الثقافة مسؤولية والتزام؛ تكوين فكري ووضوح منهجي؛ انتصار للفكرة في أبعادها الإنسانية والكونية. لهذا؛ ينتصر المثقف؛ عادة؛ للموضوعية objectivité على حساب الذاتية subjectivité ولذلك؛ لا يصلح المثقف لخدمة تيارات إيديولوجية منغلقة؛ لأن رسالته تتجاوز التصنيف الإيديولوجي الضيق. إن هذه الصورة الملتزمة للثقافة هي التي ساهمت في إصدار أول بيان ثقافي في تاريخ الفكر الغربي الحديث؛ حينما أصدر جماعة من المثقفين الفرنسيين (بيان المثقفين) محتجين على الحكم الصادر في حق الضابط اليهودي فرنسي الجنسية (ألفرد دريفوس) بتهمة الخيانة العظمى، حيث طالبوا العدالة بأن تعيد النظر في القضية، وقد حمل البيان وقتها توقيع أسماء كبيرة مثل: إميل زولا وأناتول فرانس ومارسيل بروست وليون بلوم. وهذه الصورة الملتزمة للثقافة؛ هي التي دفعت الروائي الفرنسي الكبير (إميل زولا) إلى بعث رسالته الشهيرة إلى الرئيس الفرنسي (فليكس فور) متهما السير غير الطبيعي للعدالة في فرنسا بخصوص نفس القضية؛ وكانت الرسالة حينها تحمل عنوانا قويا يعبر عن قيمة المثقف الملتزم الذي ينتصر للعدالة وللقيم الإنسانية؛ فقد صاح (زولا) بأعلى صوته : إني أتهم .. J'accuse لقد كانت هذه المرحلة؛ تجسيدا للفكر الأنواري بروحه الإنسانية المنفتحة وبما يحمله ويجسده من قيم العدالة والإخاء والحرية؛ هذا الفكر الذي جسدته نخبة ثقافية في قمة الرقي الفكري والمنهجي. لكن؛ النموذج الفرنسي نفسه عرف انحرافا خطيرا؛ جعل الكثير من أصوات الالتزام الثقافي تتعالى محذرة من المصير المجهول لفكر الأنوار. ونستحضر في هذا الصدد مفكرا وباحثا سياسيا؛ هو (باسكال بونيفاس) مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية (IRIS) هذا المفكر الذي يقدمه (هاشم صالح ) مترجم كتب المفكر محمد أركون من الفرنسية إلى العربية؛ بأنه وريث كبار فلاسفة التنوير في فرنسا أمثال: فولتير؛ ديدرو؛ روسو … هاشم صالح- باسكال بونيفاس والفكر المستنير – جريدة الشرق الأوسط- الخميس 1 ماي 2008- ع: 10747 . لقد امتلك (بونيفاس) شجاعة خارقة حينما أعلن حربا لا هوادة فيها على من يسميهم ب مثقفي التزييف/التزوير les intellectuels faussaires الذين يسيطرون على المشهد الثقافي الفرنسي ويوجهونه لخدمة أجندة سياسوية رخيصة لا علاقة لها بالثقافة حتى في أبخس تجسيدها ! إنهم؛ بتعبير بونيفاس؛ يصنعون عملة ثقافية مزورة . Pascal boniface – les intellectuels faussaires- jean Claude Gawsewitch éditeur- 2011- p :8 إن ربط (بونيفاس) خاصية التزييف والتزوير بالمثقف لا علاقة له بالاعتباطية ولكنه تعبير دقيق عن درجة الانحطاط الذي يمكن أن يصل إليه حارسو القيم والمبادئ الإنسانية السامية؛ وهذا الانحطاط قد يصل أحيانا إلى مستوى خطير جدا؛ وذلك حينما لا يختلف المثقفون عن مزوري العملات الذين يهددون التوازن الاقتصادي؛ فهم كذلك