أحيانا يمر الإنسان بلحظات يقرأ خلالها مكتوبا أو يسمع لغطا فتنغلق أذناه بشكل عفوي ولا يكلف نفسه عناء الالتفات إليه لأن صاحبه أشبه بذلك الفيلسوف الألماني الذي قال عنه لينين: «أنه يفتح فمه لكي يقول شيئا ولكنه لا يقول أي شيء»، وقد لفت انتباهي وأنا أتصفح بعض العناوين المنشورة في الموقع الافتراضي «لكم» هذا العنوان «مثقفو التزييف من صناعة الفكر التي تروج الوهم الإيديولوجي»، وسبب هذا الالتفات لهذا العنوان البراق، ذلك بأن الزيف والتزييف شيء لا يرضاه أي إنسان سواء كان عاديا بسيطا أو رجل اقتصاد أبغض الحرام عنده هو تزييف النقود، فكيف إذا ارتبط المثقف بتزييف الحقائق سواء أكانت تاريخية أو جغرافية أو فلسفية أو دينية…الخ. وما دمنا نحيا في هذا الزمن الرديء انقلبت فيه المفاهيم رأسا على عقب نتيجة هيمنة الزيف على كل شيء بل حتى الجغرافيا نفسها «الثابتة» انقلبت بفعل التزييف الثقافي ليصبح المشرق مغربا والمغرب مشرقا، وإذن فإنه من قبيل تحصيل الحاصل أن يقف المرء إلى جانب كل من يحارب التزييف بصورة عامة وخاصة ذلك الذي يروم قلب الحقائق التاريخية، وهذا ما شدني إلى ذلكم العنوان البراق من توقيع «إدريس جنداري». ولكن هذا العنوان الذي يجذب إليه أي قارئ يعنى بشؤون الثقافة ببلادنا وما آلت إليه الثقافة بصورة عامة حتى في العالم المتمدن، يخفي تفاصيل هي نفسها غارقة في التزييف والتضليل الإيديولوجي، وفي التفاصيل يكمن الشيطان كما يقول المثل الفرنسي، وأن يحارب من يسمي نفسه الكاتب والباحث الأكاديمي التزييف الثقافي ليقوم بدوره بالتزييف فتلك مصيبة عظيمة. ولا يخفى على القارئ أن مقالة هذا الشخص المشار إليه آنفا تندرج في سياق خاص، وإن كان لا يجرؤ على الإشارة إليه على سبيل التقية، ولكن القارئ اللبيب لن يخطئ بفراسته ماذا يقصده الكاتب المحترم ب «المثقف الغارق في الفلسفة العرقية»، إن الذي يحارب الزيف لا بد من أنه يسمي الأشياء بأسمائها، ولكن ليسمح لي هذا الأستاذ الأكاديمي المتلبس أن أهمس في أذنه إن الغارق في السلفية العرقية» [لأوظف هنا تعبيرك غير الموفق] هو أمثالك من تلامذة ميشيل عفلق ونديم البيطار إلى آخر السلسلة المعروفة في تاريخ التزييف التاريخي بل وحتى الجغرافي، ولكن الزيف مضى وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. تجليات الزيف الثقافي: أولى هذه التجليات أن الكاتب وهو يعرف الثقافة- هذا المصطلح الفضفاض الذي أعيا فطاحل العلوم الإنسانية من أجل إيجاد تعريف دقيق له حيث بلغ عدد تعاريفه مئتين-بأنها «مسؤولية والتزام» انتصار للفكرة في أبعادها الإنسانية والكونية» لينتهي إلى هذه النتيجة الغريبة، إن المثقف ينتصر عادة ( !!!) للموضوعية objectivité على حساب الذاتية subjectivité. وإذا كان المقام لا يسمح للاستطراد في مناقشة هذا الموضوع الشائك في مجال العلوم الإنسانية وحتى في العلوم التطبيقية المحضة (كالطب مثلا)، فإني أكتفي بالقول بأن كل شيء في هذا الكون لا وجود له إلا من خلال رؤية الإنسان إليه ومن خلال موقفه منه، ولا تنسى أيها الأستاذ أن الحدود التي وضعها كبار المفكرين بين «الذاتي» و «الموضوعي» هي حدود متحركة، حتى أننا نجد مثلا، أساتذة كبار في أرقى الجامعات العالمية في البيولوجيا وعلم الاجتماع منقسمين على أنفسهم حول التصور الأفلاطوني لتقسيم الإنسان إلى نوعين ذكر وأنثى، فمنهم من رفضه ومنهم من تمسك به على الرغم من الأبحاث العلمية التي قادت إلى دحض مسألة التمييز بين الجنسين متكئين في