الفساد قضية متشابكة، لكن غالبا ما ينظر إلى الظاهرة فقط من خلال تجلياتها وآثارها المباشرة على حياة المواطنين في ما يمس معيشهم اليومي، والواقع أن أبعادها، دون الاستهانة بتلك الآثار، أخطر من ذلك. فعندما تضع الانتفاضات الشعبية، التي غالبا ما تكون النواة الأولى أو الشرارة التي تسبق الثورات، الفساد في قائمة انشغالاتها ومطالبها، فذلك يعني تحذيرا للحكومات القائمة بأن السيل قد بلغ الزبى، وأن أوان التحرك من أجل تحسين الأوضاع قد حان. ومن الدال جدا أن مطالب الخارجين إلى الشوارع في هذه الانتفاضات لم تعد تقتصر على مطالب اجتماعية واقتصادية "تقليدية"، بل تهاجم مباشرة الإشكالات الكبرى، مثل الفساد، التي تكون السبب في سوء الأحوال الاجتماعية، بما في ذلك ارتفاع معدلات الفقر ونسب البطالة. في هذا السياق، وبالعودة إلى الحراك الذي عرفته منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ أواخر سنة 2010، وإلى بعض الأحداث في تاريخ العالم الحديث، لم تكن الخلافات السياسية وحدها السبب في اندلاع انتفاضات شعبية. ففي الكثير من الحالات، شكل الفساد واقترانه بالاستبداد السياسي فتيلاً لنيران عدم الاستقرار، وهو ما دفع بعدد من المتتبعين والخبراء في مجال مكافحة الفساد أساسا إلى التأكيد على أن هذه الظاهرة ليست فقط "قضية أخلاقية أو اقتصادية، بل قضية أمنية". في نفس الإطار تبدو "هوغيت لابيل" رئيسة منظمة ترانسبارونسي الدولية مقتنعة من خلال قراءتها، للظرفية الدولية الراهنة، أن على الحكومات أن تعمل بجدية في ما يتعلق بمكافحة الفساد ضمانا للحفاظ على شعبيتها واستمراريتها من جهة، وعلى الاستقرار الاجتماعي لأنه: "في حال ما إذا لم تتخذ أي إجراءات ملموسة قي هذا الاتجاه فإن الحكومات تضع نفسها في مواجهة الخطر، لأن الشعوب قد تقوم بذلك بدلا منها". من ذلك يبدو سؤال مكافحة الفساد أكثر إلحاحاً، خاصة في ظل التقارير التي تفيد بتراجع المغرب في مجموعة من المؤشرات الدولية، من بينها مؤشر إدراك الرشوة الذي تصدره "ترانسبارانسي" الدولية نفسها، وأيضا عدة مؤشرات أخرى تهم التنمية البشرية والحرية الاقتصادية ومناخ الأعمال وحرية الصحافة والتعبير وغيرها، حيث يبقى القاسم المشترك بين كل هذه المؤشرات استمرار ظاهرة الرشوة في التنامي وعودتها في كل التقارير كسبب رئيس لبعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ومن بين ما ينبغي الانتباه إليه في هذا الصدد أن التقدم في الترتيب الذي تعده المنظمات التي تصدر المؤشرات المذكورة لاحتلال مراكز مشرفة لا يتوقف عند الإعلان عن النوايا، أو عند الإعلان عن إجراءات، مهما كانت مهمة دون العمل على تفعيلها، بل قد يشكل ذلك أحد العوامل الأساسية لتدهور الترتيب. وفي غياب استراتيجية تحدد أهداف السياسات أو الإجراءات المضادة للفساد، تكون مرجعا يمكن قياس النتائج من خلالها، يبدأ الناس في محاكمة الحكومات على نواياها، مستندين إلى نظرتهم وانطباعاتهم بخصوص تنفيذ الالتزامات المعلنة مثلا في البرنامج الحكومي، أو تطبيق القوانين الموجودة المتعلقة بزجر الفساد، كما يستندون في انطباعاتهم التي تعكسها التقارير المذكورة إلى ما تنشره الصحافة من قضايا أو مزاعم بهذا الشأن، حيث تبدو رقعة الفساد أكبر من كل تصور، ولعل من الناس من يقول إن ما خفي كان أعظم !؟ وتفشل الكثير من الحكومات في مكافحة الفساد فقط بسبب عدم اعتمادها لاستراتيجية وطنية شمولية ومندمجة، تأخذ في اعتبارها أبعادا ثلاثة أدت إلى نجاح حكومات أخرى في كسب الحرب ضد الظاهرة. وتتمثل هذه الأبعاد الثلاثة في الوقاية والزجر والتوعية، مع ضرورة إيلاء أهمية لعامل الزمن ذلك أن هذا النوع من المعارك يحتاج إلى نفس طويل وإلى يقظة متواصلة تفاديا لأي انتكاس. وإذا كانت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد، التي صادق عليها المغرب سنة 2007، قد حددت المعالم العامة التي على مختلف الدول الاسترشاد بها بهذا الخصوص، فإن التجارب الناجحة، كما تمت الإشارة إلى ذلك، قامت على التكامل بين تلك الأبعاد الثلاثة. لهذا فإذا كانت النتائج التي حققها المغرب ليست، حتى الآن، في مستوى الانتظارات الشعبية، فهذا ليس لأنه لم يضع آليات أو لم يتخذ إجراءات في هذا الاتجاه، بل بسبب عدم بلورة استراتيجية واضحة. إن الحكومة في هذه الحالة تبدو وكأنها سائرة على غير هدى في حقل مليء بالألغام والحساسية وتشابك المصالح. وتقتضي استراتيجية مكافحة الفساد إشراك مختلف الفاعلين، بل عموم المجتمع، بالنظر إلى أن الظاهرة أكبر من أي مؤسسة إدارية وأي منظمة مدنية وأي فرد، لكن هذا الإشراك وهذه المقاربة لا يمكن أن تحقق نتائج جيدة إذا لم تكن الطريق واضحة أمام المساهمين فيها. ووضوح الطريق يعني بالضرورة تحديد الأهداف والمسؤوليات ورصد الموارد المالية والبشرية واتخاذ الإجراءات اللازمة مقرونة بالمسؤوليات والآجال الزمنية للتنفيذ. في هذا المضمار يرى الخبراء الممارسون والمنظمات الدولية المنشغلة بسؤال مكافحة الفساد، أن لِهيئاتٍ متخصصة في هذا المجال، نصت عليها الاتفاقية الأممية، أدوارا مهمة لتلعبها في مساعدة الحكومات من أجل التغلب على الفساد ومحاصرة الفاسدين شريطة أن تُمنح لها الصلاحيات والموارد اللازمة، والاستقلالية التي تعتبر العنصر الأكثر أهمية في ما يتعلق بفعالية هذه الهيئات. وتتحدث "هوغيت لابيل" عن تجربة تعتبر في نظرها رائدة على المستوى الدولي، ذلك أن اللجنة المكلفة بمكافحة الفساد في النرويج تتمتع بصلاحيات واسعة في مجال التحري والتحقيقات، فمحاضرها كافية لإطلاق المتابعات في حق الأشخاص الذين تحوم حولهم شبهة الفساد. والواقع أن المشرع النرويجي لم يمنح هذه السلطات للجنة المعنية إلا بعد أن تبينت له ضرورة معالجة ملفات الفساد بالسرعة اللازمة التي تضمن نجاعة الإجراءات التي سيتم اتخاذها، وكذلك الأثر الردعي للعقوبات المحتملة، وهو بذلك لم يجد أي جدوى في قيام النيابة العامة والسلطات القضائية عموما بفتح تحقيق إضافي، لأن من شأنه إطالة أمد القضايا أمام المحكمة، مع ما يمكن أن يحدث خلال ذلك من ضياع لبعض الوثائق أو سرقتها، أو فتح الباب أمام الوساطات والتدخلات وبالتالي قد تنتهي الضجة المثارة بإقبار الملفات. كما أنه قد تسقط قضايا الفساد المثارة في الاستغلال السياسي من قبل الأطراف المتصارعة على السلطة، وتتحول سياسات مكافحة الفساد إلى أداة لتصفية الخصوم السياسيين، وهو ما يدفع بها إلى أن تكون مبتذلة وتفقد أي مصداقية. ومع أن السياقات تختلف، وأن السياسات المتعلقة بمكافحة الفساد تستند إلى الخصوصيات القانونية والدستورية لكل بلد، مع الاتفاق على الحد الأدنى الذي تمثله اتفاقية الأممالمتحدة في هذا المجال، فمن النافل التأكيد على أهمية أن تتوفر الهيئات التي توكل إليها مهام الوقاية من الفساد ومكافحته على اختصاصات واسعة وواضحة تسمح لها بالنفاذ إلى بؤر الفساد ومحاصرته، بما في ذلك فسح المجال أمامها للحصول على جميع المعلومات المرتبطة بمجالات عملها، أو التي من شأنها أن تساعدها في أداء مهمتها، ومن ذلك ما يتعلق بالمعلومات البنكية، أو المتعلقة بالعقارات أو المعلومات الضريبية وغيرها التي قد تفيد في مراقبة تطور ثروات بعض الأشخاص الذين يكونون عرضة لشبهة الفساد. وعلى سبيل الختام، يتوفر المغرب على كل ما يلزم قانونيا ومؤسساتيا ليكون متقدما في ورش مكافحة الفساد، إلا أن الحكومة مدعوة، بالإضافة إلى صياغة استراتيجية وطنية مندمجة تشرك فيها مختلف الفاعلين في مجال مكافحة الفساد، إلى تفعيل القوانين الموجودة وتطوير المؤسسات المعنية بهذه الظاهرة بشكل مباشر، وهو ما يعني بشكل أساسي العمل على تنزيل المقتضيات الدستورية في مجال الحكامة ومكافحة الفساد، بما في ذلك ما يهم مؤسسات الحكامة المنصوص عليها في الباب الثاني عشر. ° باحثة مهتمة بقضايا الفساد