يزورون القيم والأفكار ويشكلون بذلك خطرا أكبر على التوازن الثقافي والاجتماعي؛ حيث يؤكد بونيفاس أن القطيعة بين المواطن الفرنسي والنخبة الثقافية تزداد بشكل اكبر وهذا خطر على الديمقراطية؛ حيث يشكل مثقفو التزييف عصب الديماغوجية . (IBID – P : 13) في فرنسا؛ قام مثقفو التزييف بدور خطير جدا في نشر قيم الكراهية والعنصرية بين أفراد الشعب؛ وكانوا بذلك؛ السلم الذي قاد رمز الديماغوجية إلى الحكم؛ ولذلك فقد عاشت فرنسا خلال عهد ساركوزي أسوأ مراحلها؛ وأصبحت الدولة بمؤسساتها تطارد فتاة تضع قماشا على رأسها؛ أو تحرس جزارا يبسمل عند الذبح … ! بينما تم فسح المجال واسعا لمرتزقة اللوبي الصهيوني ينشرون قيم وأفكار التزييف والتزوير بين الناس؛ وذلك لأن الحدود بين المزيفين والمرتزقة واهية؛ لان الجميع على وعي بأنهم يمثلون النقيض التام للأمانة الفكرية؛ يؤكد بونيفاس بكل الشجاعة الفكرية . (IBID- P :9) إن حديثنا عن المشهد الثقافي الفرنسي؛ من خلال رأي بونيفاس كمثقف ملتزم؛ ليس هروبا من الواقع الثقافي العربي؛ الذي يعاني أعطابا أخطر بكثير مما صاغه بونيفاس؛ بل هو حديث غير مباشر عن هذا الواقع المختل؛ حيث يختلط الحابل بالنابل وتصبح الصورة مشوهة وأحيانا بشعة . وهكذا؛ أصبحت الثقافة صناعة إعلامية صرفة لا مجال فيها للتكوين الفكري والوضوح المنهجي والالتزام الأخلاقي؛ فقد اختلطت القيم وأصبح بإمكان أي (شخص) أن يقدم نفسه مثقفا دينيا يفتي في أمور فقهية عويصة بجرة قلم؛ فيسيء بذلك إلى المعرفة الدينية الأكاديمية التي يمثلها علماء متخصصون في مجال علمي ضيق جدا يقضون السنوات الطوال في مطارحته؛ وقد تتحول معرفة فقهية سطحية بسيطة إلى أحكام قيمة مطلقة؛ غالبا ما تتميز بالسلبية؛ حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية … وهذه قيم وأفكار مركبة وشامخة تتطلب قدرا عاليا من التكوين الفكري والوضوح المنهجي والالتزام الأخلاقي. أما في الجانب المقابل (فحدث ولا حرج) حيث أصبح بإمكان أي كان أن يقدم نفسه خبيرا في قضايا الحداثة؛ ثقافيا وسياسيا واجتماعيا؛ وبجرة قلم يحكم على تراث حضاري عظيم؛ فقها وفلسفة وفنا … بأنه بضاعة رخيصة؛ بمنطق العصر؛ يجب أن تذهب إلى المتاحف. ولذلك لا يتوانى مثقف التزييف الحداثوي عن الرمي بأحكام القيمة البسيطة والمتهافتة حول قضايا في غاية التركيب؛ قد ترتبط بالمسالة الدينية أو بقضايا اجتماعية وسياسية في غاية التعقيد . في هذا السياق؛ يدور الحديث؛ اليوم؛ في العالم العربي عن الصراع بين الحداثيين/الليبراليين/العلمانيين وبين المحافظين/السلفيين/ الإسلاميين؛ وقد يذهب البعض بعيدا حينما يعتبر أن الصراع الجاري بين هذه التيارات الإيديولوجية المنغلقة؛ هو صراع بين قيم الحداثة والتقدم من جهة وبين قيم السلفية والرجعية من جهة أخرى ! لكن؛ أخطر ما يخفيه هذا التحليل المتواضع هو كون هذه التيارات لا