي يقوم بها في مهرجانه الثقافي، منحوه للمدينة وتنازلوا عنه، كان في البداية يكتريه منهم ب»بسيطة» رمزية سنويا، وكانوا يحاولون أن يبقوه في ملكيتهم، كما في حالة مسرح سيرفانتيس بطنجة إلى الآن، لكن عبر النقاش، والزيارات الثقافية التي كنا نستضيفهم فيها، سهل الاتفاق، فتنازلوا لوزارة الثقافة، التي كان على رأسها بن عيسى نفسه، ثم ألحقه بملكية المدينة، وصار دارا للثقافة، تقام فيه المعارض والندوات، وفيه ينزل الجزء الأكبر من الضيوف. فقام العام الأول بصباغة الجدران بسطلي جير، ونظمت فيه المعارض، ثم جهزت قاعة للنقاش، مزودة بالمكيفات والكراسي وكل التجهيزات اللازمة، وصارت تلك الدار التي كانت يوما مخزنا وأحيانا للبهائم، أصبح فيها كل هذا النشاط والتجهيزات المتعددة الوظائف. مكتبة بندر بدورها، بنيت بعد أن كان السيد سفير السعودية في واشنطن الأمير بندر، قد صار صديقا قريبا لبن عيسى، فتحابا وصارا قريبين جدا، ودعاه لأصيلة، فلما رأى ما يقع هنا، طلب أن يتبرع بشيء تحتاجه المدينة، وأخبره بن عيسى أن أحسن شيء يمكنه القيام به، هو أن يتبرع بمكتبة، وتبرعت المدينة بالأرض، ومول الأمير المكتبة، لتصير واحدة من المعالم الأساسية التي بناها السعوديون في المغرب، إلى جانب مكتبة آل سعود في الدارالبيضاء، ومدرسة الملك فهد للترجمة في طنجة، الزائر لأصيلة يكتشف في مكتبة بندر مشروعا كبيرا وغنيا، ويمكن للطلبة والباحثين من أبناء المدينة والنواحي الاستفادة منها بشكل جيد. خلاصة ذلك أن التطور في المدينة وقع بالتدريج داخل تلك الثلاثين سنة، هو بالضبط مثال للتنمية المستدامة، حتى قبل ظهور هذا الاصطلاح، وتطور مع تطورها ادراك المواطن الأصيلي، إذ أمكنه مصادفة كوفي عنان في المقعد المجاور له يشرب القهوة، وعلى الكرسي الآخر وزير خارجية بلد وشاعر آخر من بلد وقارة مختلفة، فأصبح بذلك أفق الأصيلي واسعا، ثم أصبح نموذجا للمدن الأخرى والمنتديات الأخرى، ليس في المغرب فقط، بل في العالم، ويدخل كل ذلك في رؤية بن عيسى منذ أن كان وزيرا للثقافة، فهو أراد إنصاف المدن الصغرى، التي في العادة قد تكون محط تهميش، وأسس مثلا الملتقى الوطني الثقافي في مدينة تزنيت، الكل كان يتساءل كيف يمكنه أن يفعل ذلك في مدينة صغيرة، لكن لما حضروا وشاهدوا العمران والزوايا والطبيعة والمعطى التاريخي والبشري في المدينة، أدركوا أنها تستحق أن تكون مصدر إشعاع حقيقي، وهو الشيء الذي انتبه له بن عيسى واستغله حينها بشكل جيد. ما تعليقك على حدث تكريمك في هذه الدورة؟ قال بودلير في إحدى قصائده «أن أسمع كلمتين جميلتين في حياتي، خير لي من مائة بعد مماتي»، الواقع أنه في كل سنة يتم تكريم شخصية علمية أو ثقافية معينة، وهذا التكريم أنا أظنه لسببين: أولهما: أنني من التشكيلة الأولى لجامعة المعتمد، أساهم بشكل دائم سنويا، غبت فقط في الخمس سنوات التي كنت سفيرا في البرازيل، منذ البداية وأنا أساهم كما أستطيع، وحتى في السنوات التي كنت خارج المغرب في المهمة الديبلوماسية، كنت أساهم عبر إرسال شعراء وضيوف لاتينيين. فكرة التكريم لشخص ما أصلها تكريم من خلاله الجيل الذي يمثله، وهم كرموني ليس لشخصي، ولكن لأنهم رأوا في ذلك، تكريما لجيل، ذلك الجيل الذي كان قد وجد أن الآباء منحوه بلدا، وأن علينا نحن أن نبنيه