واحد ممن وضعوا للقناة الثانية حجر الأساس، وصنعوا مجدها أيام كانت الوعدَ بأفق تلفزي جديد. وُلد وتألق مع انبثاقتها وتطورها، وساهم في خلق هويتها قبل أن يتم التخلص منه عام 1993 لجرأته ولاستضافته السفير العراقي وإغضابه أعلى سلطة بالبلاد. ليبدأ رحلة أخرى حملته إلى العديد من المنابر والمناصب الإعلامية بالمهجر. يفتكره المغاربة بأسلوبه الخاص في تقديم الأخبار. وجهٌ مألوف ومميز بنظارات وشارب، صوت هادىء وواضح النبرات، ملامح جدية، وعفوية لا يشوبها أدنى تكلف أو افتعال. ومنذ نشراته الأولى استطاع أنس بوسلامتي كسب ثقة الناس، ويتحول في ظرف وجيز إلى نجم أخبار دوزيم. لم يأت الأمر بمحض الصدفة. فقد سبق صعوده بلاطو الأخبار وظهوره على الشاشة، بمهنية واحتراف مع ما رافقهما من دمغة شخصية، تكوينٌ رصين في المغرب وخارجه. والبداية كانت بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، المدرسة التي تخرج منها ألمع الصحافيين المغاربة في الإذاعة والتلفزيون إلى جانب المكتوب. ثم جاءت الخطوة الثانية، وسافر إلى فرنسا رفقة زملاء آخرين كانوا يمثلون مشروع قناة خاصة ستاحمل بعد عام إسم "دوزيم". بباريس سيعمق أنس بوسلامتي تكوينه الصحافي بالمعهد الوطني للسمعي البصري، وسيحتك بعالم الإعلام الفرنسي وقنواته العمومية والخاصة وإذاعاته المتميزة. ليعود بعد عام إلى المغرب، ويتمرس لمدة بالبلاطو قبيل انطلاق القناة على نموذج تقديم أخبار M6. وما إن خرجا دوزيم إلى الوجود سنة 1989 حتى ظهر أثر تكوينه وتمريناته قود طعّمهما بجرعة خاصة من الجرأة كان المشاهد المغربي في حاجة إليها ليمنحه ثقته. لكن اللمسة التي ميزت هذا الإعلامي المسيس سرعان ما ستصبح نقطة إزعاج للمسؤولين. إذ طيلة أربع سنوات ظلوا يترصدونه إلى أن تخطى "الخط الأحمر". وأعطوا بالاستغناء عنه إشارة ببداية العد التنازلي لقناة انطلقت واعدة بالتحرير وانتهت في أحضان السلطة. وبهذا الختم السالب لتجربته مع قناة عين السبع، لم يبق أمام بوسلامتي إلا حمل خبرته والهجرة إلى بلد آخر ومحطة جديدة. في ألمانيا سيعثر عل|ى ما افتقده ببلده : الحرية، أوكسجين أي إعلام يبحث لنفسه عن النجاح. مثلما سيعثر على شريكة حياته من البلد نفسه، وينجب منها وحيده أنيس. ولن يبتعد عن مجال حرفته، إذ سيعمل مراسلا للإذاعة الهولندية ولتلفزيون أبو ظبي من برلين، قبل أن يتولى الإعلامي الراحل محمد باهي المسؤولية بجريدة الاتحاد الاشتراكي، ويستدعيه ليشارك في إعادة هيكلة الصحيفة المغربية الأولى آنذاك. ولم ينقض سوى عام واحد على عودته إلى وطنه حتي التحق مستشارا إعلاميا بديوان وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عند تشكيل حكومة التناوب، والقصد إعطاء صورة مغايرة عن وزارة ظلت مرهونة بالقصر وتحمل ختم "السيادة" داخل المغرب وخارجه. أقل من سنة وعاد الطائر ليهاجر من جديد صوب آفاق أخرى. والوجهة هذه المرة فضائية أبو ظبي في لحظة انطلاقتها الشهيرة. لحظة نافست الجزيرة في نشرات أخبارها وتغطيتها للحربين على أفغانستان والعراق.وعاد نجم هذا الإعلامي المغربي المتميز ليلمع وهو يمثل "الصحفي الوحيد في العالم الذي غطى بالصوت والصورة تفاصيل سقوط نظام طالبان، ودخول قوات التحالف بقيادة أمريكا إلى كابول، حيث تناقلت كبريات القنوات الدولية مثل سي إن إن وبي بي سي وغيرهما تقاريره وصوره". لكن الضريبة كانت اعتقاله بكازخستان، غير أن تدخل الوزير الأول المغربي وقتذاك عبد الرحمان اليوسفي أنقذه وفريقه التقني من مصير مجهول كان في انتظاره. لم يقف تألقه عند هذا الحد، فقط غطى الحرب على العراق، ورافق القوات البريطانية وهي تدخل البصرة مستبيحة حريتها، ونقل من هناك تفاصيل حياة العراقيين تحت نير الاستعمار. ولأسباب ظلت مغشية بالغموض غادر فجأة صحبة فريق كبير م الإعلاميين قناة أبو ظبي ليلتحق رئيس تحرير بفضائية دبي، وذوقع فيها على محطة جديدة في مشاوره المهني الغني بالتجارب والنجاحات، لكن هذه المرة من موقع الإدارة والتسيير. أنس بوسلامتي، الذي أسس منتدى الصحافيين المغاربة بالمهجر، يجسد نموذج الإعلامي المغربي الناجح، بكفاءته ومهنيته وجرأته. ودعوته العام الفائت من طرف دوزيم، قناته الأم، ليحتلف معها بذكراها العشرين، ليست التفاتة فحسب إلى هذا الإبن االذي تخلت عنه يوما ما، بل تذكير بالزمن الجميل لهذه القناة التي وعدت المغاربة بأفق تلفزيوني جديدة، لكنها أخلت الوعد.