فتح الخطاب الملكي ليوم تاسع مارس 2011 الباب أمام كل الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني لتقديم تصوراتها فيما يتعلق بالدستور الجديد الذي تشكلت بشأنه لجنة ملكية لصياغته بعد استشارتها لهذه الهيئات ودراسة مذكراتها. ومن الإيجابيات التي ينبغي تسجيلها في هذا الإطار، هي أن الشأن الدستوري أصبح شأنا عاما يتداوله الموطنون، مؤطَّرين أو غير مؤطَّرين، بشكل علني دون خطوط حمراء. بل إن وسائل الإعلام الرسمية التي ظلت ممانعة لكل تغيير أو حتى إصلاح، انخرطت في الحراك السياسي وفتحت استوديوهاتها لنقاشات حرة ساهمت فيها حتى الأطراف المعروفة بمواقفها السياسية “المتطرفة”. لهذا اعتبرت الأحزاب المغربية أن خطاب تاسع مارس يؤسس لثورة هادئة يخوضها الملك والشعب للارتقاء بالنظام السياسي على مستوى المؤسسات الدستورية، القوانين، فصل السلط، سلطة الشعب، موقع الملك وصلاحياته الخ إلى نظام ديمقراطي سليم. فالمغرب دخل مرحلة تاريخية جديدة أهم مقوماتها هي انخراط جميع الفاعلين السياسيين والهيئات المدنية في رسم معالم المستقبل، أي معالم “مغرب الغد”. وأولى مكاسب هذه الثورة الهادئة هي تحرر الألسن وانطلاقتها السليمة في مناقشة كل القضايا التي تهم واقع ومستقبل المغاربة، وفي صلبها الملكية كنظام سياسي. فإذا كانت الملكية مثار نزاع وصراع بين الأحزاب خلال الأربعين سنة بعد الاستقلال، فإنها اليوم محط إجماع الفاعلين السياسيين الذين لا يختلفون حول الملكية كنظام سياسي، بقدر ما يختلفون حول صلاحيات الملك ضمن الدولة الديمقراطية المنشودة. بمعنى أن الأحزاب السياسية تتشبث بالملكية كإطار سياسي وتختلف في تصوراتها عن سلطات الملك. فمنذ بداية عقد تسعينيات القرن الماضي بدأ مفهوم الملك يسود ولا يحكم يطرح للنقاش في الأوساط اليسارية على الخصوص. وإذا كان هذا التصور قد جر على أصحابه بعض النقمة على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، فإنه اليوم غدا متداولا وموضوع مذكرات عدد من الأحزاب التي تطالب به كمدخل لإرساء الدولة الديمقراطية. والآن، وقد أنهت اللجنة الملكية المكلفة بصياغة مسودة الدستور الجديد استشارتها مع الأحزاب والنقابات، يمكن رصد درجات الاختلاف بين مذكرات الأحزاب التي قدمتها للجنة الملكية كالتالي : 1 حزب الاستقلال : حرص الحزب، في ديباجة مذكرته المتعلقة بالإصلاحات الدستورية، على التذكير بمبدئه الثابت من الملكية، والذي (ضمن للمغرب على الدوام الحفاظ على دينه الإسلامي، وملكيته الديمقراطية الاجتماعية، وروح الدفاع عن وحدة الوطن والإنسان، وخيار بناء المجتمع الديمقراطي الحقيقي). على هذا الأساس قرر الحزب عدم الخوض في الفصل 19 من الدستور، ومن ثم الحفاظ على نصه دون تعديل بما يتيحه من سلطات سياسية ودينية للملك. وينص الفصل 19 على التالي (الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة). الأمر الذي جعل الحزب يقر بأن الملك يسود ويحكم. وهذا ما نبه إليه الأستاذ امحمد الخليفة، في ندوة صحفية، بقوله إن (ما لم تثره وثيقة حزب الاستقلال معناه “أننا نبصم عليه بالعشرة”). وبرر الحزب موقفه من الفصل 19، على لسان عضو لجنته التنفيذية امحمد الخلفية بأن ” حزب الاستقلال فضل عدم إدراج الفصل 19 ضمن مذكرته، لأنه رأى أن الأمر لا يستحق كل هذا النقاش المثار حوله) بالإضافة إلى أن (الفصل 19 ليس امتيازا للملك، بل