تجسد هذه القيم بل تكتفي بتوظيف شعارات فضفاضة في إطار سباق انتخابي لكسب الأصوات الشاردة. إن ما يمكن أن يوصف بأنه صراع إيديولوجي في الساحة العربية (..) إنما يعبر عن اختلاف السلطات المرجعية المعرفية التي تمارس هيمنتها على هذه الفئة آو تلك من فئات المثقفين العرب؛ أكثر ما يعبر عن شيء آخر له صلة حقيقية بالواقع العربي أو بالتطلعات الحقيقية للجماهير العربية. وفي هذا الصدد يؤكد الأستاذ الجابري: وإذن فإن مقولة الصراع الإيديولوجي هي ذاتها من المقولات التي يجب إعادة النظر فيها داخل الساحة الفكرية العربية الراهنة. محمد عابد الجابري- الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية-مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 5- 1994 – ص: 201 إن الصراع الجاري؛ اليوم؛ في العالم العربي؛ في جوهره؛ صراع إيديولوجي فج فاقد لروح الفكر والقيم إنه؛ بتعبير أوضح؛ صراع بين مثقفي التزييف بمختلف انتماءاتهم الإيديولوجية. فهم يمارسون تزييفا مضاعفا حينما يقدمون أنفسهم ناطقين رسميين باسم منظومات فكرية وقيمية تتجاوز بكثير إطاراتهم الإيديولوجية المنغلقة. فأية ليبرالية وديمقراطية وفلسفة حقوقية يمكن أن يدعيها مثقف غارق في السلفية العرقية ؟ ألا يوظف هذه المنظومة الفكرية-القيمية فقط لتصفية حساباته الإيديولوجية الخاصة ضد رموز الحضارة العربية الإسلامية ؟ وأي توجه إسلامي محافظ يمكن أن يدعيه رجل دين بسيط لا يمتلك من بضاعة العلم سوى النزر القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ و إذا كان التزييف مرتبطا؛ في الغالب؛ بتراجع التكوين الفكري وتضخم الغموض المنهجي وانحطاط الحس الأخلاقي؛ فإن المنتظر من مثقفي التزييف؛ بمختلف اتجاهاتهم الإيديولوجية؛ هو الإساءة إلى الفكر والقيم فتتعرض المنظومات الفكرية على أيديهم إلى مجازر رهيبة يقشعر لها الحس الفكري الرصين؛ حيث يتحول الدين بقوته الروحية الخارقة إلى مسألة إيديولوجية فجة يحسم فيها بجرة كلمة؛ حيث يركب مثقف التزييف رأسه ويطلق العنان للغوه دون حسيب ولا رقيب. وبالمثل تتحول المنظومة الفكرية الحديثة؛ بديمقراطيتها وعلمانيتها وفلسفتها الحقوقية؛ إلى أبجديات بسيطة؛ يحسم فيها مثقف التزييف بفتوى متهافتة يلبسها لباس الدين وهي من الدين براء. و في علاقة بمشهدنا الثقافي المغربي؛ وهو حالة خاصة يمكن تعميمها على العالم العربي؛ فإن مثقفي التزييف يمارسون سطوة مطلقة على النقاش العمومي؛ في ظل تراجع الحركة الفكرية الرصينة واتساع رقعة وسائل التواصل الشعبي. وهذا ما أصبح يسيء إلى التراث الفكري المغربي بطابعه العقلاني الأصيل؛ ويمارس تأثيرا سلبيا على المتلقي؛ الذي يجد نفسه في مواجهة قصف إيديولوجي عنيف من جميع الاتجاهات. فبعد أن يخفت القصف الإيديولوجي السلفوي يبدأ القصف الإيديولوجي العلمانوي؛ ويتواصل القصف حتى ينطبق المثل القائل: (جعجعة ولا