نحن وفرنسا عندما كان المغاربة ليلة الثلاثاء 25 أكتوبر 1955 ينصتون إلى «الجريدة الناطقة» لإذاعة الرباط، لم يصدقوا ما سمعوا: «الكلاوي يطالب بعودة الملك الشرعي محمد الخامس إلى عرشه»! وطوال حوالي نصف قرن لم يعرف عامة الناس كيف تحول بعدها باشا مراكش من فاعل أساسي في عملية نفي الملك إلى مطالب بعودة الملك من منفاه ولم يهتم أحد، طوال عشرات السنين بتفاصيل ما حدث حتى يحتل الكلاوي الصدارة في أخبار الأزمة عندما عرفت الأحداث، وتيرة سريعة أدت إلى عودة الملك إلى الرباط بعد ثلاثة أسابيع. في كتابه عن والده الباشا، يخبرنا الأستاذ عبد الصادق الكلاوي بأن المقيم العام الجنرال «بوايي دي لاتور» زار مراكش في 19 أكتوبر1955 وقال له الباشا صراحة لأول مرة، بأنه بدأ يحس بأنه تخلص نهائيا من بيعته لابن عرفة وأن لا شيء بقي آنذاك يقف أمام مصالحته مع سيدي محمد بن يوسف. قال الحاج التهامي لابنه عبد الصادق: «إن كان الفرنسيون عازمين على تحميلي ثقل خطاياهم، فأنا الآن عازم على رفض ذلك النفاق». ويقول الأستاذ عبد الصادق الكلاوي بأنه سمع ببالغ التأثر من والده رغبة القيام بالتدبير المرتقب لما ينوي الباشا إنجازه، على أساس أن يتم ذلك بوافقة حزب الاستقلال. في السجن المركزي بالقنيطرة كنا في انتظار محاكمة المتهمين في «المؤامرة» خريف 1963، يوم حدثني المرحوم عباس القباج، عن اتصالات باشا مراكش بقيادة حزب الاستقلال قبل قيامه بما اعتبر «ضربة مسرحية» في أكتوبر 1955: «اتصل بي في مراكش، البشير الشرايبي صديق الكلاوي وعبر لي عن رغبة الباشا في إجراء اتصالات مع حزب الاستقلال فذهبت إلى الرباط وأخبرت المهدي بن بركة بأن الكلاوي مستعد لمساعدة الحزب ماديا وسياسيا». وكان جواب المهدي بن بركة: «لسنا في حاجة إلى أموال الكلاوي ونستحسن أن يُعبر الباشا عن موقف جديد كأن يطالب بعودة الملك إلى عرشه واستقلال المغرب وأن يطعن في مجلس حفظة العرش». في نهاية عام 1975 حاولت الحصول من عبد الرحيم بوعبيد على معلومات في الموضوع، فقال لي رحمه الله آنذاك، بأن أحسن من يمكن أن يتحدث عن تفاصيل ما جرى في أكتوبر 1955 بالمغرب هما عبد الصادق الكلاوي والحاج أحمد بناني مدير التشريفات الملكية في عهد محمد الخامس. وأتذكر أنني زرتهما ولكن لا الأستاذ عبد الصادق ولا المرحوم أحمد بناني، كانا، بعد مرور عشرين سنة، مستعدين للحديث في الموضوع، اعتقادا منهما أن ذلك كان مازال سابقا لأوانه. مات السي أحمد بناني ولحد الآن الله وحده يعلم مصير مذكراته بينما انتظر الأستاذ عبد الصادق الوقت المناسب ليقدم بكل هدوء شهادته. (الثقة المتبادلة بين الأستاذ عبد الصادق الكلاوي والمرحوم أحمد بناني، كما سنرى، تعود إلى كون الصدر الأعظم الحاج محمد المقري جدا لعبد الصادق من أمه وكان الحاج أحمد بناني، قبل التحاقه بحزب الاستقلال وتعرضه للنفي في اغبالو نكردوس، كاتبا خاصا له كصدر أعظم في دار المخزن). يخبرنا عبد الصادق بأنه قضى يوم 23 أكتوبر 1955 في المناقشة مع الحاج أحمد بناني بحضور المهندس المراكشي في الفلاحة أحمد كسوس: «كان أحد محاوري يغيب بين الفينة والأخرى للمشاورة مع قيادة حزب الاستقلال، وعند نهاية ذلك اليوم الصعب، اتفقنا على أن أحرر، في عين المكان، تقريرا مفصلا عن النتائج التي توصلنا إليها، وهو التقرير الذي سيُعرض على أعلى هيئة قيادية في الحزب. في هذه المناسبة أتيحت لي الفرصة لألتقي لدى بناني بزنقة «لامارتين» بحي ديور الجامع بالرباط، بالعديد من الشخصيات الاستقلالية التي كنت أعتقد أن ما لها من تقدير لمواقفي، سيجعلها تتبنى خطواتي وتقبل اقتراحاتي. ومن هذه الشخصيات الحاج عمر بن عبد الجليل، السي محمد اليزيدي، السي المهدي بن بركة والسي عباس القباج... إضافة إلى السي أحمد بناني الذي كان يساندني بدون تحفظ وبدون ارتياب والذي كان يقدم لي، أمام أصدقائه السياسيين، الضمانة الفعلية والشخصية». ويتابع الأستاذ عبد الصادق شهادته كفاعل أساسي في المرحلة الدقيقة لما قبل «الضربة المسرحية»: «مكنتني موافقة حزب الاستقلال، التي توصلت إليها، مساء يوم 24 أكتوبر، بعد 48 ساعة من المناقشات، من أحصل من أبي، الذي كان بالدار البيضاء، أن يستقبل وفدا يتكون من الحاج أحمد بناني، عباس القباج وأحمد كسوس». استقبل الباشا الوفد للغذاء بالدار البيضاء يوم 25 أكتوبر قبل التوجه إلى الرباط حيث كان له موعد في دار المخزن على الساعة الخامسة مع أعضاء مجلس العرش.