ذلك على قولة «سيمون دو بوفوار» «لا يولد الواحد منا امرأة ولكنه يصير كذلك» On ne n'ait pas femme, on le devient. . وهل يمكن الفصل هنا بين الذاتي والموضوعي، أين موقع الذاتي من الموقع العلمي «الموضوعي»، ومن أجل أن أكفيك عناء الجواب لم أضع علامة الاستفهام، لأني أعرف أنك كاتب «جنوبي» [من جنوب الأبيض المتوسط] غارق في الإيمان بالمسلمات حتى نخاع اليقين الأعمى وتضخم الذات المتعالمة، حتى إنك تنأى بنفسك عن الصراع بين مثقفي التزييف ممن يوظفون في نظرك المنظومة الفكرية ضد رموز الحضارة العربية الإسلامية، وبين أصحاب القصف الأيديولوجي السلفوي على حد تعبيرك أيضا ! وثاني هذه التجليات أنك أستاذ محترم تريد أن تبلغنا أنك منزه على الخوض في هذا الصراع بين السلف العرقي والإيديولوجي «السلفوي» علما بأنك خائض فيه بلا شعورك بالمعنى النفسي، وهذا ما يفضحه تعبيرك الذي يدلنا على أنك حاطب ليل لا يميز بين العصا والأفعى بين الذي يدعو للانتصار للفكرة في أبعادها الإنسانية والكونية على حد تعبيرك وبين الذي يحرف الفكرة التراثية ويخرج بها عن سياقها لخدمة أغراضه الخاصة على حد تعبيرك أيضا. ومن حقي أن أسألك أيها الأستاذ المحترم ! ما موقع المقدمة الطللية حول قضية الضابط اليهودي الذي اتهم ظلما بالجاسوسية ثم رد إليه الاعتبار نتيجة الحملة التي خاضها المثقفون الفرنسيون وفي مقدمتهم إميل زولا (ولعلمك أيها الأستاذ المثقف، أو الكاتب الأكاديمي فإن هذه القضية المعروفة بقضية دريفوس كانت ذات دلالة على سلطة المثقف التي يمكن أن تكبح السلطة السياسية، وأن هذا الموقف المشرف من المثقف الملتزم حقا بالقيم الإنسانية والكونية، كان له من التأثير إلى الحد الذي جعل المجتمع الفرنسي ينقسم على نفسه إلى فريقين: فريق مضاد لهذه القيم الإنسانية وانضم إلى رابطة الوطن الفرنسي، وفريق انضم إلى رابطة حقوق الإنسان إلى أن حسم الأمر بطريقة قانونية) وأعود إلى سؤالي بعد هذه الجملة الاعتراضية: ما موقع هذه القضية التاريخية والموضوعية مما أنت بصدده ؟ وهل تقارن مالا يقارن وهل يمكن القياس مع وجود الفارق الذي هو بين ضفتي محيط لا ضفتي نهر؟ ولأوضح: إن إميل زولا قبل أن يخوض هذا المعترك السياسي كان علما شامخا في الثقافة الفرنسية وهو يمثل وحده مدرسة في الرواية الفرنسية، بل إن هناك من النقاد الكبار من اختص في أعماله وحدها (هنري ميتران على سبيل المثال)، وعلى الرغم من انتمائه إلى الوطن الأم فرنسا (لا إلى السلف العرقي) فإن ثقافته الإنسانية هي التي دفعته إلى الوقوف –متهما السلطة السياسية- إلى جانب ضابط من أصول إسرائيلية، فموقفه السياسي أو الإديولوجي غير المغلق منسجم ورصيده الثقافي- الروائي منها على وجه الخصوص. وأما عندنا فإن المثقف «الجنوبي» منتوج إيديولوجي مضل ومغلق، ويتنكر حتى لثقافته التي انبثقت من هذه الأرض التي يحيا فوقها، ناهيك عن لغتها، ومن ثم فإن المنتوج لا يمكن أن يكون منتجا اللهم إلا ما كان من تآليف كتب لا تحتوي إلا على ثقافة مستلبة في زمن الاستلاب الفكري المسكون بعقدة الدونية اتجاه ثقافة قومجية خارج السياق التاريخي والجغرافي، وكل من يزعم أنه مثقف بالمعنى الإنساني ويتنكر لذاتيته الثقافية فهو كذاب، ومن هنا نفهم دلالة قول الشاعر محمود درويش في إحدى محاضراته: «إن طريقي إلى الإنسانية يبدأ من باب بيتي». لقد صرف الأستاذ نظره عما ناضل ويناضل من أجله ذلك المثقف الحقوقي المثقف والوطني (الذي لم يسمه) إلى النيل من انتمائه الوطني حينما