طحين). يطلق مثقف التزييف السلفوي( السلفوي هو الذي يحرف الفكرة التراثية ويخرج بها عن سياقها لخدمة أغراضه الخاصة) العنان لمخيلته المريضة؛ فينبعث القصف على شكل فتاوى رخيصة تسيء للدين بشريعته السمحاء؛ أكثر مما تجيب على إشكاليات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وهكذا؛ يزوج الفتاة القاصر عن سن التاسعة عبر تأويل نصي متهافت لحديث نبوي شريف؛ وينصح الفتاة قبل الزواج بممارسة الاستمناء بالجزر؛ ويحرم أكل الحلزون بدعوى أن الرسول عليه السلام كان يأكل الجراد ويمتنع عن أكل الحلزون؛ ويبيح معاشرة الزوج لزوجته الميتة؛ ويفتي بقتل المرتد عن الإسلام ضد منطق حرية الاعتقاد التي يحث عليها الدين الإسلامي وتكفلها المواثيق الدولية … ! وعندما نبحث في مصدر هذه الفتاوى المتهافتة؛ نجدها صادرة عن مثقف التزييف الديني الذي لا يهتم بمنهجية العلوم الشرعية؛ كما جسدها الاجتهاد الفقهي في بعده الأصولي العقلاني؛ ولكنه يهتم أكثر بنجوميته كفاعل اجتماعي وسياسي ليس له من العلم سوى جبة المشيخة. ولذلك؛ نجد أكثر مثقفي التزييف الديني يستثمرون بضاعتهم الرخيصة في الحصول على موطئ قدم حزبي يؤمن لهم مصدر رزق؛ ولا يهمهم أن يكون مصدرا ريعيا لا يبذلون فيه أي مجهود يذكر . أما مثقف التزييف العلمانوي ( من العلمانوية laïcisme باعتبارها تحريفا إيديولوجيا للعلمانيةlaïcité ) فهو يوظف المرجعية الفكرية الحديثة توظيفا إيديولوجيا فجا لا يستقيم مع مبادئها الخالدة التي أسسها رواد الفكر الحديث. إنه يمارس هوايته الدونكشوطية وهو يلوح بسيفه الخشبي محاربا الطواحين الهوائية؛ يرمي بفتاواه المتهافتة يمنة ويسرة على شاكلة مثقف التزييف الديني تماما؛ وذلك لأن المجال المفضل لمثقفي التزييف العلمانوي دائما هو الحقل الديني؛ حيث يصولون ويجولون بلا رقيب متجاوزين كل حدود المنطق السليم؛ فهم لا يتحملون عبء البحث المضني في المتون الفكرية لعلم الاجتماع الديني وعلم الأديان المقارن وعلم النفس التحليلي؛ هذه العلوم الحديثة التي انشغلت بالمسألة الدينية وحللتها من زوايا متعددة؛ وساهمت بذلك في إنهاء مرحلة النقاش الإيديولوجي الذي هيمن خلال مرحلة سيادة الفلسفة الوضعانية positivisme وما زكاه من هيمنة الفكر الشيوعي في صيغته المذهبية. إن ما لا يعيه مثقف التزييف العلمانوي؛ هو أن المسألة الدينية التي يصدر حولها الفتاوى المتهافتة؛ هي في غاية التعقيد والتركيب ولا يمكن مقاربتها من منطلق صحفي تحقيقي أو من منطلق إيديولوجي مذهبي؛ ويرتبط هذا التعقيد والتركيب بتعقيد البنية النفسية للفرد والبنية الاجتماعية للجماعة. ولهذا؛ نجد (كارل يونغ) يوظف آليات علم النفس التحليلي حينما يعتبر أن الدين محدد أساسي لبنية اللاشعور الجمعي l'inconscient collectif هذه البنية التي تتجاوز المستوى الفردي (كما حضر مع فرويد مثلا) إلى مستوى أعمق بكثير يرتبط