عندما دخل العالم اللغوي سيبويه إلى بغداد قادما إليها من شيراز ودخل مساجدها ومدارسها ليقدم دروسا غير مسبوقة في فقه اللغة العربية ، أقض مضجع عالم لغوي آخر هو الكسائي الذي كان آنذاك أستاذا للأمين و المأمون إبني الخليفة العباسي هارون الرشيد، فقد خاف من زعزعة مكانته المتميزة في البلاط بسبب الأصداء الطيبة التي رافقت تقديم سيبويه لدروسه في بغداد. ونظرا لأن الكسائي يعرف قيمة وقوة سيبويه اللغوية فقد التجأ إلى المكر و الخديعة للحط من قيمته العلمية وتلويث سمعته، حيث قام بإحضار مجموعة من الأعراب من ريف بغداد والتنسيق معهم حول تزوير نطق بعض البنيات و التراكيب اللغوية العربية قصد استخدامهم كشهود إثبات عند مناظرة الكسائي وسيبويه، لأن الأعراب كانوا يشكلون مرجعا لغويا قويا في اللغة العربية الأصلية. وذلك ما وقع فعلا فعندما حضر سيبويه إلى جامع الرصافة لمناظرة الكسائي بحضور جمع غفير من المهتمين و الفضوليين و الأميين وجد نفسه متورطا في مقابلة مجموعة من الأعراب المتآمرين والمدافعين عن بنيات وتراكيب لغوية مغلوطة ورغم ما قدم سيبويه من حجج علمية لدعم موقفه فقد تم إفحامه وإسكاته نظرا لمكانة المرجعية اللغوية للأعراب عند الجمهور، فتم للكسائي ما خطط وأراد، وخرج سيبويه من المجلس غاضبا وغادر بغداد قافلا إلى شيراز والتي وصلها معتل الصحة مكسور الجناح ولم يغادرها إلى أن خرج من بيته محمولا على نعش. لعل عديدا من القراء سيصلون إلى المغزى المنشود وراء سرد هذه الرواية، إلا أنني سأحاول إحداث ملامسة خفيفة لبعض تفاصيلها حتى لا يستيقظ الشيطان القابع داخلها. فرغم إسكات سيبويه وإفحامه في المناظرة /المؤامرة، فإن الأيام أبدت للناس ما كانوا يجهلون، وأماطت اللثام عن الحقيقة، وتلاشى الزبد جفاء، وبقيت اللغة العربية الحكيمة ثابتة على أصولها وقواعدها المتينة التي أسسها سيبويه والذي بقيت كلماته ومرافعته خلال المناظرة المفتعلة مرجعا وسندا خالدا لمن أراد التمتع بجمالية اللغة العربية و الغوص في أعماق عيلمها. فالبئر أبقى من الرشاء حيث تتوالى على البئر حبال ودلاء كثيرة لجلب مائه واستنزافه، وبفعل الزمن تصاب هذه الحبال بالتمزق و تتقطع أوصالها ويبقى البئر صامدا مدرارا للماء وساقيا للغليل الملتجئ إليه . ذلك هو شأن الحكيم عبد الله العروي الذي بقبوله مواجهة السيد عيوش لم يضع رأسه في «النخالة» لأن الخصم أقام الدنيا وشغل الناس، وليس سهل المراس… كما أن قبوله مناظرة عيوش ليس تواضعا منه، لأن التواضع من الصفات اللازمة والملازمة للعالم والحكيم الحقيقي، وإذا وصفناه بالتواضع فذاك مجرد تحصيل حاصل. كما أن الأستاذ العروي بقبوله مناظرة عيوش لم يقع في هفوة ولا في زلة، بل فعل الذي كان من اللازم فعله انطلاقا من إيمانه العميق بتكافؤ الفرص، وبأن المناظرة معركة والاستهانة بالخصم خلالها أمر وخيم العاقبة. فعندما تكون الأمية متفشية في مجتمع أمة من الأمم فمن السهل على الأمراض والعلل اختراق جسمها وتمزيق أوصالها الأمر الذي يتطلب الحذر واليقظة لمواجهة كل ما يتهدد هذا الجسم بالقوة و الفعالية اللازمة. أتمنى للأستاذ الجليل العروي التوفيق و السداد في كل ما يتبناه من مقومات الدفاع عن هوية المغرب الثقافية و الحضارية. كما أتمنى أن ينخرط السيد عيوش انخراطا فعالا وقويا في مسلسل إصلاح وإنقاذ منظومة التربية و التكوين من الانهيار ، ليس عبر إقحام الدارجة المغربية بل عبر تعزيز ودعم تعلم اللغة العربية المبنية على القواعد و الأسس الثابتة، وعبر تمكين صغارنا وشبابنا من مفاتيح تعلم اللغات الحية ( الفرنسية و الانجليزية والألمانية) وتمكينهم من تحليل النظم المعلوماتية لتحقيق التقدم و الازدهار و النماء للمغرب العزيز الذي هو في أمس الحاجة إلى تظافر جهود سائر أبنائه بمختلف الشرائح و الاتجاهات.