أشار إلى أنه غارق في «السلفية العرقية» وكأن الانتماء إلى الوطن هو انتماء جسدا إلى جغرافيته وحسب لا إلى تاريخه وثقافته ولغته. ومن هذا المنطلق العنصري بنى حكمه التافه: تصفية الحسابات الإيديولوجية ضد رموز الحضارة العربية الإسلامية !!! أو ليس هذا ما يردده ما تسميه أنت بجرة قلمك التوجه الإسلامي المحافظ الذي يدعيه رجل دين بسيط لا يمتلك من بضاعة العلم سوى النزر القليل…الخ أي حسابات أيديولوجية يصفيها ذلك المثقف الذي أزعجك ويزعج كل من وهب ذاتيته الثقافية رهينة لإيديولوجية قومية مغلقة وأخرى متزمتة وأسلمته إلى الذهنية المتحجرة ليدخل في السبات العقلي من أبوابه السبعة، وقد يكون لهذا السبات العقلي فائدة بالنسبة لبعض «المثقفين» ممن استمرؤوا المسلمات واليقينيات ولا يجرؤون على اقتحام مخاطر البحث أو على الجرءة في قول الحقيقة، فمثلهم مثل الكائن الكهفي الذي يزعجه نور الشمس، وإلا فإن الأجدر بك كأكاديمي وباحث ألا تسقط في الزيف الذي يبدو أنك تمقته وأنا معك في هذا، فالطرف الذي تجادله من وراء الغربال لم يناقش المسألة الدينية في حد ذاتها، بل تناول الذهنيات المتخلفة سبق لغيره من الباحثين في العصر الحديث على سبيل المثال أن حاولوا خلخلة مفاهيمها وعانوا بسبب ذلك ما عانوا بدءا بمعروف الرصافي وعبد الله القصيمي وانتهاء بخليدة التومي وأحمد عصيد، إنك آثرت الطريق السهل والمعبد وتتخفى أمام عمالقة الفكر الغربي الحديث وخاصة موقف كارل يونج من المسألة الدينية الذي قمت بتزييف نظريته في جملة عابرة تبعث على الضحك وكأنك أمام الأصمعي لا أمام عملاق فكري اسمه كارل يونج، وإن ذكر هذا الأخير في هذا السياق هو بمثابة استخفاف بالقارئ وكأنك تريد إضفاء الشرعية على ما تذهب إليه من أوهام، كما أنك تتعالى على من يخالفونك في إديولوجيتك المتزمتة وتصفهم بالتسطيح الفكري وبساطة التفكير فيما ذهبوا إليه من مواقف جريئة. وهنا لا يسعني إلا أن أدعوك إن كنت مسؤولا حقا إلى أن تواجه «مثقف التزييف العلمانوي» على حد وصفك وذلك ببحث جدي حول ما تسميه «المسألة الدينية» التي قلت عنها إنها «في غاية التعقيد والتركيب» وذلك بالاعتماد على يونج في مؤلفه الأساسي «تحولات الروح ورموزها» (الترجمة الفرنسة) أو فرويد في مؤلفه Totem et tabou لتتضح لنا مصداقية المثقف النزيه والأمين في نقل أفكار الغير بدون تزييف أو تشويه كما فعلت في عبارتك المضحكة «إن الدين محدد أساسي لبنية اللاشعور الجمعي»!! أهذه هي البضاعة الثقافية التي نقدمها لقرائنا أو طلبتنا !!! ورحم الله الشاعر الإنساني العظيم أبا العلاء المعري إذ يقول: لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا لما تحصل شيء في الغربال وإذا ما واتتك الفرصة أو الجرأة لمعالجة المسألة الدينية المعقدة من وجهة نظر يونج أو فرويد، فإنك ستكون بحق ضربت عصفورين تسميهما العلمانويين والسلفويين، وأسهمت في كشف الزيف الثقافي الذي تزعمه لدى هؤلاء !!. وأما ثالث الأثافي من تجليات التزييف في هذا العنوان البراق الذي يتناقض جملة وتفصيلا وموضوعه، فهو هذا الاضطراب المحزن في نسق الأفكار التي لا تكاد تسند بعكاكيز إيديولوجية فاشلة بحكم التاريخ والمنطق لكي تتحول إلى أفكار متناقضة ومتصارعة مثل صراع أفاعي الكبرا حيث يتلوى أحد الزوجين بصورة التوائية عموديا بحيث لا تستطيع في البداية أن تميز المنتصر من المهزوم. إن الغموض والتشتت الفكري لا علاقة له بما تزعمه من الدعوة إلى «الوضوح المنهجي» و «الالتزام