بالتاريخ الجمعي للنفس الإنسانية. ومن نفس المنظور العلمي؛ فقد وظف (ماكس فيبر) السوسيولوجيا لدراسة وتحليل المسالة الدينية؛ وهو الذي صاغ مفهوم العقلنة الدينية (la rationalisation religieuse ) دلالة على أن الدين كان قوة دافعة للخروج بالإنسان من مرحلة السحر؛ إلى مرحلة أصبح خلالها الإنسان راشدا؛ يوظف قواه العقلية لإدراك العالم من حوله؛ بينما كانت قوى سحرية تقوم بهذه الوظيفة من قبل؛ وللدلالة على هذه الحالة الجديدة يستعمل (فيبر) مصطلح le désenchantement du monde الذي يحيل على معنى انتزاع السحر عن العالم . لا يتحمل مثقف التزييف عناء العودة إلى هذه المرجعيات العلمية؛ لأنه يستسهل الخوض في جميع المواضيع بدافع وهم الإلمام الشامل بجميع المعارف؛ وهذه مأساة الإيديولوجية التي تجعل فاعل التزييف الثقافي يمارس (التفكير) كاستجابة لحالة نفسية؛ تدفعه إلى تصفية الحسابات الشخصية مع المجموعات الاجتماعية المخالفة لرأيه. إن مهمته إيديولوجية تكتفي بتوظيف الأفكار كشعارات؛ وليست مهمة فكرية تستند إلى معايير البحث العلمي؛ وهذا ما يهدد النقاش العمومي بالانحراف إلى صراعات إيديولوجية جوفاء؛ توظف فيها جميع الأسلحة الرمزية الفتاكة؛ التي تبدأ بالتكفير والتخوين ولا تنتهي بإلصاق تهم الإرهاب والانغلاق والتشدد؛ وهي أسلحة تقوم بوظيفة القتل الرمزي؛ وقد يتطور الصراع أحيانا ويتم اللجوء إلى الأسلحة المادية عبر ممارسة القتل المادي؛ الذي يقوم بوظيفة إخراس الصوت المعارض للأبد ! و هذا؛ ليس البتة مشهدا تخييليا بل هو المنطق الذي يوجه النقاش العمومي؛ في العلم العربي؛ منذ مرحلة الصراع الشيوعي-الإسلامي وإلى حدود اليوم في سياق ما يسمى بالصراع الإسلامي-العلماني؛ وخلال المرحلتين معا كان يفشل الفكر؛ عادة؛ عن فهم الواقع لأنه غير مسلح بالمعرفة الفكرية والتأطير المنهجي والالتزام الأخلاقي؛ بينما ينتصر الجسد في حسم الاختلاف بطرق بدائية جدا تعتمد العنف المادي لحسم النقاش العمومي لصالح من يصرخ ويضرب ويقتل … أكثر ! وفي أكثر الحالات شيوعا؛ نجد مثقف التزييف هو الذي يقود هذه الحروب الدونكشوطية؛ حيث يوظف الشعارات الإيديولوجية لتجييش الرأي العام ضد الرأي المخالف؛ مستندا في ذلك إلى مسلمات عامة قد ترتبط بالدين أو بالمصالح العليا للوطن أو بدعوى التقدم والانفتاح في مقابل التخلف والانغلاق … وهي مسلمات عاطفية ترتبط ب سيكولوجيا الجماعة أكثر مما هي حقائق علمية أو فكرية ترتبط بالبحث العلمي. إننا ونحن نتناول مسألة التزييف الثقافي في العالم العربي؛ لا تهمنا نوعية الخطاب؛ في صيغته الإيديولوجية؛ بل إن ما يتخذ أهمية أكبر هي آليات التفكير؛ من منظور ابستملوجي؛ وهي آليات موحدة بين مثقفي التزييف بجميع اتجاهاتهم الإيديولوجية. إن ما يوحدهم هو الاستناد إلى البريكولاج الثقافي عبر ممارسة ترقيع الأفكار بعد انتزاعها من سياقها الثقافي وفصلها