كل من زار دوار معزة الحجر أو «جامايكا» بجماعة الشلالات بالمحمدية، يكاد يجزم أن آلة الزمن توقفت عنده، فلا شيء تغير، منذ إحصاء سكانه من طرف السلطات في إطار إعادة إسكان قاطنة دور الصفيح بالمنطقة، قبل أن يعود الدوار إلى الواجهة مع حادث وفاة ثلاثة أشخاص بحفر للصرف الصحي، ويكشف عن هذا التجمع السكاني وأشباهه عن مآس إنسانية متعددة الأوجه. أزقة ضيقة، لا يتجاوز عرضها المترين، تتوسطها جداول «الواد الحار»، على «ضفافها» جلس أطفال لم يبلغوا بعد سن التمدرس، مستغرقين في اللعب، بمجسمات صغيرة لسيارات، فيما كانت بعض الصغيرات أقل حظا، واتخذن من نواة فاكهة المشمش الأداة الأساسية للعبة «مالا»، غير عابئات برائحة مياه الصرف الصحي الكريهة التي سيطرت على أزقة دوار «جامايكا» أو معزة الحجر بجماعة الشلالات بالمحمدية، لكن رغم حداثة سن هؤلاء الصغار، استطاعوا تمييز الوجوه الجديدة التي بدأت في زيارة الدوار طيلة الأيام الثلاثة الأخيرة، وتقديم العزاء لأهالي جيرانهم الثلاثة الذين قضوا نحبهم في حفر الصرف الصحي نهاية الأسبوع الماضي. «فين جات هاد جامايكا»؟ بجانب الكيلومتر 17 للطريق الوطنية للرباط السابقة، يقع دوار معزة الحجر أو «جامايكا»، ولا يفصله عن «سبعتاش» سوى قنطرة شيدت حديثا، تقع فوق الطريق الرئيسية رقم 1 الرابطة بين الدارالبيضاء والمحمدية. الموقع جعل من سيارة أجرة من الحجم الكبير، الوسيلة الوحيدة والحصرية للوصول إلى الحي الصفيحي، بعد أن فطن أصحاب سيارات الأجرة بأهميته وجعلوه من بين «الكورسات» المهمة في يومياتهم، لوجود كثافة سكانية لابأس بها بدوار «جامايكا». عند مدخل دوار «جامايكا» جلس شاب في العشرينات من العمر، يلبس «جينز» أزرق اللون وسترة خضراء عسكرية، بصره شاخص في المجهول، بعينين جامدتين، غزت وجهه لحية كثيفة، تساوقت مع تسريحة «الراسطا» ومع اسم دوار «جامايكا» الذي يحيل على بلاد أنجبت رياضيين عالميين وموسيقيين في فن «الريغي». لكن لن تجد إيقاعات و أنغام «الريغي» عند مدخل الحي الصفحي، بل أجواء من الحزن خيمت على الدوار بعد أن لقي ثلاثة أفراد مصرعهم بعد غرقهم في حفر للصرف الصحي، حيث انتصبت خيمتان للعزاء سدتا الشارع الرئيسي لمدخل الحي، واستنفر لها السكان، سيما النساء منهن، لإطعام الوافدين للتعزية، بعد انتشار خبر الفاجعة. سكان «جامايكا»، أو معزة الحجر لا يعرفون سبب التسمية الثنائية لحيهم، بل وأكبرهم سنا لا يعرف سوى أنه ولد بالمكان، ولا تذكر سوى صور باهتة عن طفولته، كل ما يعرفونه أن آباءهم استوطنوا المكان واستقروا فيه:«أنا كبرت هنا وتزوجت هنا وكبرت ولادي» تصرح فاطمة امرأة في نهاية الستينيات من العمر، لم تستطع أن تحدد أو تتذكر كيف «نبتت» أول «براكة» الحي الصفيحي، كل ما تعرفه أن الحي يختزن بتفاصيله وفضاءاتها ذكرياتها. بعض شباب الحي من المتمدرسين، يجدون صعوبة في إقناع محدثهم، حول موقع دوار «جامايكا» وإحداثياته:«كنهضر مع دراري ودريات ساكنين غير في البرنوصي أو القدس، كنقول ليهم راني ساكن في جامايكا كيقولو ليا فين جات هاد جامايكا؟»