يبدو أن حساباتنا اعتراها نوع من اللبس وسوء التقدير، وأن لا جهة باتت قادرة على إحداث التغيير، في زمن يتسم بالرداءة والتقصير.. جفاف في الحقول، انسداد في العقول، حصيلة دراسية دون المستوى المقبول… وبالإعلان عن نتائج البكالوريا لدورة يوليوز 2012 الاستدراكية، تكون وزارتنا قد أكملت رسم آخر نقطة من دائرة السنة الدراسية، لتمر إلى مرحلة تنزيل مقرر تنظيم السنة الدراسية: 2012/ 2013 ، التي يعلم الله وحده كيف ستتشكل حلقاتها.. فانطلاقا مما عرفته الدورتان معا من نسب مئوية متفاوتة، في كل أنواع التعليم المعتمد: عمومي، خاص، أحرار… بمختلف الشعب والمسالك، وفي ظل الصيغة البديلة المحدثة هذه السنة، التي تم بموجبها احتساب المعدل، باختيار أعلى نقطة في اختبار كل مادة على حدة، لمن اجتاز الدورتين بدون تغيب، يمكن استخلاص أن شيئا مما تكهنا به لم يتحقق، وإن حاولت الوزارة الوصية إيهامنا بغير ذلك، معلنة أن نسبة النجاح لهذا العام: 57 % تفوق نسبة السنة الفارطة: 55 %، لأن المشكل المطروح أعمق من أن تحله تعديلات صورية أو عمليات تجميلية.. لقد أطلت علينا النتائج أكثر شحوبا وكآبة، مخيبة للآمال ومعمقة للآلام حتى في صفوف الحاصلين على البكالوريا، ممن لا تخول لهم معدلاتهم، وهم الغالبية، حق التسجيل عدا في مدارس خاصة من درجات متدنية، أو في بعض شعب مراكز التكوين المهني، أو… فما الذي أصاب مخططنا الوطني للتربية والتكوين، وأوصل مدرستنا العمومية إلى هذه الحالة من التآكل ؟. قد يقول قائل، إن أيام الإضرابات التي تغرق القطاع في لجة الهدر المدرسي، إلى جانب العطل الرسمية ورخص مرض المدرسين غير المقننة، أصبحت تستحوذ على نصيب «الفيل»، وأن ما يتبقى للتلميذ من الغلاف الزمني المقرر للدراسة، مجرد فتات. ويعزي آخر الأمر إلى ضعف البرامج ومناهج التدريس، وينسب ثالث مكامن الخلل إلى ما خلفته المغادرة الطوعية من جرح غائر، أمام سلبية وزارة تعوزها النظرة الثاقبة والاستراتيجية الحكيمة في تدبير شأننا التعليمي، إذ ما كان لها التخلي عن أطرها في هيأتي الإدارة والتدريس، وهي لا تتوفر على «قطع غيار» حقيقية وذات جودة عالية متميزة.. فيما يأتي رابع ليعتبر كل العوامل السالف ذكرها، تشكل مجتمعة مصدر إخفاقاتنا… والأدهى والأمر من هذا وذاك، لجوؤها مع مطلع كل موسم دراسي جديد، إلى تغطية العجز الحاصل بشكل لا يستند إلى أي منطق علمي، حيث تتكفل المندوبيات الإقليمية بالتنقيب عن أساتذة التعليم الابتدائي من المتوفرين على إجازة تعليمية، لتهريبهم بعيدا عن رتابة الفصول «الباردة»، وتكلفهم بتدريس مواد أدبية في أقسام «ساخنة» بالثانوي التأهيلي: عربية، تربية إسلامية، اجتماعيات، فلسفة… وأساتذة التعليم الثانوي الإعدادي المرتبين في الدرجة الأولى لتدريس مواد علمية: رياضيات، فيزياء وعلوم الحياة والأرض… ولنا أن نتصور كيف سيكون أداء ومردودية الحامل ل«تكليف بمهمة»، ما دام يعتقد أن مهمته تتجسد في ملء الفراغ ليس إلا… ونحن نطالب بعصرنة التدبير وتطوير الخدمات، بالعمل الجاد والدؤوب على تجاوز سياسات الترقيع المنتهجة، نرى وزارتنا تتمادى في خبطها العشوائي الذي لم يزد وضعنا إلا تفاقما وترديا، ونخص بالذكر: إسناد مناصب الإدارة التربوية، إلى عناصر تفتقد أبسط مقومات التسيير الإداري والتربوي، باعتماد معايير متجاوزة وغير كفيلة، بإفراز النخب القادرة على النهوض بمستوى ناشئتنا ومؤسساتنا…حذف حصص التفويج في مادتي الفيزياء وعلوم الحياة والأرض، تارة في الجذع المشترك وحده، وأخرى تضاف إليه السنة الأولى من سلك البكالوريا، تقليص حصص مادة الفلسفة وإلغاؤها أحيانا من الجذع، حذف مادة الترجمة من الجذع المشترك والسنة الأولى علوم، والإبقاء على حصتين فقط في الأسبوع للأقسام العلمية الختامية و..و…من هنا يتبين أنها لا تكترث بالإعداد الجيد للتلميذ، والرفع من قدراته لخوض غمار الامتحانات والمباريات، بل وليست حتى مهتمة بجعله عنصرا فاعلا في مجتمعه متفاعلا معه، ويستطيع مجابهة ظروف الحياة العامة، بقدرما يهمها تغطية الفصول والمكاتب، بمدرسين وموظفين يتوفرون على أرقام تأجير فحسب، دون أدنى احترام للحصص المقررة، والغايات الكبرى الهادفة إلى الاستثمار الأمثل للعنصر البشري في التنمية المستدامة، تبعا لما ينادي به عاهل البلاد وتنص عليه مذكراتها، ضمانا لترسيخ وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين عامة أبناء الشعب المغربي… وإذا كانت الأزمات تنتج مضاعفات جانبية، تساهم في توسيع رقعة الاختلالات ،فإن ما تقدم عليه وزارتنا من آن لآخر، يؤكد لنا أنها لا تشذ عن القاعدة في تصدير الأعطاب إلى مؤسساتنا التعليمية.. و أنها بذل الانكباب على إعادة تأهيل أطرها، بادرت مؤخرا إلى تلبية طلبات العديد من الأساتذة الراغبين في تغيير الإطار لأسباب ذاتية، حيث وجدنا عددا لا يستهان به من أساتذة التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي، أدمجوا بموجب قرار خاص مستمد من المادة 109، إما ملحقي الاقتصاد والإدارة أو ملحقين تربويين، وأن مجموعة أخرى من أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، أدمجت في إطار المتصرفين… ولعل أبرز ما يزعجنا، هو أن يتحول هذا الكم الهائل من المستفيدين، إلى أجراء بلا مهام فعلية سوى في الوثائق الإدارية، فيصبح بلدنا أكبر خزان للموظفين «الأشباح» في العالم… إننا اليوم أمام معضلة كبرى، لن يتأتى إيجاد حلول ناجعة لها، إلا بتضافر جهود جميع فعاليات المجتمع،إصاخة السمع إلى نداء الوطن والضمير، القطع مع أساليب الأزمنة الغابرة، ونبذ كل العقليات المتكلسة التي تشدنا إلى أسفل الهاوية، وتحول دون شقنا طريق التطور والمعرفة بعزم وثبات…فمتى يتم إسعاف تعليمنا وإخراجه من غرفة الإنعاش؟