عن إطارها المرجعي؛ بحيث تصبح طيعة وقابلة للتوظيف الإيديولوجي. ولذلك؛ يمكن لمثقفي التزييف أن يزوروا الحقائق التاريخية؛ كما يمكنهم أن يؤولوا الأفكار على هواهم؛ وهم في الغالب لا يولون أي اهتمام للآلة المنهجية؛ لأن (الأفكار) تتداعى عليهم بالسجية؛ بحيث يمكن لأي اكتشاف فكري (خطير) أن يداهم مثقف التزييف وهو يلقي (خطبة عصماء) أو يساهم في نقاش إيديولوجي … هكذا؛ من دون بحث أو تفكير أو تأطير منهجي !!! غرب الأروبي إلا مكانا جغرافيا، احتضنها وانتصر لها على نفسه وتاريخه وقيمه العتيقة، وقد انخرط العالم العربي فيها مبكرا، إذ ظهرت بوادرها مع الفكر الفلسفي العقلاني، إبن رشد وإبن خلدون، وغيرهما من الفلاسفة والشعراء وحتى بعض الفقهاء، فانكسرت سيرورة هذا الفكر، وتوقف إلى حدود القرن التاسع عشر، لكن توقفه كان حتميا، بفعل نفس المعيقات، أي التأويلات السطحية للدين واستغلاله لرفض قيم الحداثة، 1 – الحداثة استندت الحداثة كصيرورة على التحديدات السابقة، التي يمكن اختزالها في العناصر التالية: أ – العقلانية: أي اعتبار العقل مصدرا للمعرفة، كمكتشف لها أو حتى مشيد لها، وفق الشروط التاريخية والإمكانات التي يسمح بها العلم ومدى تطوره، كما أن القيم تستند إليه، فهو لا يقبل بالظلم ولا يدافع عن الشرور، لأنه حامل للخير ومدافع عنه في وجه العسف والظلم، ولذلك فله حق تشريع القوانين العادلة، لتكون حصنا للمؤسسات التي يشيدها الإنسان، كما أن له القدرة على إحداث التغيير في نظمه عندما يتطلب المجتمع والحضارات ذلك. ب- الفعالية البشرية: وفقا لما سبق، فالإنسان ليس قاصرا، فله القدرة على الخلق والتجديد، لأنه فعالية لا ينبغي تعطيلها تحت أي مبرر كان، فالكائن البشري لا يكتسب إنسانيته بشكل كامل إلا بقدرة على الفعل والبناء والتشييد، وتلك ميزته الأساسية، التي بدونها لا معنى للعقل وكل القيم التي يشيدها ويدافع عنها في وجه الإقصاء. ج -الحرية: مادام الإنسان فاعلا، فله حق الحرية كاختيار بدونه لن يكون إلا كائنا منصاعا لغرائزه أولغيره من البشر، فالحرية حصيلة حتمية لكل القيم السابقة، فأن يفكر الإنسان ويصنع، معناه أن تكون له الحرية، في الاختيار والاقتناع بما يبدو له صالحا وممكنا. تراكمت أبعاد هذه القيم، وتفاعلت فيما بينها لقرون، فنتجت عنها صراعات، ضد الجهل وإطلاقية الفكر الديني، لكن انتشار الفكر العلمي الداعم للحرية وفعالية الإنسان، ساعدا على انتشار هذه القيم بظهور المطبعة، وانتشار الفكر الداعي للتحرر، والمدافع عن فعالية البشر في وجوه المستكينين لرجالات الدين والمتحالفين معهم من رجالات السياسة الراغبين في فرض نظام المحافظة. 