الأخلاقي» وقد قيل حقا إن لكل شيء كنية وكنية الكذب لفظ زعموا على حد تعبير المرحوم معروف الرصافي. المقالة هذه كتبت هنا …والآن. بمعنى أن كاتبها مغربي أي أنها «ماركة ثقافية مغربية» وليست شاردة خارج الحدود في عالم الكاتب الوهمي –العفلقي-، وبمعنى الآن أي في سياق مغربي متميز بظهور حركة 20 فبراير وانبثاق دينامية سياسية وفكرية همها الأساس: «أي مغرب نريد؟» مغرب الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان في أبعادها الكونية، أم مغرب التزمت والإنغلاق؟ ومن البديهي أن تختلف وجهات النظر وقد تحتدم أو قد تنزلق إلى مخاطر وذاك وفقا لتباين المصالح والأهداف. وهذا قانون تاريخي أزلي طالما وجد الاستغلال الطبقي، كما أنه من البديهي أن توظف في سياق هذا الصراع مصطلحات ذات دلالة زمنية متجهة في مسارين متعاكسين: المسار الماضوي، وإن شئت (الرجعي)، والمسار التقدمي، وتبعا لذلك نقول إن هناك طبقة سائدة تريد تأبيد مصالحها وتوظف لذلك أدوات إيديولوجية تحت عناوين مضطردة: الماضي المقدس، القيم الثابتة، الخصوصية، النسب الشريف، درء المخاطر خير من جلب المنافع، الحضارة العربية الإسلامية، الإجماع إلى آخر السلسلة من المسلمات التي يراد لها أن تكون ثابتة كالجبال وكل من حاول زرع الشك حولها فهو بحكم الإيديولوجية السائدة مارق ومشوش أو يبحث عن الشهرة، أو كما يقول الكاتب نفسه يبحث عن «كسب الأصوات الشاردة، وطبقة أخرى تريد أن يكون الوطن للجميع على قاعدة المساواة في المواطنة والعدالة الاجتماعية وتوفير شروط تكافؤ الفرص، ومن هنا نقول أنه من الناحية الثقافية والتاريخية لا يمكن أن يكون هناك خطاب آحادي في أي زمان وفي أي مكان وإلا توقفت الحياة وتجمدت حركية الوجود. وإذا فإن الكاتب إذ يربط التزييف بما أسماه تضخم الغموض المنهجي وانحطاط الحس الأخلاقي لدى العلماويين والحداثويين بالجملة والتفصيل هو حديث إسقاطي يجب أن يوجه إلى الذات المتكلمة لا إلى الذات التي تقع خارج أوهامها وتصوراتها الإيديولوجية، وهذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه أي ثقافة إقصائية منحطة إلى درجة أن المثقف القومجي عندنا من فرط استلابه والعجز عن رؤية الأشياء المتحركة –بما فيها الأفكار ذاتها- فإنه يسقط في شرك العدوانية تجاه الرأي الذي يريد أن يبت الصلة بالمسلمات واليقينيات التي دجنت العقول والتي من فرط تداولها دون حس نقدي أو تفكير عقلاني أضحت أعباء ثقيلة بالنسبة لأي مثقف يعي حق الوعي حجم وظيفته ضمن موقعه التاريخي والاجتماعي والإنساني والسياسي، ومن هنا السر في كل هذه الضجة الإعلامية حول ما فاه به الأستاذ أحمد عصيد بشأن إعادة النظر في مناهجنا التربوية وفي مسلماتنا التاريخية التي تلقن لأجيالنا في المدارس والجامعات كأنها حقائق، وإني هنا أتحدى أن يثبت الكاتب «إدريس جنداري» ما يوحي بأن من يرفضه بدعوى السلفية العرقية أغرق كتابته في مفهوم «العرقية» السيئ الذكر، فاقرأ أيها الأستاذ قبل أن تصدر الأحكام الجاهزة وتوزع التهم يمنة ويسرة فغاب عنك الأخذ بما زعمته في مستهل مقالتك التي لا علاقة لها بإنتاج الفكر ولا هم يحزنون، بل إنك –وهذه هي المفارقة تتبنى ما ترفضه لتسقط في شرك التضخم الإيديولوجي واستبدال الحقائق المزيفة بأخرى لا أقول إنها تزعم غير الحقيقة في نسبيتها، ويكفيها شرفا أنها تجرأت على كشف غطاء «علبة بانودرا» الأسطورية ولكنها ذات دلالة عميقة على حقيقة دواخلنا النفسية التي استمرأت الخنوع لثقافة التلقين والاجتراء.