أضحى العنف الجامعي قضية لم يعد من الممكن التستر عنها، قضية تسائل الدولة بكل متدخليها، وتسائل المجتمع المدني بكل مكوناته، وليس من الحكمة إلقاء التعلّة على طرف واحد أو التنصل من المسؤولية. العنف الجامعي مثل حوادث السير، مؤشرات تُظهر أننا لم نبرح زاوية التخلف، وتذكرنا بما لا نريد أن نعيه أن التقدم هو بالأساس بنية ذهنية، أي ثقافة... كيف يصبح فضاء الجامعة، الواحة التي من المفترض أن تكون صورة لما يهفو له المجتمع، بؤرة لأبشع تناقضات المجتمع؟ قتل وسحل وسيوف وشواقير وعصي ومحاكمات... ناهيك عن المآسي المتمخضة عن العنف الجامعي للضحايا وأسرهم، وللجناة أنفسهم و ذويهم... لم تعد الجامعة واحة، ولا قاطرة، بل حالة عرضية، لاختلالات عميقة... ليس المشكل البرنامج المرحلي، ولا التجديد الطلابي، ولا «إم سي أ»، أي الحركة الثقافية الأمازيغية... قد تسهم تلك المكونات في تأجيج المشكل، من خلال معطيات موضوعية، ولكن ينبغي أن ينصرف الذهن إلى جوهر المشكل، أو أسبابه العميقة... تعليم متدن، استقالة المربين، بيروقراطية التدبير، عدم ارتباط الجامعة بمشروع مجتمعي، إصلاحات هي عبارة عن نوايا ومساحيق، السكن، تقلص آفاق التشغيل... لن نردد الجملة الشهيرة: "من يربي المربين"، لأن كثيرا من المسؤولين يعدمون أبسط مبادئ التربية، ويتنصلون من المسؤولية لأنهم عاجزون عن الفهم، وعلى الإدراك، إلا من بعض التخرصات والتصريحات البائخة. ولعل الأمل معقود بالدولة، وبنية الدولة، وإن لم نُسمّ الأمور بمسمياتها فلنسمها بإيحاءاتها، الدولة العميقة، من أطر وزارة التعليم العالي، ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات والأساتذة، والإدارة الترابية، والأمن، فضلا عن المجتمع المدني... تعليمنا الجامعي لا يُشرّف. والحل لن يكون البتة من خلال تعليم موازي، لأننا سنكون إذاك كمن يمشي على عجل إلى انشطار المجتمع نصفين، أو إلى «أبارتيد» لا تؤمن عواقبه، والحال أن التعليم هو البوتقة التي تصهر أمة، وترسخ قيم المواطنة والانتماء والتضامن... قرأت رواية ممتعة ومفيدة ومؤلمة في الوقت ذاته عن واقع التعليم العالي، أو على الأصح العنف الجامعي للكاتب الموهوب ميمون أم العيد بعنوان «تقارير مخبر» يُشخص فيها الروائي واقع الجامعة التي أضحت حلبة للتنابز... يختار الروائي شخصية مثيرة، ضابط مخابرات، للتعبير عن واقع الجامعة ولتشخيص أدوائها... يرقب تطور المجتمع باحترافية فائقة، وقبل أن يغادر الساحة، أي قبل أن ينتحر، يُسلم أوراقه إلى شخص قد يكون ممثلا للمجتمع المدني... انتحر المخبر أو انتُحر. تظل أسباب وفاته لغزا، ولكن تقريره لشؤون الطلبة وملابسات الجامعة عميق ودقيق، كما له هو صحوة ضمير... يبين الضابط عن معرفة بواقع التعليم والفصائل، مثلما، يبين عن أساليب التمويه... المهمة الموكولة له هو البحث في أسباب اغتيال طالب، يلقب ب«عتريسة» أو عريس الشهداء، متعدد الهوية، أو متشظيها. الإسلاميون يزعمون أنه شهيدهم، والأمازيغيون يفعلون ذلك، والقاعديون ينسبونه لأنفسهم. يجري المخبر تشخيصا للعلاقة ما بين الطلبة وبين رجال الأمن، علاقات يطبعها سوء فهم. «يتحدث الطلبة عن رجال الأمن بنوع من الاستعلاء، يرون فيهم الأغبياء الذين لم ينالوا حظهم من التعليم، وبأنهم لا يفقهون شيئا في أمور السياسية ولا المجتمع». بذات الوقت «يرى بعض رجال الأمن أن الطالب شخص قاصر، مهما بلغ من العمر والعلم، يعيش في نعمة لا يقدرها يوما...»، «لا يفكر العديد من الطلبة في أن رجل الأمن كأي مواطن، يؤدي وظيفة مهمة وحساسة وأنه شخص عادي مثل كل المواطنين.»يندس المخبر في الحلقيات ويتبني لسان القاعديين فيمجد الثورة ويثلب البورجوازية، ويرافق الإخوان فيطالب بالقومة وبناء الخلافة على منهاج النبوة، ويرفع ثلاثة أصابع مع الأمازيغ، مطالبا بضرورة تصحيح التاريخ ومُلوحا ب«تاكراولا» أي الثورة... يحسبه الجميع منهم ويهزأ منهم جميعا. يلعب اللعبة، في أسلوب شيق، يجعلنا نتساءل هل الطلبة حقا أحرار في اختياراتهم؟ ولعل الإبداع أن يسهم في التشخيص أكثر مما قد تفعله التقارير واللجان، والبرامج، والبحث والتقصي، والأسئلة الآنية... تسهم رواية «تقارير مخبر»، على إلقاء الكُرة إلى المجتمع، وإلى أهم مكون منهم في هذه الحالة، الطلبة أنفسهم. لهم مسؤولية في الحل.