التزاما منه بالدفاع عن الوحدة الترابية، وعن كل الثوابت). واستشهد الخليفة، في هذا الإطار، بالدستور البلجيكي الذي يحتوي على فصل يعتبر الملك مصونا). كما حث المهتمين بالشأن الدستوري، وفقهائه والفاعلين الحزبيين، والحقوقيين، ومناضلي المركزيات النقابية، وجمعيات الشباب، على “الإطلاع عن كثب على وظيفة الرئيس أو الملك، في دساتير كل من ملكيات اليابان، وهولندا، والنرويج، والدانمارك، وإسبانيا، والسويد، وبلجيكا، وغيرها من الملكيات الأوروبية” ليتأكدوا أن هذه الدساتير تصون حرمة الملك وتضمن له صلاحياته. ومن ثم فالأمر بالنسبة لملك المغرب “طبيعي وليس استثناء”. لهذا، فالحزب قدم 99 مقترحا لا يمس وضع الملكية التي نعتتها وثيقته ب”الملكية المواطنة”، وهو ذات النعت الذي ورد في خطاب العرش لعام 2009 (وباعتبار الملكية قطب الرحى للثوابت الوطنية،فقد أضفينا عليها طابع المواطنة. وذلك بترسيخ دولة الحق والقانون، وديمقراطية المشاركة،وانتهاج الحكامة الجيدة، وسياسة القرب، وكذا بإنصاف المرأة والفئات والجهات المحرومة. كما كرسنا جوهرها كملكية ملتحمة بكل مكونات الأمة، متسامية عن النزعات والفئات، ملتزمة بالنهوض بالمسؤولية الريادية والقيادية للعرش، في الائتمان على القضايا العليا للوطن والمواطنين والانتصار للتقدم). وبهذا تجنب الحزب الخوض في الطبيعة الدستورية أو البرلمانية للملكية. لكن، وانسجاما مع مضمون الخطاب الملكي لتاسع مارس والآفاق السياسية التي يفتحها، ركز الحزب على تحديد اختصاص المؤسسات الدستورية وفق مبدأ فصل السلط. ومن ثم التطرق بشكل غير مباشر لسلطات الملك، وهي السلطات التي لا تخولها مذكرة الحزب للوزير الأول. ذلك أن الحزب لم يطالب بحذف المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك أو تحويل اختصاصاته لفائدة المجلس الحكومي الذي يترأسه الوزير الأول، وإنما أبقى على الاثنين. الأمر الذي يضع مبدأ المحاسبة موضع سؤال إشكالي خصوصا وأن الحزب طالب بدسترة مجلس الحكومة باختصاصات محددة منها: مسؤولية الحكومة في تحديد وإدارة السياسة العامة للبلاد. مصادقة مجلس الحكومة على المراسيم واعتمادها، ومشاريع القوانين وإحالتها على المجلس الوزاري لإقرارها. ممارسة الوزير الأول السلطة التنفيذية الفعلية ومسؤوليته الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية. التنصيص بوضوح على حق مجلس الحكومة في تناول جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والدبلوماسية والعلاقات الدولية، والسياسات الأمنية. اقتراح الوزير الأول التسميات في جميع الوظائف المدنية السامية والمسؤولين في المؤسسات العمومية. حق الوزير الأول إعفاء وزير أو أكثر أو إدخال تعديل على الحكومة. إن الملاحظ، من خلال هذه الاقتراحات، أنها جاءت أدنى مما حدده الخطاب الملكي الذي حث اللجنة والفاعلين السياسيين على الاجتهاد والابتكار. صحيح أن حزب الاستقلال لا يوافق على مطلب “الملك يسود ولا يحكم “، ولكنه يبقى على سلطات الوزير الأول جد محدودة، بل وبدون فعالية لما جعل سلطة إقرار المراسيم ومشاريع القوانين من صلاحيات المجلس الوزاري، أي من سلطات الملك. بالإضافة إلى الاقتراح المتعلق بالتنصيص على حق مجلس الحكومة في تناول جميع القضايا، والذي لا يقدم عمل الوزير الأول ومجلسه الحكومي طالما ظل الأمر محصورا في “التناول” وليس اٌلإقرار. بل إن هذا الاقتراح سيبقي على الضعف الحكومي ومحدودية الفعل السياسي ولا يستجيب لمطلب تقوية مؤسسة الوزير الأول ؛ وبالتالي لا ينسجم وما نص عليه الخطاب الملكي بخصوص (تقوية مكانة الوزير الأول،كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية،يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية،وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي ). في ظل هذه الاقتراحات كيف سيتم تفعيل مبدأ المحاسبة ؟ علما أن الخطاب الملكي ربط بين المسئولية والمحاسبة في عبارة واضحة ( ربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة ). لا شك أن حزب الاستقلال لم يعط الأهمية القصوى للنصوص الدستورية من منطلق قناعته أن (أية منظومة دستورية متقدمة وديمقراطية لن تكون كافية لتشييد المجتمع الديمقراطي المنشود). من هنا أولى أهمية أكبر للجوانب السياسية التي اعتبرها في مذكرته، الركيزة الأساس لتشييد المجتمع الديمقراطي المنشود. لهذا شدد الحزب على تحيين (مطالبنا في الإصلاح وتقديمها، وفي مقدمة اهتماماتنا الانتخابات الحرة النزيهة الشفافة، والتخليق، ومحاربة الفساد، والرشوة والمحسوبية، وإعادة تأهيل الأحزاب والمشهد الحزبي بالبلاد، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لجعل المواطن يشعر بأن مواطنته محترمة، وأن وطنه يسوده ويحكمه القانون الأسمى للبلاد). وانسجاما مع رؤية الحزب للعمل السياسي، جاءت مذكرته حريصة على تقوية سلطات المؤسسة التشريعية (البرلمان )، بحيث تشمل : إعطاؤه الأولية دستوريا في دراسة القانون المالي. توسيع مجاله التشريعي ليشمل: + الموافقة على المعاهدات الدولية قبل المصادقة عليها. + العفو الشامل. + التقطيع الانتخابي لمجلس النواب. + إنشاء لجان نيابية للمراقبة. + استجواب النواب للوزير الأول والوزراء. + تمكين رُبُع أعضائه من طلب دورة استثنائية. + إحالة تقارير لجان البحث والتقصي على الوكيل العام للمجلس الأعلى . عموما، ركزت مذكرة حزب الاستقلال على دسترة أداء المؤسسات الدستورية والحزبية باعتبارها المدخل الرئيس لبناء الدولة الديمقراطية، حيث همت اقتراحاتها تسعة مداخل، وتهم تصدير الدستور، وحقوق الإنسان وترسيخ دولة الحق والمؤسسات( 19 مقترحا)، السلطة التشريعية : البرلمان بمجلسيه( 16 مقترحا)، السلطة التنفيذية: الحكومة ( 12 مقترحا)، السلطة القضائية المستقلة: القضاء ( 16 مقترحا)، المجلس الدستوري، والجهوية المتقدمة، وتخليق الحياة العامة ودسترة هيآت الحكامة الجيدة ( 13 مقترحا) أما باقي الاقتراحات فهمت إطار الاجتهاد الخلاق. وجدير بالتنبيه إلى أن حزب الاستقلال يراهن على الحوار البناء بين كل الأطراف المعنية لصياغة دستور يراعي القضايا الحساسة والشائكة وفق ما حددته الخلاصة التي انتهت إليها مذكرة الحزب كالتالي (ونؤكد في النهاية أن الحوار المجدي والمسؤول هو الذي سيفتح حول فصول الدستور وبنوده ونصه بعد إعداده فلسفيا وعلميا وتقنيا، وقبل عرضه على الاستفتاء للتأكد من التوجهات المقترحة بخصوص حالة الاستثناء، وحل البرلمان، وطريقة مراجعة الدستور، وتعميق الدور الدستوري للأحزاب السياسية بما يكفل مستقبلا عدم تبخيسها وتهميشها، وفرضها قسرا في النسيج المجتمعي بتفريد باب خاص في الدستور بها.. إلى غير ذلك من الأساسيات اللازمة لتضطلع كل مؤسسة دستورية بدورها في نماء البلاد وتقدمها وازدهارها). للحديث بقية.