يتذكره المغاربة ب"رسالة واشنطن". فسحة تحليل إخباري على جريدة "الاتحاد الاشتراكي" لأهم ما عاشته العاصمة الفدرالية لبلاد العم سام في أسبوع. وموعد شبيه ب"رسالة الباهي الباريسية" ينتظرونه بشغف. وفي التوقيع "محمد العلمي" وصورتان تكملان بعضهما : واحدة لرجل أربعيني باسم، وأخرى لأحد معالم ورموز السياسة أو الاقتصاد الأمريكي. ولسنوات ظلت إطلالته الأسبوعية على جريدة جل المغاربة آنذاك هي هي. تجميع لأهم ما رشح به إناء السياسة والقرار في "الدولة العظمى"، واستضاءة بتلك القدرة الجميلة على العرض والتحليل بلغة الصحافة. وفي العمق، كان العلمي والراحل محمد باهي يؤسسان من مغتربيهما لتقليد جميل في الإعلام المغربي المكتوب.لم تكن "رسالة واشنطن" سوى البداية. خط الذهاب نحو حلم قديم راود محمد العلمي منذ أن كان صبيا يعيش في كنف عمه بأحد الأحياء الشعبية لفاس. حلم تناسل من صلب حكاية تستحق أن تُروى لأنها تلخص كل مسار هذا الإعلامي اللامع في سماء التلفزيون العربي. فخلف الشهرة والنجومية اللتين حصّلهما العلمي بعد طول كدح تتوارى رحلة يُتْم انطلقت إثر وفاة الوالد والطفل لم يزل في سن الحبو. لا معيل وقتها غير عم مغلوب على أمره ينوء بأثقال المعيش اليومي الصعب. لذلك، تحكم قساوة الظروف على محمد أن يترك بيت الأسرة ليلتحق بدار الرعاية الاجتماعية بباب خوخة. هناك سيتعلم العلمي أبجديات الحياة بحق، وستحقنه بجرعتها من الألم وهو يجرب الحرمان ويكابد غياب أبوين يمنحانه الدفء الذي يحتاجه كل طفل. لكن الدارالجديدة ستعطيه ما انتزعته منه ظروف لم يكن له فيها من يد. ستزرع فيه إرادة أن يتحدى واقعه، وأن يُكوّن نفسه بنفسه، وأن يتعلم كيف يواجه الحياة وحده. صورة واحدة بقيت تفعل فيه : عمّه وهو مشدود إلى الراديو في انفعال تام تحت وقع نبرات "صوت العرب" ستينيات القرن الفائت. صورة رسمت له طريق حلم كُتب له أن يتحقق في الأخير. لكنه لم يأت سهلا. كان العلمي على مواعيد مع وجوه أخرى للحياة أصرت أن تُريها له. إلا أن دروس "باب خوخة" كانت أقوى وحصنته في أكثر من محطة. والحلم القديم ظل هو هو، نجمة طريق بها يستهدي وإليها يسعى. السنوات الخمس التي أمضاها في التدريس أقنعته أنه أخطأ الاختيار، وأنه لن يصلح لمهنة ليس بينه وبينها من صلة رحم أو حبل ود. فانبثقت فكرة الهجرة. كانت الوجهة الولاياتالمتحدةالأمريكية. بلد سيتحول مع الوقت إلى وطن ثان والعلمي يحصل على الجنسية، ويعثر على ما كان يبحث عنه ويكد من أجله في رحاب صاحبة الجلالة. "رسالة واشنطن" بهالتها لم تكن غير تمرين جدي وممر سالك نحو الشاشة الصغيرة. والعلمي بتجربته في الحياة والإعلام وإجادته لأكثر من لغة أجنبية كان مطلوبا من الفضائيات العربية التي أسست لها مكاتب في أمريكا. لم يتردد في الالتحاق بأبو ظبي وقت كانت إخبارية وتقدمت الجزيرة والعربية في تغطيتها المعارك الطاحنة في حرب أمريكا وبريطانيا على العراق. إلا أن تحول القناة وإقفالها لمكتبها ببلاد العم سام سارع بختم هذه التجربة. مع الجزيرة سيظهر الوجه الحقيقي للعلمي. وسيسجل إسمه ببنط عريض على شاشة التميز والكفاءة المهنية والاحتراف. مقابلات مع أشهر الشخصيات السياسية والاقتصادية من صناع القرار الأمريكي، تغطيات ميدانية جاذبة، تقارير إخبارية دقيقة ومحررة بلغة شفافة ولمسة خاصة في التحليل ثم تلك الدمغة المغربية الأصيلة في النبرة والصوت. إضافة حقيقية لقناة ذات انتشار عربي واسع عرفت كيف تضع يدها على نجوم الإعلام العربي وتؤثث بخصوصية كل واحد منهم حضورها الفاعل. مع الجزيرة ستتحقق الشهرة على نطاق أوسع، ستكتمل دورة الحلم، ويعود محمد العلمي الذي "ركب طائرة الرئيس الأمريكي" إلى باب خوخة بفاس، إلى بيته الأول، ليتفقد آثار الطفل الذي حلم ذات يوم أن يصبح له نفس تأثير مذيع "صوت العرب"، وظل وهو يكبر وفيا لذكريات طفولته القاسية، صائنا للإنسان فيه، قبل أن يظهر مؤخرا على شاشة الجزيرة في زيارة فريدة لأطلال البروة بفلسطين، قرية درويش، يتيم الأرض والوطن.