، يصرح موسى، طالب في العشرينات من العمر، بشيء من الاستغراب، مثل هذه التصريحات جعلته يدرك أن الفضاء الذي ينتمي إليه شبه معزول بجماعة الشلالات بالمحمدية. حفر صغيرة داخل حفرة أكبر دوار «جامايكا» يحيط به سور شيد ابتداء من سنة 2008 بالجانب الشمالي للدوار، بالتزامن مع عمليات الإحصاء التي باشرتها السلطات المحلية بالمحمدية بغية ترحيل السكان، فيما يحده بالجنوب المركب الصناعي «مغرب ستيل»، و يحده غربا الطريق الرئيسية الرابطة بين الدارالبيضاء والمحمدية، أما شرقا فيحده الطريق السيار الرابط بين الدارالبيضاء والرباط. هناك انتصبت أشجار من الكاليبتوس متفاوتة الطول، توجد بارتفاع أربعة أمتار عن سطح الدوار، و تموه عن وجوده بطولها الفارع وتحجب لاقطات القنوات، فلا يكاد يظهر أي شيء يوحي بوجود الحي الصفحي. هذا الموقع جعل الحي الصفيحي يبدو من نظرة علوية كحفرة كبيرة، ترسبت فيها براريك تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، فيما كان آخر الملتحقين بالدوار في جانبه الشرقي، براريك فرخت حديثا قبل نحو سنة، سميت بدوار «بقشيش»، نسبة إلى أحد «البقشاشة» بالمنطقة الذي كان يتعاطى بيع المتلاشيات ويملك مساحة مهمة من أرض «جامايكا» عمل على تجزيئها إلى مساحات صغيرة، وبيعها بأثمنة تتراوح ما بين 4 و 6 ملايين سنتيم، سرعان ما تحولت إلى براريك، كان أصحابها يمنون النفس بالإحصاء والاستفادة من الترحيل والحصول على بقعة أرضية مساحتها 80 مترا مربعا، أسوة بالسكان الأصليين لكن هذا الأمل سرعان ما تبخر. شكل «الحفرة» الذي ينبني عليه دوار «جامايكا»، كان نقمة على سكان الدوار، سيما في الشتاء، بعد أن يحاصروا بمياه الأمطار والواد الحار، و تترسب في «حفرتهم» الكبيرة. معاناة لم يجد لها السكان سوى رفع عتبات منازلهم، لتقيهم المياه القادمة، ومحاولة «فك حصار» القنوات المائية بأسلاك و «نكسها» بأيدهم، بعد أن تستحيل نبعا لا ينضب من المياه الآسنة، وتحولت أزقة «جامايكا» الضيقة إلى حفر، ألفها السكان وتعايشوا معها، وحفظوا مواقعها عن ظهر قلب، ولا يشكل حلول الليل عائقا أمامهم في عبور الأزقة، بعكس الزوار الذين يمكن أن يتهددهم السقوط في حفر مياه الصرف الصحي أو أن تغرق أقدامهم في مياه «الواد الحار». موت يتربص في الحفر حفر مياه الصرف الصحي، لا يكاد يخلو بيت من دوار «جامايكا» منها، يحاول السكان سيما النساء، التخلص من مياه الصرف الصحي داخلها، لكن مع مرور الوقت، تتحول هذه الحفر إلى قنابل موقوتة بعد أن تغمرها المياه، فيكون الحل إذن إفراغها بواسطة مضخات كهربائية، وتحويل مسار المياه نحو حفرة أكبر توجد بالزنقة 8 ب«جامايكا»، على شكل شبه منحرف، محاطة بسور صغير لا يتجاوز ارتفاعه الأربعين سنتمترا، تتجمع فيه كل مياه الصرف الصحي الخاصة بالحي الصفيحي، قادمة من مراحيض السكان، لكن هؤلاء كانوا أيضا سببا في تحولها إلى خطر محدق، يشرح ذلك موسى عون خدمة تابع للمكتب الوطني للكهرباء والماء وأحد سكان دوار «جامايكا» : «راه هاد الضاية صافي مبقاتش تنكس تاني!»، السبب حسب موسى ترسب الأزبال بالحفرة، و أكوام من «السدادر ديال الحلفة» و«لمخاد»، هذه الأخيرة، صعبت على موسى ومتطوعين من السكان مهمة التخلص من مياه الصرف الصحي، رغم وجود مضخة كهربائية، هذه الأخيرة، وجودها كعدمها بالنظر إلى الحالة التي أصبحت عليها الحفرة، وحتمت تدخل مختصين ومعدات متطورة، يؤكد موسى. هذا الوضع سرعان ما جر الوبال على الحي، بعد وفاة ثلاثة أفراد ونجاة آخرين من موت محقق. بدأت الفاجعة السبت الماضي، حين كان الضحية الأول زهير الحموري البالغ من العمر 58 سنة، يقوم بإفراغ حفرة لمياه الصرف الصحي، أمام منزله