ترعرعنا مع حروب وعشنا معها ولو مشاهدة، رأينا فيها الأبشع، فأحسسنا بها وآلمتنا، ذرفنا دموعا وتعاطفا مع أولئك الأبرياء الذين راحوا ضحيتها، وساندناهم إحساسا وعطفا، ورفعنا أيدينا للسماء كثيرا راجين السلام لهم فكم تمنينا لو تتوقف هذه الحروب، اشتهينا ولو لفترة أن لا تحتل محاور الأخبار كالعادة، لكن على ما يبدو أحلامنا تتبخر في سماء الصهاينة والطماعين، ولدى مجرموا الإنسانية جمعاء… نكرههم لدرجة كبيرة، فأينما كانوا ننبذهم في مداخلاتنا و حواراتنا، و نضرب بهم أمثلة السوء لعلنا بذلك نشفي غليلنا ولو حسيا انتقاما لتلك الدماء التي سالت ولا تزال تسيل في كل مكان، والتي رخصوها و كأنها لاشيء…، بيد أن الأيام عودتنا، فبدأنا نألف على مثل هذه الحروب والمعارك، وربما لكثرة ارتفاعها خاصة في الآونة الأخيرة التي مضت لم تعد تؤلمنا مثل السابق، فبها نفطر ونتغذى و نتعشى بل ونضطر أحيانا إلى عدم تشغيل التلفاز أو تغيير المحطة لأننا سئمنا من الدم والمشاهد البشعة التي تحدث هنا وهناك، ونكتفي أحيانا بنصر دواتنا بأن أولئك الضحايا الأبرياء ماتوا شهداء والشهيد مكانته معلومة وقيمته مشهود عليها، فالشهداء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون… أما أولئك الأعداء فتراهم بأذكى وأطور التقنيات يحاربونهم تارة من أجل الأرض، و الدين والجشع تارة أخرى وغيرها من أسباب مجهولة أرادوها سرية مخفية في سياسة تسعى إلى استغباء الناس … والضحية هم الأبرياء الذين يدفعون الثمن من أروحهم، يتحملون الطلقات والصواريخ فداءا لوطنهم ولدينهم، اه كم هو موجع صوت تلك الطلقة وهي تغزو أجسدهم؟ … أما نحن فكثيرا ما نستثني أنفسنا و نحمد الله على السلام والسكينة التي ما تزال تنبض في كل مكان هنا، نظن أننا محظوظون لأننا لا نعيش حربا قد نفقد فيها عائلتنا وأفرادنا، فمعيار الحرب لدينا يشتمل على فقد أهلنا أو أرواحنا وأرضنا ربما فقط، لكن الواقع يقول عكس هذا وما يشهد به اليوم هو أننا نعيش حربا، حتى ولو لم تكن ظاهرية لا ترى بالعين المجردة، فحربنا هذه ليست طمعا في إشباع بطون لم ولن تشبع، لقد شنت علينا حربا كانت ولا تزال مستمرة، حرب ذكية لا سيف فيها ولا بندقية، نعيش اليوم معركة بتنا نخسر فيها الكثير ونحن لا ندري، بل وحتى لا نشعر بوجودها، والأغرب من هذا أننا نكرس وقتنا لتهيئة الجانب الأمني تحسبا لأي ظرف في الوقت الذي نعيش فيه حربا غزت عقولنا وحياتنا وربما هي أبشع من تلك التي نشاهدها عن بعد، فأولئك يستشهدون بالطلقات ونحن نستشهد إن صح التعبير بالفكر والمبادئ، فمعركتنا اليوم هي معركة قناعات تزرع، ومبادئ ترسخ، معركة بدأنا نخسر فيها رهان الربح وبدأنا نشعر بمرارة الخسارة و… لقد كانوا أذكياء معنا حين اختاروا هذا النوع المميت بالذات، من الحروب الصامتة والخفية التي تدمرنا شيئا فشيئا، و صرنا نذوب معها ذوبان الجليد بعد أن كنا جبالا صامدة لا تنحني، وكيف لنا أن نصمد أمام كل هذه المغريات الدنيوية حيث صار الإغراء والمظهر هما أدوات الحرب علينا، لقد توغلوا في دواخلنا، وفهموا ما نفكر فيه ومسكونا بالجرم المشهود حين اكتشفوا أن مسلسلا من سبعمائة حلقة قد يقلب حياتنا رأسا على عقب، وحين علموا أن أغنية واحدة ستفسد علينا حياتنا دون بدل جهد منهم، فنحن بارعون في شراء لهو الحديث بأغلى الأثمان، و حين فهموا أن الانترنيت كفيل بأن يجعلنا من المدمنين المعزولين والمنومين مغناطيسا عن العالم، أدركوا أننا سنعفيهم من القتل و الحرب مادمنا نحارب أنفسنا بأنفسنا، لقد سهلنا المهمة عليهم مشكورين طبعا. كيف عرفوا عنا كل هذا يا ترى؟ الجواب واضح وضوح الشمس، لقد استنبطوا كل هذا من حياتنا وكيف نعيشها؟ فمن تقليدنا لهم عرفوا أن لا أساس لنا نثبت به خطواتنا، ومن احصائاتهم للمتصفحين اكتشفوا أن الانترنيت كآلة يستغلونا قبل أن نستغله، فنحن من يحتل النسب الأولى في البحث عن اللاشيء فيه ، فأغرونا بمتصفحات عقدنا معها عقد زواج عرفي إذ لا نفارقها ولو لبرهة ، شغلونا بأخبار ومواضيع لا تسمن ولا تغني من جوع، خدرونا بأسهل الوسائل في محاولة لهم من اجل طمس العقول والفكر لمحو شيء اسمه مبدأ وقناعة شخصية، فهم يرفضون أي فكر خارج عنهم لأننا بشكل أو بأخر خطر ومهدد لمشاريعهم المستقبلية المستورة، والتي لا تخفى على احد على ما أعتقد؟ والحرب عامة أنواع، أشهرها حرب السلاح كما في جل الدول اليوم، وحرب أوسخ منها استغلالا وهي حرب الطمس والهدم والتي نراها اليوم في مركز هرمنا السكاني الذي هو الشباب وفي صفوف أبنائنا وبناتنا الصغار وفي من تمثل نصف المجتمع وبخراب هؤلاء يتلاشى كل شيء ولن تبقى سوى أجساد بعقول فارغة أو قد تكون مشحونة بأفكار الغريب… ويبقى الأسف عزائنا إلى اللحظة في انتظار بقعة ضوء قد تغير الاتجاه أو بالأحرى إلى كومة قوة وصبر تمنع الذوبان الذي نعيشه، وللحديث بقية.