عادة ما يتم «استحضار» مصطلح «الأمن الثقافي» عندما تحس بعض المجتمعات أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحدث في العالم، أو في جزء منه، بإمكانها أن تهدد «وحدتها» أو «هويتها الثقافية»، أو أن تصيبها برجة قد تكون مبتدأ زوالها، لذا فقد اقترن استعمال مفهوم «الأمن الثقافي» بميلاد ظاهرة العولمة في فجر عقد التسعينيات من القرن الماضي ، حينما نظر إليها من قبل البعض بأنها – أي العولمة - أنتجت ثقافتها الخاصة العابرة للحدود التي يمكن أن تأتي على كل الثقافات التي لا يمتلك أصحابها اقتصادا قويا و منافسا . وقد عاد هذا المصطلح بقوة – و في كل بقاع العالم – عقب النتائج الكارثية للربيع السلفي – الأمريكي الذي عرفته جل بلدان شمال إفريقيا وقليل من الشرق الأوسط و ما واكبه من محاولات – للأسف- ما زالت مستمرة إلى اليوم، لجر هذه المجتمعات، والتي تحيط بها، إلى أجواء ثقافية قرووسطية. في هذه الأجواء عرفت بلادنا نقاشات صدامية حول هذا المفهوم، وبما أن زمننا هو زمن الصراع من خلال الصورة ، فقد أخذت السينما، خاصة تلك التي قاربت بالجرأة اللازمة المشترك المغربي، جزءا كبيرا من هذا النقاش، ولعل أكثر من نال النصيب الأوفر من هذا «النقاش» الوثائقي « تنغير جيروزاليم، أصداء الملاح»، الذي نظر اليه من قبل البعض أنه فيلم صهيوني يهدد «أمننا الثقافي»، ونظر إليه البعض الآخر كإبداع عميق لا يهدد إلا الكسالى من المبدعين والسياسيين. ونظر إليه أمازيغيو هذه الأرض كوثائقي يحكي جزء من معاناتهم. فهل حقيقة أن هذا الوثائقي يهدد «الأمن الثقافي» للمغاربة ؟ أم أن النقاش الذي أثاره البعض بخلفية عرقية – اعتقادية هو من يهدد هذا الأمن ؟ يتعقب الوثائقي «تنغير جيروزاليم، أصداء الملاح» ذاكرة الوجود اليهودي في المغرب، وتاريخ تعايش فريد بين المسلمين واليهود المغاربة قبل الموجة المكثفة للهجرة إلى إسرائيل في ستينيات القرن الماضي. حيث ينطلق كمال هشكار – مخرج الوثائقي – من رغبة ذاتية في إشباع ذاكرة طفولته بتنغير قبل هجرة العائلة إلى فرنسا، وأمام أطلال الملاح يستدعي حكايات جده حول قصة ساكنة يهودية عمرت المكان وعاشت عيشة أهله، في انسجام تام، حتى موعد هجرتها «الدرامي» إلى إسرائيل .. ولاستكمال الصورة عن هذا الفصل التاريخي، ينتقل كمال إلى داخل إسرائيل حيث يوثق شهادات لعدد من الإسرائيليين ذوي الأصول المغربية، المنحدرين من منطقة تنغير، ليتخذ العمل بعدا نوستالجيا، حيث يبدو ذلك التاريخ البعيد طريا حارا في نفوس هؤلاء الأمازيغ المغاربة. وإن كانت فكرة العودة تتوارى لدى هذه الطائفة التي أسست لحياة جديدة هناك، فإن المخرج راهن بقوة - على إعادة خلق جسور تواصل من نوع جديد مع مسقط الرأس، وموطن الذاكرة. تواصل بدا وكأنه لم ينقطع خلال هذه السنين الطويلة حين شغل هشكار حاسوبه ليتابع مجرى حوار عبر الأنترنت بين والده الذي عاد للاستقرار بالمغرب بعد سنوات الكد في فرنسا ويهودي مغربي في إسرائيل منحدر من تنغير. ماهي طبيعة النقاش الذي أثاره هذا الوثائقي بين المغاربة ؟ انقسم المغاربة الذين انخرطوا في هذا النقاش إلى مجموعتين تعكس كل واحدة منها بوضوح مرجعيتها الفكرية . فالمجموعة الأولى والتي لم تخف توجهها الديمقراطي الحداثي، أعلنت عن اندهاشنا ودهشتنا من الدعوة إلى منع عرض الفيلم الصادرة عن أحزاب سياسية انخرطت في مسار المصالحة والإرادة السياسية لكتابة تاريخنا؛ وعن صدمتها من دعوة جهات عانت من الاضطهاد و الحظر إلى نهج نفس الممارسات التي كانت هي نفسها ضحية لها، واعتبرت أن هذا النوع من السلوك يتعارض مع روح ونص الدستور الذي صوتت عليه هذه الأحزاب نفسها والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة؛ مذكرين «على وجه الخصوص، أولئك الذين لديهم عيون لا ترى وآذان لا تسمع أن المادة 25 من الدستور تنص على أن «حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها.» وأن «حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة». وانتهت إلى الإدانة بشدة، وبصوت عال، مثل هذه الممارسات التي تهدد المواطنة والحرية كمكتسب من أجل الفكر والثقافة والإبداع الفني، كما تهدد بتقويض أسس وقيم مجتمعنا المتنوع والتعددي