بالزنقة 5 بالاستعانة بمضخة كهربائية اقتناها الهالك من ماله لنفس الغرض، وحين أوشك على الانتهاء من الأشغال بعد إفراغ جزء مهم من مياه الحفرة البالغ عمقها حوالي ثلاثة أمتار سقط بداخلها، صراخ أفراد من عائلته دفع بجاره عبد المولى الحفياني إلى محاولة انتشاله من الحفرة ليفقد وعيه بدوره ويصبح ضحية ثانية، بعدها نزل ابن الأخير رضوان لإنقاذ والده وجاره فوجد نفسه يلقى المصير نفسه، وجاء الدور على ثلاثة شبان آخرين حاولوا بدورهم القيام بإنقاذ الأشخاص الثلاثة من داخل جوف الحفرة لكن كل واحد منهم كان يفقد وعيه في عملية الإنقاذ. تطوع شباب ، واستنفروا كل طاقاتهم لإخراج الضحايا من الحفرة، وتمكنوا بمشقة من انتشالهم من عمقها، وحملهم نحو الطريق الرئيسية شبه جثث هامدة، وانتظروا وصول الوقاية المدنية، هذه الأخيرة جاء تدخلها متأخرا، حيث تبين أن الضحايا الثلاثة قد فارقوا الحياة، فيما تم نقل ثلاثة ضحايا آخرين إلى مستشفى مولاي عبد الله بالمحمدية حيث تلقى اثنان منهم الإسعافات الأولية، فيما تم نقل الثالث إلى المستشفى الجامعي ابن رشد، كتبت لهم النجاة وعادوا جميعا إلى ديارهم. «الطبيب قال ليا غير تبدل السكنى وتبدل الجو تصح!» حادث وفاة ثلاثة أشخاص في حفرة للصرف الصحي، بدوار «جامايكا» وما تلا ذلك من وقفات احتجاجية، مباشرة بعد الحادث، و قطع الطريق الرئيسية رقم1 المارة بجوار الدوار، ووضع العديد من الحجارة الضخمة وسطها، ثم تنظيم مسيرة احتجاجية صوب الطريق السيار الرابط بين البيضاء والمحمدية، وما واكب ذلك من متابعة إعلامية، عاد ليعيد الدوار إلى الواجهة، ويحين أحد أبرز مطالب سكانه:الترحيل، سيما أن السكان تم إحصاؤهم سنة 2008، ومنذ ذلك التاريخ وهم ينتظرون، ومعها الجماعة القروية للشلالات حضور مسؤولين عن مؤسسة العمران ومندوبية وزارة السكنى بالمحمدية لدورات المجلس، من أجل مناقشة النقطة المتعلقة بمشكل السكن بالدوار، خاصة وأن «جامايكا» كان من أوائل الدواوير بالجماعة السباقة لإعادة الهيكلة والاستفادة من مشروع الشلال، وإلى ذلك يبقى ذلك سكان «جامايكا»، تحت رحمة حفر الصرف الصحي التي تتهدد حياتهم، و روائحها العطنة، وانعكاساتها الصحية عليهم سيما الأطفال، جانب كبير منهم تتهدهم أمراض الجهاز التنفسي، كالحساسية، تجسدها حالة الطفلة مروى، ذات الخمس سنوات، حيث ظروف العيش بالدوار أثرت على حالتها الصحية، وأصبح لا يستقيم عيشها إلا بأدوية تخفف عليها النوبات التي تفاجئها من حين لآخر:«الدرية عندي مرضات، الطبيب قال ليا غير تبدل السكنى وتبدل الجو تصح!» يصرح، أب الطفلة بشيء من الحسرة وقلة الحيلة بعد أن أصبح عاطلا عن العمل. عاطلون وعزب رغما عنهم معاناة سكان «جامايكا» لا تنتهي عند حفر «الواد الحار» والمشاكل الصحية المترتبة عنه، بل تنضاف إليها معاناة من شكل آخر، متعلقة بعدم قدرتهم على الحصول على وثائقهم الإدارية، كالشهادات المختلفة، ما يعطل لديهم العديد من الالتزامات العائلية كالتصريح بالولادات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بل والحصول على عمل، سيما حينما يتعلق الأمر بشهادة السكنى، بعد أن لجأت السلطات إلى إجراء احترازي ينبني على عدم منح أي وثيقة مجددا لتفادي وضبط عملية تفريخ مساكن جديدة بالدوار، بعد أن انبرى لذلك سماسرة وسكان جدد يبحثون عن الاستفادة هم كذلك من الترحيل والظفر ببقعة مساحتها 