أستاذي وأخي وصديقي السي محمد جسوس، يصعب علي، بما يقتضيه مقام التأبين من إيجاز، أن أتحدث وألم بمختلف جوانب حياتك الغنية، لذلك سوف أقتصر على نقطتين فقط مفسحا المجال لغيري من أصدقاءك وزملائك. عرفت حياة السي محمد جسوس، منذ طفولته الأولى جملة من المنعطفات التي غيرت مسارها مرات عديدية نحو وجهات لم تكن مألوفة أو متوقعة بالنسبة لجيل كان مستقبله واختياراته مرسومة ومحددة. كانت تتحكم في هذه الاختيارات عوامل متعددة منها ما يرجع إلى الأصول الاجتماعية والوضعية الاقتصادية للأسرة، ومنها ما يعود لظرف الاستعمار ومواجهته واشتداد الأزمة الاقتصادية والسياسية فبل وأثناء الحرب العالمية الأولى. خرجت حياة محمد جسوس مرات عديدة عن خذه السكة المألوفة وسمحت بمراكمة تجربة غنية وبلورة وعي اجتماعي وسياسي مبكر. الحق السي العباس جسوس، الحرفي البسيط، كما جرت العادة ابنه البكر بكتاب الحي القرآني في سن الرابعة تقريبا حيث قضى به ما ينيف عن الأربع سنوات حفظ فيها الفران الكريم وتدرب على رسمه وكتابته، وهو ما خلف لديه شغفا بالخط المغربي المتأثر بالرسم العثماني. ألحقه والده بعد ذلك بمدرسة «باب عدس» الابتدائية وهي إحدى أولى المدارس التي فتحتها الحركة الوطنية في كجزء من مشروعها لمواجهة الاستعمار والحفاظ على الهوية الوطنية في إطار مدارس عصرية يتلقى التلميذ فيها بالكامل باللغة العربية. بعد حصوله على شهادة الدروس الابتدائية سنة 1948، كان الاختيار البديهي له وخاصة لأسرته هو الالتحاق بالقرويين قصد تحضير شهادة العالمية. لكن ظروف الحرب العالمية الثانية ونصح معارف وأصدقاء للوالد بإعادة توجيه ابنه نحو التعليم النظامي لأنه يفتح آفاقا أرحب من التعليم التقليدي آنذاك دفعت والده إلى إعادة لإلى إعادة تسجيل ابنه في مدرسة « أبناء الأعيان» النظامية حيث حصل على شهادة ابتدائية ثانية صيف سنة 1952. انتقل محمد جسوس في فترة وجيزة ما بين نظامين تعلميين وسجلين ثقافيين متباينين. خلفت لديه هذه التجربة، رغم عنائها، في نفس الآن معرفة جيدة بالنص القرآني وتشبعا باللغة العربية وآدابها وتمكنا ممتازا من لغة فرنسية كلاسيكية متينة تميز بها. التحق بالتتابع بكوليج مولاي إدريس بفاس ثم ثانوية المولى إدريس حيث أعفته الإدارة من بعض المقررات وسمحت له ب» القفز» على بعض السنوات وهو أمر استمر في النظام التعليمي إلى أواسط الستينات كتشجيع وتمييز للتلاميذ النجباء المتفوقين إلى أن حصل على شهادة الباكلوريا سنة واحدة بعد استقلال المغرب، أي سنة 1957. تشكل خلال المرحلة الثانوية للسي محمد وعي سياسي واجتماعي حاد ساهم في تكوينه تسارع وكثافة الأحداث التاريخية، خاصة نفي محمد الخامس وقمع الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة ثم الاستقلال، وهي أحداث كانت فاسمسقط موطنا لها أو جزءا من صانعيها. أشير إلى أن السي محمد تفوق خلال دراسته في عدة مواد، خاصة الرياضيات التي تفوق فيها، وقد كانت اختيارات الشباب المتعلم، بدعم وتوجيه من الحركة الوطنية تحبذ توجيه شبابها المناضل لدراسة القانون أو الطب أو الهندسة كأولويات للتحضير لبناء دولة ما بعد الاستقلال. غير أن الصدفة وحدها هي التي قادت السي محمد لاكتشاف السوسيولوجيا سنوات نهاية دراسته الثانوية، من خلال زياراته ككاتب عام للشبيبة الاستقلالية آنذاك لدير تومللين ضواحي آزرو حيث كان رهبانه، إلى حدود بداية التسعينات، ييسرون للشباب المنظم فرصة عقد تجمعات ودورات تكوينية كانت السلطة تمنعهم أو تضيق عليهم فيها. في خزانة تومللين سوف يكتشف منجما من الدراسات السوسيولوجية والإثنوغرافية التي شغف بها وقرر أن يدرسها ويخصص فيها. للإشارة، انتقل هذا الدير وخزانته الغنية إلى الرباط وفتح في وجه الباحثين باسم