الحرب القائمة حاليا في أوكرانيا ليست بداية حرب عالمية ثالثة ولا نهاية النظام العالمي، وإنما هي حرب تدخل في إطار نظام عالمي دأب منذ قيامه على إذكاء الصراعات والحروب كلما اختل توازنه بسبب طغيان إحدى القوى المهيمنة على العالم أو عند ظهور قوى جديدة تبحث عن تعزيز نفوذها. النظام العالمي الحالي يقوم على أساس هيمنة الدول القوية، وإذا شعرت إحدى هذه الدول بفقدان نفوذها في بقعة من العالم، يشتد الصراع الذي قد يصل إلى نشوب حرب تنتهي في غالب الأحيان بتفاهمات بين الدول النافذة. هذا ما حدث في غزو أمريكا للعراق، وتدخل كل من روسياوأمريكا في سوريا، وهو ما سيحدث في الهجوم الحالي لروسيا على أوكرانيا. لا يمكن البحث عن أسباب الحرب على أوكرانيا في الأحداث الأخيرة ولا في قرارات آخر ساعة، وإنما جذور المشكل تمتد إلى سقوط جدار برلين مرورا بالربيع العربي. فما هي القصة إذا؟ بعد سقوط جدار برلين في 1989 تفكك الاتحاد السوفياتي وتراجع نفوذه العالمي ليخلق نظاما دوليا من قطب واحد، وهو الأمر الذي لم تشهده الإنسانية طيلة تاريخها. تفَكَّك الاتحاد السوفياتي إلى 15 دولة بما فيها روسيا الاتحادية كخليفة للاتحاد السوفياتي وأوكرانيا ودون احتساب ألمانيا الشرقية التي اندمجت من جديد في البلد الأم. وكان لتفكيك الاتحاد السوفياتي أثر بالغ في تراجع نفوذه العالمي لصالح النفوذ الغربي بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية. هذا التراجع في النفوذ يتضح جليا في التحالفات العسكرية حيث تم حل حلف وارسو الذي كان يتزعمه الاتحاد السوفياتي مقابل تعاظم حلف الناتو بانضمام ثلاثة دول انفصلت عن الاتحاد السوفياتي إضافة إلى اثنا عشر دولة كانت تابعة للمعسكر الاشتراكي. بعد تراجع نفوذ الروس في العالم وفقدانه لأغلب حلفائه، اتجهت روسيا نحو الصين كدولة صاعدة وقادرة على خلق توازن استراتيجي مع أمريكا وتكسير نظام عالمي بقطب واحد. هذا التقارب مع الصين مكن روسيا من تقوية اقتصادها وتعزيز موقعها الدولي من جديد. وهو ما يمكن ملاحظته بشكل جلي في عهد روسيا بوتين. خلال ثورات الربيع العربي في 2011، فقدت روسيا المزيد من نفوذها في العالم العربي. فبعد سقوط عراق صدام في يد أمريكا سنة 2003، فقدت روسيا حليفها في شمال إفريقيا المتمثل في ليبيا القذافي بعد الربيع العربي. شعرت آنذاك روسيا بضعف غير مسبوق مصحوب بإحساس الإهانة أمام تغول المد الغربي بزعامة أمريكا، وهو الأمر الذي دفعها إلى أخذ زمام المبادرة من جديد فوقفت سدا منيعا أمام سقوط حليفها السوري. تدخلت روسيا بثقلها العسكري لمساندة نظام بشار الأسد، ولم يستسغ الحلف الغربي ذلك لأنه يعتبر أن النفوذ العالمي لروسيا أصبح شيئا من الماضي، فتدخل هو الآخر بثقله العسكري لتسليح المعارضين لنظام الأسد. اشتد الصراع بين القوى العظمى ووصل مستوى كسر العظام وهو ما أدى ثمنه غاليا الشعب السوري الذي توزع بين خائف ولاجئ وقتيل. بعد سقوط ليبيا القذافي فقدت روسيا حليفا لصالح المعسكر الغربي، لكن سوريا شكلت محطة تَواجه فيها المعسكر الشرقي مع المعسكر الغربي وكانت مناسبة لإعلان رجوع النفوذ الروسي الذي شرع في استرجاع منطقة نفوذه إبان فترة الاتحاد السوفياتي، معتبرا دعمه لحليفه السوري بداية تقوية النفوذ الروسي بزعامة بوتين. لم يستسغ المعسكر الغربي هذا الصعود القوي لروسيا، اعتبارا لكون صعودها إلى جانب الصين يشكل تهديدا وجوديا للحلف الأطلسي "الناتو". فشرع هذا الأخير في تطويق روسيا بمحاولته تمديد نفوذ حلف الناتو ليصل إلى مشارف الحدود الروسية بعد تقاربه مع أوكرانيا. والهدف من ذلك هو محاصرة روسيا في حدودها الجغرافية حتى يتسنى للمعسكر الغربي التفرغ للصين التي تعتبرها أمريكا الخطر الحقيقي. لكن روسيا اعتبرت خطوة الحلف الأطلسي تهديدا لأمنها القومي وتجاوزا لكل الخطوط الحمراء، فقامت في خطوة أولى بضم القرم وإخراجها من الأراضي الأوكرانية، علما أن هذا الإقليم يحتضن أكبر ميناء للسفن الحربية الروسية المطل على البحر الميت. وفي خطوة ثانية هاجمت أوكرانيا لخلق واقع عالمي جديد تسترجع فيه روسيا نفوذها المفقود بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي. ومن الخطأ إعطاء هذه الحرب أكثر من حجمها بالحديث عن حرب عالمية ثالثة أو نهاية للنظام العالمي. فالدول العظمى تدرك جيدا قواعد اللعبة في صراعها العسكري بحيث يكون ثمن الحرب من نصيب الدول الحليفة لها بعيدا عن شعوبها وأراضيها. فلن نشاهد لا قصفا للأراضي الروسية ولا للأراضي الأمريكية أو الأوروبية، وإنما سيدفع الثمن الشعب الأوكراني، وتنتهي الحرب بتفاهمات بين الدول العظمى وفق النظام العالمي الذي تحدد معالمه الدول صاحبة حق الفيتو في الأممالمتحدة. شنت أمريكا حربها على العراق دون موافقة الأممالمتحدة، وساندها حلفائها بذريعة مصلحة العالم وشعوب المنطقة، وعارضها المناوئون الذين اعتبروا الحرب غزوا لبلد عضو في الأممالمتحدة، لكن في نهاية المطاف كان لأمريكا ما أرادت بمباركة باقي الدول العظمى. وها هي روسيا الاتحادية تشن حربا على أوكرانيا اعتبرها حلفائها دفاعا عن الذات وعلى رأسهم الصين، ووصفها المعارضون بالغزو لبلد ذي سيادة، وبنفس المنطق ستنال روسيا ما تريده وبمباركة باقي الدول العظمى. وتظل منظمة الأممالمتحدة عاجزة عن إصدار ولو قرار إدانة لأنه في كل الأحوال سيتم إجهاضه بالفيتو الذي تستأثر به الدول الماسكة بخيوط النظام العالمي. هذا هو النظام العالمي وهذه هي سماته.