ويقول الأستاذ عبد الصادق بأنه بعد الاتفاق بين الوفد والباشا على نص التصريح، تولى بنفسه طبع ثلاث نسخ على آلة كاتبة كان يحملها معه، طوى الباشا نسختين ووضعهما في جيبه وتسلم الثالثة الحاج بناني لإرسالها مباشرة إلى القاهرة إلى عنوان السي علال الفاسي لنشرها في الصحافة. في عددها ليوم الأربعاء 26 أكتوبر نقرأ في «السعادة» بلاغا من القصر الملكي عن زيارة الكلاوي لدار المخزن على أساس أن «الباشا صرح أنه مسرور جدا لمثوله لدى هذا المجلس الذي اعترف به صاحب الجلالة سيدي محمد بن يوسف والذي قدم الكلاوي له كامل إخلاصه وولائه». ونشرت نفس السعادة يوم الخميس 27 أكتوبر بيان حقيقة للباشا يكذب «الأنباء غير الصحيحة التي تقول بأننا اعترفنا بمجلس العرش وكون زيارتنا البارحة لهذا المجلس علامة لاعترافنا به». حينما كان باشا فاس الأسبق الفاطمي بن سليمان وباشا فاسصفرو السي البكاي يحرران «البلاغ الصادر عن القصر الملكي» والذي نشرته السعادة ورد عليه باشا مراكش في بيان حقيقة، كان الكلاوي في تلك اللحظة يأذن لنجله بتلاوة التصريح المتفق عليه مع قيادة حزب الاستقلال. ويقول الأستاذ عبد الصادق عن تلك اللحظة: «كانت الورقة التي أمسك بها تهتز بين يدي ولم أستطع القراءة، فتلوت النص المحفوظ عن ظهر قلب، وبينما خرج الفاطمي بن سليمان يمسك بيده بلاغه، علم من الصحفيين بأن الباشا قد التحق بركب المطالبين بالعودة الفورية لمحمد الخامس فأدرك أن خطته قد أفلست ولم يبق مبرر لوجود مجلس العرش ولا للحكومة التي كان يستعد لتشكيلها». بعدما ودع والده الذي غادر الرباط، عاد عبد الصدق إلى دار الحاج أحمد بناني حيث جرى احتفال بالحدث، حدث التحاق الكلاوي بالإجماع الوطني المطالب بالعودة الفورية للملك وعن هذا الحفل يقول الأستاذ عبد الصادق: «عشنا فرحة لا توصف والتقيت بعض الشخصيات التي شاركت في إنجاز هذه الخاتمة السعيدة كالحاج عمر بن عبد الجليل، المهدي بن بركة وعباس القباج. كانت النتيجة رائعة ولكنني كنت منهمكا». لنعد إلى دار المخزن حيث قال باشا مراكش بلسان نجله عبد الصادق، حسب ما سمعه المغاربة، على أمواج الأثير تلك الليلة: «إن زيارتي لأعضاء مجلس العرش لا يلزم أبدا أن تؤول على أنها اعتراف من جانبي بهذا المجلس، الذي لم أكف عن إنكار مشروعيته. وإنني لأشعر بفرحة الشعب المغربي قاطبة بعد خبر قرب عودة جلالة الملك سيدي محمد بن يوسف إلى فرنسا. وأنا أشاطر الأمة المغربية أمنيتها في العودة السريعة لسيدي محمد بن يوسف إلى العرش، فهو وحده الكفيل بتوحيد العقول والقلوب في نظام وانتظام. إنني أغتنم هذه المناسبة لأعبر عن امتناني وامتنان المغرب قاطبة لفرنسا والفرنسيين، الذين ساعدوا المغاربة على بلوغ المرحلة التي نشهدها اليوم والمتمثلة في حل الأزمة التي عاشها بلدنا العزيز. فمن اللازم المحافظة على الصداقة التي تربط فرنسا بالمغرب بأي ثمن، وليس في نية أحد قبول أن تتعرض مصالح فرنسا في هذا البلد للنكران. إن طموحي يدخل ضمن طموحات الأمة المغربية قاطبة، المتمثلة في استقلال بلادي في إطار من الترابط بينها وبين فرنسا. وأنا أبتهل إلى الله عز وجل أن تكون هذه الوحدة الصادقة لمطالب المغاربة، فاتحة مرحلة من السلم والازدهار للجميع، وأن تساهم في وضع الحد النهائي لفترة الاضطرابات العديدة التي كان ضحيتها الكثير من الفرنسيين والمغاربة».