*الكل ينادى: الحوار! مد الأيادى! المصافحة! المصالحة! والكل يستجيب، ولا أحد يرفض. حتى القتيل يريد أن يمد يده للقاتل حقنا للدماء، والدماء تسيل. فمهما ادعا هذا الفريق أنه على حق، وادعا الفريق الثانى أنه على حق إلا أن الدماء التي تسيل من كلا الطرفين دماء مصرية، حرام إراقتها. فلماذا تفشل دعوات الحوار؟ ولِمَ يرخص الدم مهما عظمت جنازة الشهيد؟ 1 – يصعب الحوار نظرا لتمسك كل طرف بالمواقف المبدئية، التي تشبه العقائد الإيمانية أو الفرق الدينية، وهو ما حدث في الفتنة الكبرى عندما خرجت الآلاف على علي بعد قبوله التحكيم، وهو على حق، وإلا فلماذا يقاتل؟ والخوارج على حق، وإلا فلماذا يقاتلون؟ والحقائق مطلقة، يستشهد من أجلها المؤمنون بها، وهي أقرب إلى الآمال، التي يرجو الناس تحقيقها. 2- ويعتمد كل طرف على التقليد وعلى سلطة القدماء، وبراهين التاريخ. فما حدث في الماضى لابد أن يحدث في الحاضر وفي المستقبل، فالسلف خير من الخلف، وما ترك الأسلاف للخلف شيئا، ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وقد يكون هذا أوضح عند الإسلاميين. 3 – ويعتمد كل طرف على سلطة النص المكتوب، أي النقل بتعبير القدماء «قال الله» و«قال الرسول»، ويضاف إليهما «قال سيد قطب» أو قول أحد أعضاء مكتب الإرشاد، والقول سلطة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها. هو قول مقدس. يوجب الطاعة والانحناء، وهو كتاب مسطور تُنتقى منه الآية أو الفقرة أو الجملة، التي تؤيد الموقف، ويمكن انتقاء آية أخرى أو جملة أخرى لتأييد موقف ثانٍ. فالكتاب حمال أوجه عن طريق الانتقاء، ثم عن طريق التأويل طالما لا توجد مرجعية أخرى يتم اللجوء إليها للاحتكام إذا ما تضارب الموقفان، وتمتد سلطة النص إلى كل نص، نص الأب أو الأخ الكبير أو الأمير أو الوزير أو المعلم أو المدرس أو المربي أو الرئيس. هي سلطة «سى السيد»، التي لا يستطيع أحد تحديها أو تفاديها. 4 – وقد نشأ فعل التقديس من الإحساس بالعجز عن حل المشاكل. فقد كان الكتاب المقدس مجموعة من الأحكام، التي جمعت على مدى ثلاثة وعشرين عاما. كل حكم يأتي حلا لمشكلة وبناء على سؤال الناس، لذلك يتصدر الآية فعل «ويسألونك»، ثم تأتي الإجابة «قل»، والمقصود ليس هذه الأحكام «الشرعية» المجمعة، بل منهج حل المشاكل الدنيوية، وما سماه الأصوليون الأصل، الذي يُحال إليه الفرع، وهو الإشكال الجديد. فإذا ما كانت علة الحكم واحدة في الأصل والفرع أخذ الفرع نفس الحكم، الذي أخذه الأصل. فإذا عجز طرف عن القيام بمسؤولياته المنهجية حول الأصل إلى مقدس، واعتبر النص إعجازا لا يُباري مع أنه يقوم على العقل، كما يقوم على الواقع. العقل يحلل الأصل، والواقع يحلل الفرع. ويصبح العقل والتجربة مصدرين للحكم، فالنص لا قدسية فيه، بل فيه منطق واستدلال وتجربة. 5 – ويصعب الحوار عندما يغيب الآخر، ويكتفي الأنا بالحديث مع نفسه، فالحوار لا يكون إلا مع آخر، أما الحوار مع النفس، وسماع ما يحب الإنسان سماعه، فإنه يكون مونولوجا أي حديث النفس، والآخر جزء من الذات. 6 – ويصعب الحوار عندما تكون الحقيقة واحدة، وهو وهم كبير، لأن الحقيقة متعددة. يُنظر إليها من وجهات نظر مختلفة. الحقيقة منظور. هي أقرب إلى نظرية المعرفة أي رؤية، حقيقة من خلال الذات، وليست حقيقة في ذاتها، وهو ما يسمى النسبية، والنسبية في حقيقة الأمر تقوم على إنكار الحقيقة الموضوعية، ولا تبقى إلا الحقيقة الذاتية، التي تتغير بتغير الذوات الغارقة في الأهواء والميول والرغبات. 7 – والتعددية لا تعني النسبية إذ إنها تستند إلى افتراض حقيقة أعلى، وهو ما يسمى التعالى، أي البحث عما هو أعلى من أجل الوصول إلى التوحيد، فما يهم هو التقدم المستمر، والبحث عما هو أعلى باستمرار، حتى يصبح الحوار ممكنا، فالحوار ليس مجرد تبادل المصالح بين وجهات نظر مختلفة بين قوى سياسية متضاربة، بل الوصول إلى ما وراء الحوار في التعالي المستمر، وهو ما وصف به الإنسان قائلا «سبحانه وتعالى» لوصف الألوهية. فالتعالي عملية يقوم بها الإنسان حتى يمكنه الوصول إلى الآخر. إذ يجتمع هو وإياه في حقيقة أعلى. يمد كل طرف يده إلى الآخر، الذى يمد يده هو الآخر، فتلتقى اليدان في حقيقة أعلى. يصعب الحوار إذا ظل على مستوى تبادل المصالح، يتم الحوار فيها بمنطق «خذ وهات»، ويسهل بمنطق التعالى أى الاجتماع معا في حقيقة أعلى تلتقى فيها الأطراف. يصعب الحوار إذا ظل سياسيا دون أن يذهب إلى ما وراء الفلسفي، الذى يستند إليه. يصعب الحوار السياسي لغياب ثقافة الحوار الفلسفي.. فإلى متى