تخلى محمد الطيب الناصري عن بذلته السوداء في المحاماة بعد أربعين سنة من الممارسة، وقبل قيادة وزارة العدل، والطموح حينها كان الإسهام في إصلاح قطاع العدالة بعد أن تعالت الأصوات المنتقذة والمحتجة على الأوضاع، وفي إحدى لجان البرلمان اختلط على الناصري الوعي بالمسؤولية بالغيرة على القطاع فما كان إلا أن أجهش بالبكاء أمام البرلمانيين، وقال :«إذا كنت أريد لنفسي جنة الفردوس، فإنني أريد للقضاء الفردوس الأعلى». الطيب الناصري لم يكن يدافع عن تفاؤل مبالغ فيه، بل مبعث ذلك الالتزام الملكي بإصلاح العدالة ودعم استقلالية القضاء وإصلاحه، والنهوض بأوضاعه، ومن حين لآخر كانت لدى الناصري قناعة يرددها على محاورية من النقابات والإعلام بأن لديه التزام ملكي بإصلاح القضاء. في الدستور الجديد سيظهر صدق الناصري، وأن الدموع التي ذرفها داخل البرلمان، ليس من أجل التهرب من المسؤولية، وإنما كانت نوايا صادقة في التبشير بفجر يكون خيطه الأبيض استقلالية القضاء أما خيطه الأسود فمحاربة الفساد المستشري في الجسم القضائي وحماية النزهاء من القضاة والقاضيات. كانت المسافات في دستور 1996 غير واضحة ما بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وحتى عن صلاحيات الملك، فالدستور الجديد جاء ليحدد هذه المسافات، فارتقى بالقضاء إلى سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فمثلا السلطة التنتفيذية ظلت حاضرة عبر مراقبة المجلس الأعلى للقضاء الهيئة التي يرأسها جلالة الملك، رغم أن وزراء العدل يرددون أنهم يرأسون المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك، وليس بصفتهم الحكومة، وأن مبدأ فصل السلط لم يتم خرقه. المسافة الضامنة لاستقلال القضاء أراد لها الدستور أن تكون بين القضاء والملك كيف ذلك؟ الجواب عن هذا السؤال يستدعي التوقف عند الفصل 57من الدستور الجديد، فالملك يعطي موافقته بظهير على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بعد أن كان دستور 1996 يجعل الملك سلطة تعين القضاة بظهير. تخلي الملك عن صلاحية تعيين القضاة والاقتصار على الموافقة، في نظرالمحامي والقيادي الاتحادي عبد الكبير طبيح، يعلن مسافة أخرى للملك مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من خلال تعيين الرئيس المنتدب، فإذا كان وزير العدل مجرد نائب عن الملك في المجلس الأعلى للقضاء حسب دستور 1996 أي لا يمكن مساءلته عن أعماله، فوضعية الرئيس المنتدب تتضمن مجموعة من الصلاحيات، وفي نفس الوقت مجموعة من المسؤوليات، يتجلى ذلك بوضوح في أن الملك في الدستور الجديد وإن أبقى على حق الموافقة على تعيين القضاة، ابتعد عن عزل القضاة وتنقيلهم، وفتح الباب أمام إمكانية الطعن في مقررات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالشطط في استعمال السلطة، بما ينهي مع التجربة السابقة التي كان المجلس الأعلى للقضاء يصدر مقرر التوقيف أو التنقيل ويوقع عليه وزير العدل بصفته نائبا عن الملك، فيتم الانتصار لشكليات القرار، على حساب قيم العدالة التي تفرض وجوب فتح الباب أمام الطعن في أي قرار إداري يرى فيه أصحابه أن السلطة مست حقوقهم. على هذاالأساس، يكون لكل قاض تم عزله أو تنقيله، أو صدر في حقه أي مقرر من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويعتقد أن القرار يتسم بالشطط في استعمال السلطة، أن يتوجه إلى مجلس النقض لوضع تظلمه ضد هذه المؤسسة الدستورية. تكلفة فصل السلط، بالنسبة للملك لا تتجلى فقط في إقامة المسافة مع القرار المتعلق بتنظيم المجال القضائي سواء التعيين أو العزل، بل في تعزيز سلطة القانون، فمحكاكم المملكة ستصدر الأحكام باسم الملك وطبقا للقانون، الذي يحيل إلى أن أي حكم أو قرار يصدر عن القضاء يقبل الطعن، والملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، أما تدبير الشأن القضائي فهو يخضع للقانون ومساطره، وقواعد المسؤولية.