2 – التحديث من الملاحظ أن فكرة الحداثة تحمل في طياتها، تفاعلات داخلية، كصيرورة مفروضة من الداخل وفق منطق تاريخي، تحققت شروط انتصاره وسيادته، بينما فكرة التحديث تبدو وكأنه فرض من الخارج، مما يحيل على فكرتين، الأولى، اعتبار التحديث فعل خارجي مفروض على بنى لم تعرفه من قبل، بفعل بدائيتها، أو تخلفها، أما الثانية، فهي كون التحديث خيارا كونيا، لا يمكن القبول بغيره لربح الإنتماء للحضارة الحديثة الراهنة، وكل المجتمعات والحضارات لا تنتمي إلى عصرها إن لم تحدث بناها وفق النموذج الذي عاشته أروبا، من هنا أطلق على القفزة التي عاشتها أروبا حداثة، أما الرغبات التي تعبر عنها باقي المجتمعات غير الأروبية، ومنها العربية، فتعرف بالتحديث، وهنا لا بد من التنبيه، إلى أن الحداثة التي عرفتها أروبا، كانت حصيلة تفكير إنساني ساهمت فيه كل الحضارات البشرية، ومنها الحضارة العربية الإسلامية، ينضاف إلى ذلك، أن هناك حداثات، ومداخل مختلفة لها، قد تبدأ بالتجديد الديني، أو الاكتشافات العلمية أو حتى التحرر السياسي، ولكل مدخل زمنه الخاص، وبناءاته ومقدماته. فالمجتمعات العربية، فشلت مرتين في تحقيق حداثتها، لأن عامل السياسة كان معيقا، فطبيعة الدول التي عرفتها هذه المناطق من العالم، لم تستفد من تاريخه العريق في بناء الدول، ذلك أن الفكر الفقهي اعتبر كل ما هو سابق عن الإسلام والفتوحات، تراثا وثنيا، لا يمكن الاستفادة منه، خصوصا أنماط الدول التي كانت قائمة ودخلت في صراعات ضد الفاتحين، رغم أن المسلمين استفادوا من تلك التجارب، دون المس بفكرة الخلافة أو الإمامة، التي اعتقدت أنها بذلك تنتزع اعتراف المجتمع بها لتصير شرعية، لكنها بذلك أخضعت نفسها لرؤية المجتمعات وثقافاتها التي عرفت تراجعا، وتماسكت البنى الإجتماعية بشكل تقليدي، وعندما أرادت هذه الدول الانخراط في التجديد، ثارت المجتمعات في وجهها، وأرغمتها على العودة لتقليدانيتها، التي مازالت تحاول التخفيف من حدتها لتنخرط في سياق الحداثة الاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية بشكل عام، مما جعل من الحداثة في نظر المجتمعات العربية فعلا غريبا عنها وكأنها إنتاج للغرب، ونمط حياة خاص به، وقد ساهم الغرب نفسه، في نشر هذا المنطق ليواجه به الفكر الشيوعي في السبعينيات وحتى حدود التسعينيات، ومازال لحد الآن لم يعد النظر في كيفية تعامله مع الفكر التقليدي، إلا بعيد 11 من شتنمبر، والكل يذكر التحالفات المشبوهة التي أقامتها الدول الغربية مع التيارات الدينية إبان الغزو السوفياتي لأفعانستان. خلاصات ليست الحداثة ملكا لأية حضارة أوثقافة، إنها مشروع إنساني، توفرت شروط تحققه بالغرب فظهر هناك، ومازال العقل البشري قادرا على إيجاد مداخل له، كما حدث باليابان والدول الصاعدة حاليا بما فيها الصين نفسها، وعلى العالم العربي، بمثقفيه التفكير في صيغ لتصريف الحداثة ثقافيا في عمق المجتمعات العربية، ولن يكون ذلك برجالات السياسة وحدهم، فهؤلاء أثبتت تجارب العالم العربي، أنهم وحدهم غير قادرين على إنتاج مداخل أصيلة للحداثة وليس التحديث كما يروجون لذلك.