لم يكن أحد من زوار اكادير خلال الثمانينيات من القرن الماضي ليهتم بتلك العلامة التي تشير إلى مكان اسمه الدراركة . وحدها الحافلة رقم 19 كانت تجرؤ على اقتحام عزلة البلدة كل جمعة ،وحتى الناس الوافدون لم يكونوا يقصدون الدراركة إلا لأجل الزيارة، زيارة ضريح سيدي الحاج سعيد الذي يتوسط قبره الدراركة المركز ،ويحيط به أحفاده وأصهاره ومن ارتضى في وقت ما الاحتماء ببركته … نهاية الثمانينيات بدأت أفواج الهجرة القروية تتوافد على الضريح من كل مناطق المغرب فنشطت تجارة البقع الأرضية ووجد السكان الأصليون أنفسهم مجبرين على الانخراط في هذا التحول بالتخلي عن حقولهم ومزارعهم وتحويلها إلى أحياء سكنية حيث امتدت المباني إلى أراض فلاحية لم يكن أحد من أبناء الدراركة يتوقع وصول المد العمراني إليها ، فتكونت أحياء جديدة وشقت طرق فكت العزلة عن المنطقة مما أدى إلى تضاعف ثمن المتر المربع وبلوغه أرقاما تفوق الخيال (تجاوز الستة آلاف درهم أحيانا…) لقد استقطبت الدراركة في عقد من الزمن أزيد من أربعين ألف نسمة مما جعل الخدمات العمومية والحقوق الأساسية على المحك ،لأن لا أحد من المسؤولين كان يتوقع هذا الانفجار الديمغرافي في هذه البقعة المنسية على سفوح جبال امسكينة , ولهذا عانى الجميع وعلى كل المستويات , فالسكان كانت أقسى طموحاتهم أن يوهبوا زر كهرباء وصنبور ماء بعدما أتعبتهم الشموع وقنينات الغاز ورحلات العطش المتواصلة من إكيو الى إكيدار وحتى تكديرت الغارقة في عزلتها القاسية …أما قصتهم مع التعليم فكانت قصة أخرى لا يتسع لها هذا المقام إذ بدت مجموعة الإمام الشافعي اليتيمة آنذاك عاجزة عن احتضان ذلك الكم الهائل من الوافدين ليتجاوز حينها عدد التلاميذ في القسم الواحد أكثر من ستين تلميذا (64تلميذ)..واستمر الصراخ وطرق الأبواب حتى أمكن أن يجد كل الأبناء على الأقل مقاعدهم الدراسية … لم يكن أحد يحلم بثانوية ثانية بعد الأولى ولا باعداديات و مدارس خاصة .. ولا بمكتب للبريد ومركز للدرك ولا بملاعب ومكتبات ومؤسسات بنكية…. لكن حينما استفاق الناس من الحلم ورأوا واقع الدراركة , تضاعفت أمانيهم قائلين إن بإمكان بلدتهم أن تكون أفضل ، خاصة أنها لم تعد كما كانت وأضحت تجمعا سكانيا كبيرا متجانسا بعد أن كانت في ما مضى قرية صغيرة خاضعة لحكم الأسرة والقبيلة ،والفضل في ذلك يرجع لهذا الجيل الجديد الذي فتح عينيه فيها، مما جعله أشد إخلاصا لها من بلدة الأجداد التي لا تمثل إليه سوى ذكرى…لأنه فيها دب وشب وعليها كبر وعاش وبين أحضانها تربى وصادق …فهو(الجيل) لا يهمه أن آلاباء تحملوا عناء نقل الماء من تيكيوين وأن الأخ الأكبر كان يدرس في انزكان أو اكادير ..كما لن يهمه أن أجداده شماليون أو بيضاويون أو امازيغ أو من الريف وأن جيرانه بالمقابل صحراوة أو سراغنة أو سوسيون , فهذه التفاصيل لم تعد قائمة لدى هذا الجيل الثالث الذي نجح بوسائله الخاصة في إذابة ما عودنا التاريخ وأساطير الأولين على أنها فروقات اجتماعية, لقد نجحوا بالفعل في الاندماج الفعلي وحتى التقاليد التي كانت إلى زمن قريب مميزة تم تجاوز الخصوصيات فيها فأصبحت للسكان كلهم تقاليد وعادات واحدة موحدة ومشتركة لا تحمل الولاء إلا للدراركة الموطن فقط … إن من الطبيعي أن تختلف الاهتمامات والمطالب بين الآباء الذين كان همهم الماء والكهرباء والصرف الحي والأبناء الذين لا يعتبرون ما تحقق كافيا وينظرون بعين الريبة إلى ما هم فيه الآن ،فيتساءلون بحسرة : أليس من حقنا في الدراركة أن تكون لنا قاعات رياضية ومسابح ومسارح وجامعات ومصانع وحدائق ومساحات خضراء …؟ أليس من حقنا في الدراكة أن ننعم بالأمن ونستفيد من مستشفيات كبرى ومصحات خاصة وأسواق وفرص شغل بالقرب من الديار …؟ أليس من حقنا معارض ومهرجانات للفنون الشعبية والموسيقى الشبابية ؟ وأحيانا يأخذهم الحماس إلى ابعد مدى فيقولون وإن بشعارات على الجدران مثل : (ولد الدرب اللي يحكم واللي ما بغا دابا يندم ) في إشارة واضحة لرغبتهم في تدبير الشأن المحلي ….. كل من يعرف الدراركة من قبل، يقر ويؤكد أنها لم تعد كما كانت . وأن عشرين سنة من عمرها كانت كافية لتعلن ميلاد دراركة أخرى ، دراركة كبيرة بأهلها ، كبيرة بأحلامها التي لا تنتهي . لم لا،خاصة في ظل مشاريع مثل : أليوتيس و الطريق السيار وحدائق الدراركة وتكديرت الجديدة ؟ هذه المشاريع التي يمكن أن تنجح في كشف وجه الدراركة الخفي ، فتحوله من نقط سوداء حالكة إلى أضواء منيرة في أحياء تعاني على الهامش وتتطلع إلى تنمية حقيقية وإعادة تهيئة وتأهيل كحي النهضة و إكيو وإكيدار و تكديرت ودار بوبكر وتدوارت وتمعيت ،خاصة أنها لا تزال تعاني من تبعات وأثار موجة البناء العشوائي الأخيرة…. يحدث كل هذا والدراركة صامتة ، صمت القبور….ترنو إلى الأفق البعيد ، إلى القادم من الأيام ، لما تحقق ولما يمكن أن يكون …وحدهم العارفون بخباياها يؤكدون أنها قد تفاجئ سكانها من جديد بزمن ثالث لا يصدقونه كما باغتت أهلها في الثمانينات بزمن ثان لم يستفيقوا من صدمته حتى الآن ….