أو على الأقل نساهم في ذلك، وفهمنا بعد استرجاع الصحراء أن لدينا ما نخاف عليه، وأنه يوجد من يحسدنا على مكتسباتنا، هناك من آلمه أن المغرب فيه تجربة سياسية معينة، بخيرها وشرها، فالحسن الثاني كان قاسيا في منهاج بنائه للدولة، تماما مثل أبو الحسن المنصور الذهبي في القرن 17، ولكن قسوتهما كانت بهدف البناء.. المسار الذي فتح بعد المسيرة الخضراء كان بميزتين أساسيتين، المغاربة اكتشفوا أن عليهم الحرص على بلدهم، وأنهم وجب أن يتوحدوا لحماية 3500كيلومتر من الشواطئ، واكتشفنا أن لدينا جيشا حديثا، وعلى الرغم من أننا لا نملك البترول، ونستورد البترول الذي نستهلكه بشكل كامل، فقد بنينا ما لا يقل عن ثلاثين سدا، وعشرين جامعة.. حتى وصلنا لنسبة فقر هي أقل من تلك الموجودة في الجزائر البترولية.. فعلنا ذلك بالتعاون من أجل البناء، الاعتراف بالمختلف، اعتبار الحركة الوطنية ضرورة في مستقبل البلد، حدث ذلك بشكل أكبر لما تنبه الحسن الثاني إلى أننا مهددون بالسكتة القلبية، وبدأ العمل من أجل الخروج من ذلك الوضع، بوضع يده في يد الحركة الوطنية من جديد، بدأنا تجربة جديدة، وقفت في منتصف الطريق، وتضررنا منها كحركة وطنية، وتضررت منها الحركة الوطنية بشطري حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. إذا أردنا العودة إلى التكريم، فقد كرمت لأن الناس المنظمين رأوا في مثالا لهذا الجيل، جيل المغرب الذي أفرزته المسيرة، والذي يتجه بقوة إلى البحر الأبيض المتوسط، خصوصا مع زمن محمد السادس، بعزم لاستعادة المغرب المتوسطي، الذي يفتح أعيننا على المعطى الحضاري الموجود في البحر، والذي هو معطى أساسي بالنسبة للتاريخ والمستقبل، لأن المغرب الصحراوي والمغرب الأطلسي والمغرب المتوسطي، هذه المغارب الثلاثة، أجنحتنا الأساسية، لما انسحب المغرب من المتوسطي أصبح عرضة للاقتتال القبلي، لأن الانغلاق على النفس جعلنا نتلهى ببعضنا. ضيف الشرف هذه السنة هو «الاتحاد المغاربي»، وقد تم نقاش موضوع الاتحاد على ثلاثة أيام، هناك من يعلق على أن هذه الفكرة فقط نخبوية، ولا امتداد لها في الشارع وعند الانسان الاعتيادي؟ النخبة دائما نخبة، ليس بالضرورة أن يكون لها امتداد في الشارع، هناك فقط نخبة مندمجة في النسق، وهناك نخبة تعمل لحسابها الخاص، الدستور الجديد فيه إمكانية مأسسة النخبة.. لكن وجب أن ننتبه إلى أن الدافع الأول للمغرب العربي، هو القاعدة الشعبية، لأننا لما نلتقي نحن والجزائريون، تحس أننا شعب واحد، يمكن أن أحكي لك ما حدث يوما في مطار «أورني» كنموذج على ذلك، كنا أن وزوجتي في طريقنا للانصراف، ورأينا امرأة مستعجلة جزائرية تريد اللحاق بالطائرة، لكنها كانت في اتجاه خطأ، ذهبنا بجانبها وأخبرناها، ثم حملنا معها متاعها، أنا وزوجتي، وبدأنا في العدو حتى لا تفوتها الطائرة، عرفت أننا مغاربة، فقالت: «الله يهديهم، الله يهديهم !»، وكانت تشير إلى الأعلى، تعني السياسيين في الأعلى. سكان الحدود في كل مرة يجتمعون في مظاهرة قرب نقطة سيدي لطفي، مطالبين بفتح الحدود، الحدود المقبلة مصيبة. النخبة متلهية بنفسها، بينما القاعدة هي التي تريد الاتحاد المغاربي. نقاش مؤتمر حزب الاستقلال، ما تعليقك عليه؟ (يقول بحزن) أنا لا أريد الحديث عن الحزب، لأنني منذ مدة وأنا «طافي الضو».