حين شارك في حرب 1948 لتحرير فلسطين، لم يكن الكولونيل المجاهد الهاشمي الطود، قد بلغ بعد 18 سنة من عمره، وهو اليوم إذ يقارب الثمانين سنة، لا زالت ذاكرته القوية تتذكر الأسماء والتواريخ بدقة متناهية. قبل الحوار وبعده، عبّر للتجديد أنه غير راض عن أداء جيله، لأنه لم يحرر فلسطين، ولكنه أيضا لم يأتي بالاستقلال الكامل للمغرب. وخلال الحوار، كانت تلمع عيناه افتخارا لنصر حقّقه المجاهدون على أرض المعركة، كما كانت تغرورق أسى على الأخطاء القاتلة التي حالت دون استكمال هدف التحرير فلسطين. في هذا الحوار الذي أجرته معه التجديد ببيته في مدينة أصيلة، يحكي المجاهد المغربي في فلسطين عن ظروف مشاركته و11 مجاهدا آخرين في حرب ,1948 وذلك بمناسبة مرور 60 عاما على احتلال فلسطين، يعاود النظر في مرحلة حسّاسة من تاريخ القضية الفلسطينية، ويكشف بخبرة العسكري والمؤرخ محطات دقيقة في هذه الحرب، وكيف شارك المغاربة فيها، مبرزا حماسة الشعوب للجهاد والتحرير حتى بدون إمكانيات المواجهة والحرب، ويبرز الأسباب التي حالت دون التقدم نحو تحرير فلسطين حينها، كما يوضح الأسباب التي أدت إلى هزيمة الجيوش العربية في تلك الحرب.. كنتم من بين المجاهدين المغاربة الذين شاركوا في حرب ,1948 كيف حدث ذلك؟ المغاربة كانوا دائما مهتمين بالقضية الفلسطينية، والشعب المغربي مثل أي شعب مسلم، كان عنده اهتمام بمجمل القضايا العربية والإسلامية خلال التاريخ، ومشاركتنا في الجهاد في 1948 بفلسطين، كانت بمناسبة وجود الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، وبالضبط في سنة ,1947 وهي السنة التي صادفت ظهور القضية الفلسطينية على السطح العالمي، كقضية دولية، إذ اقتضى ساعتها من السياسيين العرب والمسلمين، أن يهتموا بالقضية اهتماما أكبر، خاصة بعد شهر ماي 1947 حين أعلن تقسيم فلسطين في الأممالمتحدة، وكان هذا الحدث بمثابة الشراراة أو زندة النار التي دفعت عددا من القادة العرب والمسلمين إلى اللجوء إلى الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، بحكم سابقيته في الجهاد وخبرته العسكرية، بقصد توجيه نداء إلى المسلمين للجهاد في فلسطين، وطبعا الأمير قبل الفكرة، وأعلن في ذلك اليوم عن الجهاد، حيث وجّه نداء للمسلمين، فلبّت الكثير من الشعوب النداء، وهبّت إلى مقر الجامعة العربية متطوعة إلى الجهاد، منهم عناصر من المغرب والجزائر وتونس وليبيا، وكان عددهم يتفاوت بحسب القرب والبعد من فلسطين، ويصل عددهم 1000 مجاهد. وكم عدد المغاربة الذين لبوا نداء الأمير عبد الكريم الخطابي؟ كنا 12 فردا، ولا زلت أذكر أغلبهم بالإسم، مثل الأخ محمد بن صبيح من تطوان، وهو على قيد الحياة، وأخ ثاني اسمه محمد البرنوصي من مدينة مكناس، وهو من الضباط الذين تدربوا على يدي في الكتيبة 13 في العراق، وشارك في الجهاد في فلسطين، وثالث اسمه عبد الكريم الفيلالي له دار للقرآن الكريم، وهو من المجودّين الممتازين عندي، ولا زلت أحتفظ بصوته في أذني، وهناك أخ رابع اسمه محمد المزكلدي من الدارالبيضاء، لقد عثرت عليه هناك، واتصلت به عدة مرّات وأظنه انتقل إلى دار البقاء، وأيضا الأخ عمر الوزاني من مدينة وزّان، كان جنديا في الجيش الفرنسي، ولمّا وصله خبر الجهاد في فلسطين، وكان في الحرب الهند الصينية، فرّ من هناك والتحق بالمجاهدين، وشارك معنا في عمليات ومعارك في بربرة و دير سنين وأسدود وعسقلان. وكيف ذهبتم أنتم المجاهدين المغاربة إلى فلسطين؟ بعد نداء الأمير عبد الكريم الخطابي، تجمّعنا نحن المغاربة الذين كنّا ندرس في القاهرة، في مكتب المغرب العربي، في شارع الضريح سعد زغلول بالقاهرة، تحت إشراف الجامعة العربية التي تولت تموين المتطوعين وتدريبهم تحت إشراف ضباط مصريين، أذكر منهم أحمد عبد العزيز الذي تولّى قيادة المجاهدين المغاربيين في ميدان المعركة، وكان بعض الضباط الذين تولوا تدريبنا في القاهرة، منهم كمال الدين حسين، وخالد محي الدين، وحلمي سعيد، وفتحي الديب، وعزت سليمان، وهم من قادوا ثورة يوليو في 1952 مع جمال عبد الناصر.. كم استمر تدريبكم قبل التوجه إلى فلسطين؟ استمر ثلاثة أشهر، بل استمر التدريب حتى داخل فلسطين، لكنه كان تدريبا خفيفا لمقاتلين عصابيين، هم أقرب إلى ثوار وحرب عصابات، أي ليس في مستوى تدريب الجيوش النظامية، لقد تعلمنا خلاله القتال الخفيف والدفاع عن النفس ليس إلا. وكيف انتقلتم إلى فلسطين؟ انتقلنا عبر القطار، من القاهرة إلى العريش ثم رفح، ودخلنا إلى فلسطين على الأقدام، وأحيانا بالسيارات، والفلسطينيين كانوا يساعدوننا، كانوا على استعداد لاستقبالنا، وكانت عندهم تنظيمات جهادية، مثل تنظيم الفتوة والنجادة، تجاهد تحت إمرة الحاج الأمين الحسييني، وتحت قيادة الضابط عبد القادر الحسيني، وكان بعضهم من المقاومين يتعاون معنا، والتنظيمات المذكورة كانت في خطّ قريب منّا في منطقة القسطل، وبها استشهد بها عبد القادر الحسيني. وما هي أول معركة لكم مع اليهود؟ كانت معركة البريج أول المعارك التي خضناها في جنوب منطقة غزة، وهي نقطة كانت توجد بها مستعمرة صغيرة، يسكن بها اليهود، حدثت بها مواجهات استمرت ليومين أو ثلاثة أيام، بيننا وبينهم، انسحبوا على إثرها إلى مستعمرات أخرى في الشمال هل سقط خلالها شهداء؟ طبعا. وهل كان منهم مغاربة؟ لا، أصيبوا بجروح فقط، منهم أنا، لقد أصبت برصاصة في بطني، وأمد الله في عمري، لقد خضعت بعدها للعلاج، في مستشفى العريش في مصر على الحدود مع فلسطين، لمدة أسبوع تقريبا، ثم عدت لميدان المعركة، أنت تعرف أنه لم تكن حدودا مغلقة كما هي اليوم. وما هي أقوى معركة خضتموها؟ والله المصادمات كانت كلها قوية، أقواها حسب رأي كانت معركة مع مستعمرة نيتا سليم في شمال غزة، وهي كانت أخطر مستعمرة، توجد قرب بلدة فلسطينية تسمى بربرة مشهورة بعروبتها وبمجاهديها، واستمر معها القتال أياما عديدة، كان اليهود ينسحبون منها ثم يعودون إليها، وهي مستعمرة قديمة ومحصنة من سنين عديدة.. ورغم ذلك استطعتم أن تهزموا عدوكم فيها؟ نعم، هزمناهم لكن لم نحتل المستعمرة التي كانوا يتحصنون بها لماذا؟ لأنه لم يكن عندنا إمكانات للدفاع، ولو احتللنا المنطقة سنصبح هدفا لهم، فالدفاع يحتاج إلى إمكانات لم نكن نتوفر عليها، عكس اليهود.. وما السبب في ذلك؟ لأن الدول العربية كانت غائبة عن المعركة لأنها كانت محتلة؟ مصر لم تكن محتلة، ولكن كانت ضعيفة وليست لها إمكانات الحرب وبالتالي كنتم لا تحتلون المستعمرات التي يفرّ منها سكانها من اليهود؟ نعم، لأن الدخول إليها يحتاج إلى إمكانات للدفاع، كما قلت لك، ومعلوم أن الدفاع يتطلب إمكانات أكبر من الهجوم، كما أن هذه المستعمرات كانت تتوفر على مناعات دفاعية قوية، والبقاء فيها يحتاج إلى مدفعيات مثلا، لكن هذا لم يكن عندنا، نحن كنا نتسلم 80 رصاصة كل يوم، نصفها فاسد، ونحمد الله أن معنوياتنا كانت مرتفعة. كنتم تجاهدون بإيمانكم لا بإمكانات؟ كنا نجاهد بالإيمان، هذه هي الحقيقة، كانت هناك شجاعة فعلا، لكن الحرب لا بد لها من إمكانات، انظر اليوم إلى تجربة حزب الله في لبنان، لقد استطاع الشيخ حسن نصر الله أن يدحر اليهود، وأن ينتصر عليهم، لقد وقف وقفة مشرفة للمسلمين كافة، وللأسف فالعرب لم يعجبهم النصر، رغم أن اليهود اعترفوا بالهزيمة، أنا عندما أتذكر الجهاد في فلسطين وأقارن مع المقاومة في لبنان، أحس بالفخر، لعل هذه المقاومة ترفع معنويات المسلمين ولو لسنوات قليلة. هل المجاهدين المغاربة كلهم كانوا في مكان واحد أم كان بعضهم في الشمال على الحدود السورية؟ لا، كل المجاهدين حسب معرفتي كانوا في الجنوب، في غزة، لكن كان هناك مغاربيين التحقوا بالمجاهدين في الشمال، الذين كان يقودهم الضابط مروان القواقجي، منهم صديقي اسمه عز الدين عزوز من تونس، وأظن أنه على لا زال على قيد الحياة.. ومن المغرب؟ كانت المجموعة التي قلت لك عنها فقط كلها بقيت في غزة؟ نعم، لكن بعد ذلك انسحب الجميع، أنا وصديقي إبراهيم القاضي من الجزائر، استدعينا إلى القاهرة من قبل الأمير عبد الكريم الخطابي، من أجل السفر إلى العراق لاستكمال الدراسة.. ما الذي حال دون أن يذهب المغاربة بكثافة للجهاد في فلسطين؟ أولا هناك البعد، فالمسافة طويلة، ولم تكن هناك وسائل للنقل ، فأنا مثلا ذهبت مشيا على الأقدام، كما أن المغرب كان تحت الاستعمار الفرنسي، وإعلان الذهاب من أجل الجهاد في فلسطين كان يعدّ جريمة. أنت تعلم أنه حتى بعد الاستقلال وفي حرب 1973 لم يشارك سوى عدد قليل من الجنود المغاربة. هذا يعني أن وجودكم في القاهرة للدراسة هو الذي يسّر لكم الذهاب إلى فلسطين؟ طبعا، نحن كنا شباب صغار يعمرنا الحماس من أجل تحرير فلسطين، لا زلت أذكر أنني وأنا طفل صغير كان يأخذنا المقاومون المغاربة ضد الاستعمار الاسباني في مدن الشمال، لجمع التبرعات لفلسطين، فنحن منذ الصغر كنّا نعيش حب فلسطين وقضيتها... كل المغاربة ذهبوا عن طريق مكتب المغرب العربي في القاهرة؟ نعم، لم يذهب آخرون عن طريق آخر؟ أستبعد ذلك في ماي 1947 كان قرار تقسيم فلسطين، وأنتم حينها متطوعون على أرض الجهاد، ماذا كان ردّ فعلكم؟ اعترف العالم الغربي بإسرائيل، وحدث أن قررت الدول العربية إرسال جيوشها إلى فلسطين لتحريرها.. وماذا عن علاقتكم بها أنتم الذين سبقتم هذه الجيوش إلى ميدان المعركة؟ التحقنا بها، وأصبحنا تحت إمرتها وقيادتها، ومنضبطين لها ولأوامرها، لقد كان دخول الجيوش العربية كارثيا بالنسبة للقضية الفلسطينية، فهي دخلت لتوقيف القتال، فمصر لم تدخل بقوة كبيرة، والعراق أرسل لواء واحدا فقط، يعني كانت مشاركة رمزية، المؤسف أنهم خضعوا للهدنة منذ الأسبوع الأول، وبقي الحال هكذا، وقليلا ما كانت تحدث مواجهات.. ومن طلب الهدنة؟ الأممالمتحدة هي التي فرضت الهدنة، وامتثلت لها الدول العربية المشاركة في الحرب، وكانت الدول الغربية مثل أمريكا وفرنسا، مستعدة للتدخل المباشر، كما أن إنجلترا كانت هي البلد المحتل والمستعمر لفلسطين، وهاته الدول هي التي صنعت إسرائيل كما نراها اليوم.. بمعنى أن الجيوش خضعت للهدنة أكثر مما قاومت؟ هذا ما كان، وفيما بعد، فهمت أن القادة السياسيين لبلدان تلك الجيوش، كانوا محكومين من قبل غيرهم، ممن؟ أقصد الغرب المستعمر هناك كتابات تقول أن هذه الجيوش حقّقت انتصارات لكن رؤساء الدول التابعة لها تدخلت لمنعها من التقدم في عملية التحرير؟ أبدا، أؤكد أنه لم تسجل أية انتصار في أية معركة، كانت هناك مقاومة، وفرق بين النصر في معركة وبين المقاومة ولا في معركة واحدة؟ أبدا، تم فكّ الحصار، وهذا أنجزه جمال عبد الناصر، فبعدما سلّم قادة الجيوش أنفسهم في إطار هيئة الأممالمتحدة، تنفيذا للهدنة، التي رضيتها الدول العربية، حتى تضطر الجيوش للانسحاب، رفض عدد من الضباط ذلك، منهم جمال عبد الناصر، الامتثال للهدنة، وبقي في وحدته العسكرية، حيث حاصره موشي ديان، وقاد عبد الناصر معركة الفالوجة، التي استمرت حوالي ثلاثة أشهر، وفي النهاية استطاع عبد الناصر أن يفكّ الحصار، لقد أصيب بثلاثة رصاصات في صدره، كما أصيب عدد من الجرحى، وأظن أن تلك العملية كانت السبب والشرارة الأولى للتفكير في تنظيم ثورة الضباط الأحرار التي وقعت في 1952 بمصر. كيف كنتم تحاربون؟ لم تكن لنا خطط، نحن متطوعون للجهاد، لم نكن نخوض حربا منظمة، بل حرب عصابات، ضد العصابات الصهيونية أبرزها الهاجاناه.. وماذا كان هدفكم؟ كان وقف زحف اليهود إلى فلسطين واحتلالها بالكامل. وبعد الاعتراف بإسرائيل؟ اعترفت بها الأممالمتحدة، والدول الغربية، أما نحن فلم نعترف، والجيوش العربية دخلت لتسليم فلسطين لليهود كيف ذلك؟ دخلوا ولم يخوضوا حربا، لماذا دخلوا إذن؟ لقد سلّموا فلسطين لليهود يعني كل ما يقال حول دور الجيوش العربية في تحرير فلسطين سنة 1948 تنفيه أنت هكذا؟ هم دخلوا إرضاء للشعوب العربية فقط، وكي يظهروا أمام هذه الشعوب أنهم حاولوا تحرير فلسطين، والأكيد أنه لم يكن لهم فكر ولا عزيمة ولا إرادة للتحرير، أنت تتصور أن القادة العرب حينها كانوا مثل هذا الرجل( يشير إلى صورة للأمير عبد الكريم الخطابي)، لا أبدا، لقد كانوا عملاء للاستعمار. يعني لم تكن هناك إرادة ولا جدّية في تحرير فلسطين؟ الدول العربية كانت غير جادّة في مقاومة الاحتلال الصهيوني، والآخرين كانوا أنصار للاستعمار، ودخلوا لفلسطين فقط من أجل تسجيل الحضور، حدثت مناوشات بعد ذلك، أما نحن المتطوعون للجهاد، فعندما كنا ننقض الهدنة، في حالة اعتداء يهودي علينا، فإننا نعاقب كيف؟ كان اليهودي أحيانا يطلق على أحدنا الرصاص، ورغم ذلك، لا يجب أن نرد عليه بالمثل، وهذا فرضته علينا الجيوش العربية بعد أن دخلت إلى فلسطين، بعد قرار التقسيم، والحق أنها لم تدخل من أجل ذلك، بل أعتقد حقا أنها دخلت من أجل تسليم فلسطين لليهود. وإذا فعل أحدكم يعاقب بالسجن؟ نعم، كان يعاقب عقوبة عسكرية، نحن نقول في النظام العسكري العقوبة وليس السجن، فكل عسكري خالف الأوامر يعاقب، من أين كنتم تحصلون على السلاح؟ كانت الجامعة العربية هي التي تتولى تزويد المتطوعين بالسلاح والمؤونة. لقد كنا متطوعين وكان ذلك بتنظيم من الجامعة العربية كما قلت، لكن السلاح الذي كنّا نستعمله، كان سلاحا خفيفا ومستعملا، كان من مخلفات الحرب العالمية الثانية. دعني أقول لك إن حرب 1948 لم يتم الإعداد لها، والحرب هي إعداد، كان هناك حماس للجهاد، لكن لم يكن هناك إعداد بتاتا، وبعد سنوات من ذلك، وأنا ضابط عسكري اشتغلت في التكوين والتدريب العسكري مدة 60 عاما، وأتذكر جهادنا في فلسطين، وجدت أننا لم نخض حربا، كان هناك حماس للجهاد فقط، فحسب العلم العسكري لخوض حرب، لابد من إعداد معنوي للجندي للحرب، وإعداد الأمة للحرب، وإعداد الوسائل اللوجستيكية والمادية وإمكانيات الحرب. هذا بالرغم من أن الذين كانوا يقودونكم ضباطا عسكريين؟ رغم ذلك، فهؤلاء الضباط كان يقودهم الحماس للجهاد مثلنا، ولم تكن لديهم الإمكانات، فالضابط الذي ليس عنده لا مدافع عسكرية ولا طائرات، ماذا نريده أن يفعل، إن العدة الضرورية للقتال لم تكن، في حين كانت العصابات الصهيونية مدعّمة ومحصّنة في مستعمراتها بشكل جيّد. الحرب ليست سهلة ولا يكفي فيها الحماس. لكن رغم ذلك، استطعتم أن تحققوا انتصارات وتقدمتهم حتى وصلتهم قريبا من تل أبيب؟ صحيح، وصلنا إلى منطقة قريبة منها وتبعد عنها بـ 36 كلمترا فقط، كيف حدث ذلك؟ انتقلنا من موقع إلى موقع، كنا نهاجم اليهود في تحصيناتهم، وكلما فرّوا من حصن، لحقنا بهم، حتى اقتربنا من تل أبيب وما هي المعارك التي خضتموها قبل الوصول إلى هذه النقطة؟ هناك معارك عديدة، منها معركة أسدود، ودير سنين ومعركة بربرة وعسقلان، أؤكد مرة أخرى أننا كنا نخوض حرب عصابات، وليست حربا بمعنى الكلمة. واستطعنا أن نصنع خطا يمتد من عسقلان ودير سنين وأسدود، ليس حصارا كما هو معروف، ولكن هذا الخط كان يبعد عن تل أبيب بـ 36 كلمترا كما قلت.. لم يستشهد أي مغربي في القتال؟ لا، حسب ما أذكر فإن المغاربة الذين هاجروا للجهاد عادوا جميعهم جميع المغاربة رجعوا أم بقي بعضهم هناك؟ أظن أن الجميع رجع، لقد تم تسفير الجميع، بعد سيطرة مصر على غزة، بينما سيطرت الأردن على الضفة الغربية، وكيف كانت علاقتكم بالفلسطينيين؟ كانت علاقة طيبة جدا، كانوا يمدوننا بالغداء وغيره، لكن أحيانا لم نكن نستطيع الوصول إليهم، بفعل المواجهات بيننا وبين عصابات اليهود.. هل يمكن أن نقول إن مواجهات 1948 كانت حربا فعلا؟ لا أظن ذلك، لم يُعدّ لها، والحرب التي لا يُعدّ لها لا تسمى حربا. كنتم صغارا حين دخولكم إلى فلسطين للجهاد؟ سافرت برّا إلى مصر في شتنبر ,1945 وهاجرت إلى فلسطين للجهاد في دجنبر 1947 إلى أكتوبر .1948 بعد نداء الأمير عبد الكريم الخطابي. يعني حوالي 10 أشهر، كان سنّي حينها حوالي 18 سنة.. يعني كنتم في أغلبكم شباب ولا خبرة لكم بالحرب؟ تقريبا، لكن كما قلت لك كان معنا من هم أكبر من ذلك، كان معنا مثلا مجاهد من وزّان، كان جنديا مشاركا في الحرب الهندية الصينية، وفرّ منها متوجها إلى فلسطين للجهاد. صحيح أن من كانوا معنا ليسوا استراتيجيين في الحرب، وفي أغلبنا متطوعين للجهاد، همّنا أننا نريد أن نقتل العدو فقط. لكن الدول العربية لم تكن مستعدة للحرب. بعض الكتابات حول هذه الحرب تقول أن الجيوش العربية استطاعت أن تحقق انتصارات، غير أن تدخل القيادات السياسية هي التي حالت دون استكمال نصر نهائي؟ لا أبدا، لا أستطيع أن أتحمل المسؤولية وأقرّ بذلك، ما عرفته خلال الحرب وما بعدها، هو أن الجيوش العربية لم تكن تمتلك قيادات الحرب، ودخلت إليها دون أن يكون عندها استعداد مادي لخوضها، والإعداد في العلم العسكري هو أن تربي الإنسان معنويا لخوض الحرب، وأن يكون مسلحا بشكل جيد ومتكافيء مع العدو على الأقل، وأن يكون عندك خلفية أمة معدة للحرب، وهذا لم يكن. - كيف كانت تحدث المواجهات؟ كانت تحدث عندما يغادر يهودي مستعمرة هم محصنون داخلها، لاستقصاء الأخبار والتعرف على محيط المستعمرة، التي كانت محصنة تحصينا عسكريا قويا. وهجوماتكم كانت ضد الجميع رجالا ونساء؟ نعم، لقد أسرت مرّة ضابطة يهودية، أصلها من رومانيا، كل اليهود في المستعمرات كانوا مسلحين لم تقتلها؟ لا، الأسير ممنوع قتله . كانت هذه عملية الأسر الوحيدة؟ نعم، لقد أصيبت بالرصاص، وسقطت، فألقيت عليها القبض - هل كنتم تحمون السكان الفلسطينيين أم تقاومون اليهود فقط؟ لا، الفلسطينيون يحمون أنفسهم، نحن كنّا في جبهة القتال مع اليهود فقط وكيف كنتم تتصرفون حين تقع مذبحة ضد الفلسطينيين؟ لم نكن نجد اليهود هكذا، كانوا محصنين في مستعمراتهم، والوصول إليهم صعب، لم يكن عندنا مدفعية للهجوم عليهم مثلا كما كانت عندهم، والمواجهات كانت تقع حين يخرج فصيل منهم لاستطلاع المنطقة، فنفاجئهم ونقاتلهم، كما قلت. وعندما تقع مذبحة ضد الفلسطينيين؟ أذكر أنه في معركة بربرة وقعت مجزرة كبيرة، لقد وجدنا نحو 300 شهيد في نافورة مياه عمومية، قتلوهم اليهود ورموهم فيها، وفرّوا إلى محصّناتهم. لم نكن نجدهم، فالحرب بيننا وبينهم لم تكن متكافئة إطلاقا لأن الوصول إليهم في المستعمرات صعب ؟ نعم، هذا الرجل(يشير إلى صورة محمد بن صبيح) أصيب بهيستيرية ذات ليلة، كنا حينها وسط الأشجار، حيث كنّا نختبئ وسطها، ونسدّ ما بين الشجرة وأخرى بغطاء، حتى لا يحدّدوا تحركاتنا، وفي ليلة وجهوا إلينا طلقات بقذائف الهاون، وكان المجاهدون نائمين، وكنت أنا ومجاهد ثان في الحراسة، ولما سقطت إحداها عند رأس بن صبيح، وانفجرت، دون أن تصبه، جاء أحد المجاهدين وأخذ منه رشاشه، فبدأ في الضحك وبقي ثلاثة أيام على تلك الحال، يضحك بطريقة هيستيرية، لقد ظنّ أن اليهود أخذوا منه رشاشه، وبقينا نقنعه طيلة تلك الأيام بالذي وقع. متى رجعتم من الجهاد؟ أنا رجعت بعد طلبي من الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في مصر، حيث توجهت أنا وصديقي من الجزائر كان معي في الجهاد، والتقينا في مصر بعدد آخر من المغاربة، وتوجهنا إلى استكمال دراستنا في الأكاديمية العسكرية بالعراق، لكن سمعت بعد ذلك أن الجميع رجع إلى بلاده. فمحمد بن صبيح مثلا رجع سنة ,1949 رفقة جثمان الشهيد امحمد بن عبود. أين استشهد بن عبود؟ استشهد مع زعماء مغاربيين آخرين كانوا متوجهين لحضور مؤتمر اقتصادي في كراتشي بباكستان، كانوا ثلاثة هم الدكتور بن عبود الذي كان يمثل المنطقة الخليفية في الشمال المغربي لدى الجامعة العربية، والدكتور تامر حبيب وثالث آخر، غادروا القاهرة لتمثيل مكتب المغرب العربي في المؤتمر، وسقطت بهم الطائرة.. بعد هذه السنوات، ما أقوى شيء تذكره وتحتفظ به؟ أحتفظ بقوة وبافتخار بالصبر الذي يتصف به الشعب الفلسطيني، إنه أقوى شعوب العالم العربي والإسلامي كاملة، إنه شعب عظيم وقوي، أتذكر وأنا في الجهاد في فلسطين، كان معي طفل صغير، إسمه هاشم، عمره لا يتعدى 12 سنة، يحمل بندقيته ويعتني بها ويصلحها، ويعبئها بالرصاص لوحده، كان يستميت في المواجهة، وأعتقد إلى الآن، أن فلسطين لن تموت أبدا.. ما دام فيها أمثال الطفل المجاهد هاشم؟ نعم، وما دامت نساؤها تلد مثل هاشم. ففلسطين لا أخاف عليها رغم الاحتلال والحصار وكل أشكال الهوان التي تعاني منها، لكني أخاف على شعوب عربية أخرى، مثل شمال افريقيا، لقد استطاعت فرنسا أن تحدث فينا رجّة واهتزاز مُخي، انعكس على نفسيتنا وحياتنا وكل شيء فينا.. لقد درست عمليات الاحتلال للشعب الفلسطيني والشعوب المجاورة، شبرا بشبر، وفق العلم العسكري، وعشت في تلك البلاد قدرا من الزمن، وخلصت إلى أن شعوب فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، قوية وصبورة وتملك من الإصرار على التحرر الشيء الكثير، وأعتقد أن من يقرأ التاريخ لا بد أن يصل إلى هذه الخلاصة. حينما تتذكر هذه المرحلة من عمرك، بماذا تشعر؟ أشعر بالافتخار، لأني استطعت المشاركة في الجهاد، ولأني تمكنت إلى جانب باقي المجاهدين من تمثيل المغاربة في الجهاد من أجل تحرير فلسطين، وهذا فخر لبلدي..