80 مترا مربعا في عز ارتفاع أثمنة العقار، أسوة بالسكان الأصليين الذين تم إحصاؤهم. استثناء بعض السكان من الحصول على الوثائق الإدارية، جعل بعض السكان يعيشون حياة العزوبية رغما عنهم، حالة يجسدها بجلاء حميد بلفقير، 52 سنة، متوسط القامة، غزا الشيب شعره، بوجه مجهد يوحي بكثرة سهره. عدم حصول حميد على وثائقه الإدارية، يؤجل زواجه، لكن هذا ليس السبب وحده الذي يقف حائلا دون دخوله القفص، بالنظر إلى سنه، إذ انضافت إلى ذلك واجبات أخرى تتجلى في تمريض أخيه ذي 46 عاما، بعد أن أقعدته جلطة دماغية، حولته من تاجر يكسب قوته من يديه، إلى عاجز لا يستطيع سوى تحريك لسانه ويده اليمنى. عبد الله وجه آخر ل«جامايكا» بالزنقة 7 بدوار «جامايكا»، يقع بيت الأخوين حميد وعبد الله بلفقير، مدخل المنزل وبابه مرتفعان عن سطح البيت بثلاث درجات، على الداخل من ذوي القامات المتوسطة أوالطويلة الانحناء من أجل الدخول إلى البيت. صبغت أرضية وجدران «البراكة» بلون أحمر، في زاوية ضيقة بالبيت، وضع حميد، قنينة غاز وبعض الأواني القليلة، وشكلت بذلك مطبخ البيت، أما في قسمه الأكبر وغرفته الوحيدة، احتلها سرير متحرك لعبد الله، استلقى عليه بجسده الضخم بعد أن ازداد وزنه لطول مكوثه به، فيما وضع يده اليسرى على مقبض تدلى من أعلى السرير المتحرك، وأضحت جامدة لا تتحرك، فيما يتتبع بعينيه اللتين خرجتا شيئا ما عن محجرهما، التلفاز الصغير الذي يؤنس وحدته في غياب أخيه وممرضه الوحيد حميد، بعد أن يقضي جزءا من يومه كبائع للخضر بسوق «علّق» بحي البرنوصي، يتنفس بعمق بواسطة ثقب وضعه الأطباء في أسفل عنقه ليقيه من الاختناق بسبب وزنه الزائد. «من 2009 وأنا نجري معاه!» يلخص حميد رحلته مع أخيه ضد المرض، مرض ابتدأ بجلطة في الدماغ، أدخل على إثرها مستشفى ابن رشد و 20 غشت بالدارالبيضاء، أمضى ثلاثة أشهر في حالة غيبوبة بقسم الإنعاش، فاقدا للحركة، حتى ظن الأهل والأقارب بل حتى الأطباء أن لا رجاء في شفائه وأن مصيره الموت، قبل أن يتسلمه حميد، أشبه بجثة، بعدما رفض الأهل والأقارب تمريضه، ثم يعمل على الاهتمام به، وتغيير حفاظاته، وتطبيبه حسب معرفته البسيطة. اهتمام تكلل قبل ستة شهور، باسترجاعه للنطق وتحريكه ليده اليمنى، رغم بعض المضاعفات الصحية الجانبية، بعد تسلخ جزء كبير من جسده وارتخاء عضلاته لانعدام الحركة:«الحمد لله وليت شويا على ماكنت !مكنتش عاقل على راسي!» بنبرة تختزن الرضى والصبر على المصاب تحدث عبد الله، وبدا من خلال صوته كما لو أنه يبذل جهدا كبيرا في الكلام، والزفير والتنفس بعمق وبجهد أكبر. استبشار حميد باسترجاع أخيه للنطق وتحريكه ليده، زرع في قلبه الأمل والخوف معا من مستقبله، أمام قلة ذات اليد، وقلة إمكانياته، سوى الصبر:«راني صابر معاه باش ما عطا الله، ولكن عييت و تقهرت معرفتش آش غدي ندير!» يصرح حميد، وهو يأمل أن يتم الالتفات إلى معاناة أخيه من طرف المحسنين، والتكفل بمصاريف علاجه، وانتشاله من البيت الضيق والمناخ غير الصحي الذي يهدد بتقهقر حالته الصحية، وليس وحده فقط، بل ومجموع السكان والأطفال بدوار «جامايكا» في انتظار مشروع الترحيل المؤجل، الذي عاد ليطفو على السطح مجددا ويلفت الانتباه إلى الدوار وساكنته، بعد فاجعة فقدان ثلاثة أفراد من السكان داخل حفرة للصرف الصحي، وما تلا ذلك من احتجاجات حظيت بمتابعة إعلامية. أنس بن الضيف