والمنفتح،ودعت أخيرا إلى ترك تقدير الأعمال الفنية والأدبية والحكم عليها للجمهور والمتخصصين مذكرين أن عصر الأحكام والاتهامات المسبقة مبنية عن جهل باطل قد ولى. في حين أن المجموعات التي عارضت الفيلم الوثائقي، والتي تشكلت من خليط عجيب من الإسلاميين واليساريين ذوي النزعات القومية العربية، قبل أن ينسحب جل هؤلاء الأخيرين من جوقة الداعين إلى منع الفيلم ومقاطعته، اتهموا مخرج الفيلم الوثائقي بالتغليط بالنظر إلى أنه – حسب اعتقادهم- اعتمد على معطيات مغلوطة عن هجرة عدد كبير من اليهود المغاربة خلال منتصف القرن الماضي، من منطقة تنغير الأمازيغية للعيش في «إسرائيل». وشدد البعض منهم على أن هذا الفيلم «الصهيوني» لا يستحق المناقشة لأنه يضلل الرأي العام. بل ذهب البعض إلى حدود اتهام مخرج الفيلم» بوقوفه في صف الدفاع عن احتلال اليهود لفلسطين وأنه ارتكب خطأ بربطه بين هجرة اليهود المغاربة للأراضي المحتلة بالكراهية، وتحميله المسؤولية في ذلك للحركة الوطنية آنذاك.» بل إن أحد هؤلاء اعتبر الفيلم خطيئة في حق الفلسطينيين « لأنه «يتطرق لهجرة اليهود في منتصف القرن الماضي من دون أن يذكر إطلاقا اسم فلسطين رغم أنه ذكر اسم القدس مما يرسخ ضمنيا أن القدس عاصمة لإسرائيل،» و « يقدم الصهاينة على أنهم مواطنون أصحاب الحق في الأرض بالقدس». وقبل مناقشة الرأيين معا، لابد لي أن أبدي الملاحظات الآتية: أولا، فالذي شاهد هذا الفيلم لمرة واحدة أو للألف، سيرى أن هذا الفيلم لا علاقة له بالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأنه يتناول فقط موضوع ترحيل اليهود الأمازيغ المغاربة إلى إسرائيل. وثانيا أن الذين كانوا مع عرض الفيلم كانت لهم خلفية حقوقية واضحة، وأن الذين كانوا مع المنع كانت لهم خلفية دينية – عرقية، فجلهم مناضلون داخل أحزاب دينية أو داخل أحزاب ذات مرجعية قومية عربية لم ينتبه أصحابها إلى زوال أسباب وجودها. وثالثا أن هذا النقاش –حتى يكون نقاشا جديا وهادفا، يجب أن يؤطر ضمن نقاش عام حول الدولة المدنية والدولة القومية-الدينية. والسؤال هنا هو: ألا يهدد مثل هذا النقاش «الأمن الثقافي» للمغاربة عندما سيحس المكون الأمازيغي – لهذه الدولة الآمنة إلى اليوم - أن مدفعية الأصوليين – الدينين منهم والقوميين -، مصوبة نحوهم، أ لن يبحث هؤلاء عن حماية لثقافتهم مهما كلف الأمر الوطن و مستقبل وحدته ؟ هذه ليست أسئلة من أجل إثارة التوتر الفكري الإيجابي الذي نريد منه عادة الإثارة العقلية للإجابة العميقة عن الإشكاليات التي نطرحها، بل الأمر من وحي متابعتي الدقيقة للشأن الثقافي والسياسي ببلادنا ، ففي إحدى بقاع أرض الأمازيع، و في خضم المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة الذي انعقد بمدينة الناظور نهاية ربيع هذه السنة، قاطعت القاعة الغاصة بالمتفرجين فيلم «تنغير جيروزاليم، أصداء الملاح» بالتصفيق ستة مرات، وصوتت عليه لجنة تحكيم « الصحفيين المحليين» وفق التقرير الذي سلمته إلى إدارة المهرجان بالإجماع بمعية فيلم فلسطيني آخر يحكي معاناة الإخوة الفلسطينيين في بلادهم المغتصبة . ما معنى رد الفعل الأولى هذا ؟ معناه إذا استمر الأمر على هذا المنوال، فالأمر سيذهب توا إلى ما تخوفت منه أرضية ندوة أصيلة في موضوع « «الهوية والتنوع والأمن الثقافي» من أن ، إذا ما لم يتم احترام الأعراق والثقافات المتعددة لأي بلد فالأمر « ينذر بانفجار الهويات وحقوق الأقليات، وسعي المجموعات الإثنية إلى الإفصاح عن نفسها بقوة، بما يشبه أحيانا «الانتقام التاريخي» لماضيها الذي تعتقد أنه تعرض للمحو. ويهدِّد الانفجار، إذا لم يتم احتواؤه، بحدوث شروخ في النسيج المجتمعي قد تتسبب، مع انعدام الوعي وضعف الثقافة السياسية والحصافة في رأي الفاعلين، في نشوب صراعات محتدمة على خلفية «المسألة الثقافية». صراعات قد لا تقف عند المطالبة بحق الأقليات في المشاركة السياسية ومعاملة ثقافاتها ولغاتها على قدم المساواة مع مثيلاتها، بل قد يتولد عنها خوف متبادل، وتضخم الإحساس بانعدام الأمان والاستقرار وصعوبة التعايش. وقد يؤدي كل ذلك بمجموعة متعصبة لهويتها إلى الانزلاق و الاستقواء بالأجنبي». لا تلعبوا بالنار، حذار.