خزانة La source الشهيرة التي تم تسلميها مؤخرا كهبة للمكتبة الوطنية. صدفة ثانية إذن غيرت وجهة السي محمد من طريق الرياضة والهندسة المرسومين سلفا نحو السوسيولوجي التي قرر أن يدرسها في كندا ثم أمريكا بدون منحة حيث غادر مطار أنفا بالدار البيضاء مرفوقا بحقيبة واحدة وتذكرة الطائرة و 300 درهم. بعد غياب مستمر عن الوطن دام عشر سنوات سوف يعود السي محمد إلى المغرب مرفوقا بزوجته وبالقليل من المتاع والكثير من الكتب. كانت طريق الإدارة والدبلوماسية والأعمال مشرعة الأبواب أمامه حيث الشهرة والمال والجاه، لكنه فضل الالتحاق بالجامعة المغربية الفتية التي لم يغادرها إلى حين وفاته. أشير أنه عاد حاملا لشهادة الدكتوراه من جامعة برنستون العريقة، لكنه وجد صعوبة في إقناع موظفين إداريين لأنهم لم يكونوا يعرفون إلا النظام الفرنسي ويصعب عليهم من جهة إدراك أن PH.D هي شهادة الدكتوراه في صيغتها الأمريكية ومن جهة ثانية أن PH لا تحيل على الفلسفة وإنما على كل شهادات الدكتوراه في مختلف التخصصات. يحكي السي محمد ذلك بتندر وتفصيل في حوار مطول مع عبد الكريم الأمراني نشر على حلقات في جريدة الاتحاد الاشتراكي. الجانب الثاني الذي أريد أن أتوقف عنده في عجالة يتعلق بالدرس السوسيولوجي عند السي محمد، وبصفة أعم علاقة العلم بالسياسية. يصحب على توضيح هذه الفكرة دون ربطها بظرفيتها التاريخية فقد تميزت عشرية 1965-1975 التي اتم فيها السي محمد دراسته ثم التحق بالجامعة بصراع سياسي وفكري كبير مع نظام يبحث عن تأسيس وفرض سلطته ومشروعيته ونخب سياسية وثقافية تحمل مشاريع مغايرة تماما. انتفاض مارس 65، المحاولتين الانقلابيتين، المحاكمات الكبرى، أحداث مارس 73 وخروج الاتحاد الاشتراكي من رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وظهور حركات اليسار الجديد و وصول الأفواج الأولى من الطلبة الذين التحقوا بالمدرسة مباشرة بعد الاستقلال. التحق جسوس بالجامعة للتدريس ثم بالحزب للعمل الساسي. لا يتعلق الأمر بمسارين أو سجلين مختلفين عند السي محمد ومن جايله وتلاه وإنما بوجهين لا ينفصلان لعملة واحدة. نقل العلم (السوسيولوجيا) إلى الحزب ونقل الهم السياسي ، وليس الحزبي، إلى الدرس السوسيولوجي. درس السوسيولوجيا وفكر فيها لا باعتبارها نظريات علمية فقط وإنما كأدوات ضرورية لتحليل» حال ومآل المجتمع المغربي» وهي جملة أثيرة عند محمد جسوس. كانت النظريات السوسيولوجية الكبرى، خاصة الماركسية الوظيفية على الرغم من قوتهما التحليلية الهائلة، مرتبطتان بالساق التاريخي والمجتمعي الذي تفاعلتا معه، ولم يكن اختيار جسوس هو اللجوء إلى نزعة اختبارية ضحلة أو الركون للتحليل المجرد أو الخضوع لمعطيات ميدان غير مفكر فيه. كان اختيار محدج سوس هو إعادة قراءة النظرية والتعريف بنماذج تحليلية قوية أفادت السوسيولوجيا والسياسية في نفس الآن. أذكر في هذه العجالة بتحليلاته والكبرى وقريبه للمفاهيم والنماذج التحليلية الأساسية خاصة: البنيات الاجتماعية الكبرى، خاصة الدولة والسلطة، الثقافة والسلطة،خاصة تحليلات غرامشي ودور المثقف العضوي، الفئات الهشة والقطاع غير المهيكل الإرث الكولونيالي التحليلايت الأنجلوسكسونية حول المغرب، الباترمونيالية والباتريمونيالية الجديدة العلاقات الزبونية علاقات التبعية ( مدرسة أمريكا اللاتينية)، لعلاقات الانقسامية الحركات الإسلامية والمهدوية. هاتين الملاحظتين هما ما يسمح بهما مقام تأبينك السي محمد. إذا كنت قد غبت عنا جسديا فإن درسك وفكرك حاضر بقوة في السياسية والجامعة والمجتمع. عزاؤنا لأسرتك الصغير أولا وأخيرا. لرفيقة عمرك التي لعبت دورا أساسيا في توازنك ورعايتك ولأبنائك ليلي ونادية وعمر. عزاؤنا لطلبتك ورفاقك وأحبائك في أي موقع كانوا.