ورقة أخرى من أوراق الثقافة والإعلام في المغرب والعالم العربي تسقط من شجرة هذا العالم، خالد مشبال، الإعلامي الذي طالما ألهب خيالنا ونحن في بداية مرحلة الشباب. أثارني صوته الجهوري بلكنة شمالية لا تخطئها أذن السامع، مطلع سنة 1991 حين كانت إذاعة طنجة تقدم تغطية شاملة للعدوان الأمريكي الأطلسي على بغداد الرشيد، حيث كان للراديو سحره الذي لا يقاوَم، كما أن الفضائيات حينها كانت قليلة إن لم تكن تُعَد على رؤوس الأصابع. كم كان صوته الممزوج بتعاطف واضح مع العراق حينها مؤثرا، إذ بعد تعليقه على الأحداث المتلاحقة يُتبعها بأغنية فيروز "بغداد، الشعراء والصورُ/ ذهبُ الزمان وضَوْعُه العَطِر" التي كانت من كلمات وألحان الأخوين الرحباني. وبعد فقرة أخرى يطلق العنان لأغنية أم كلثوم "بغداد يا قلعة الأسود، يا كعبة المجد والخلود" التي كانت من تلحين رياض السنباطى، وكتب كلماتها الشاعر محمود حسن إسماعيل؛ لتتلوها في ما بعد أغنية "بغداد يا بلد الرشيد" للفنان المصري عبد الغني السيد التي يغني فيها قصيدة للشاعر العربي علي الجارم من ألحان رياض البندك في منتصف القرن الماضي… وهكذا كانت تمر ليالي العدوان بإذاعة طنجة بيضاء إلا من التحليلات والأغاني الحماسية. لم يكن الراحل الكبير خالد مشبال مجرد إعلامي عادي، بل كان مدرسة في الإعلام آمن بأهميته القصوى في معركة البناء الثقافي للشعب والأمة، فكانت تجربته في إذاعة طنجة التي تسلم إدارتها سنة 1984 أكثر من متميزة؛ أداء ومضمونا وبرامج وتغطيات واهتمامات معاكسة للثقافة المخزنية التي بَنى عليها نظام الحسن الثاني منظومته الإعلامية، التي كانت جزءا من أدواته في الإخضاع والتسلط؛ فكان حارسا أمينا على ثمرة من ثمار النضال الوطني، حيث ولدت إذاعة طنجة بحلّة جديدة مع الاستقلال وقلبها يتكلم العربية، ونبضها يحكم أفقه المغرب العربي الكبير.. بعد إلغاء الحكومة الوطنية التي قادها الرئيس عبد الله إبراهيم لتراخيص مجموعة من الإذاعات الأجنبية التي كانت تشتغل في المغرب؛ ففتحت صدرها لأبناء الشعب الجزائري ليلهموا بعضهم البعض الحرية عبر الأثير، إذ أنشئ قسم بإذاعة طنجة أطلق عليه "إذاعة الجزائر الحرة"، لفك الحصار عن أخبار الثورة الجزائرية، فكانت استوديوهات إذاعة طنجة منبرا لبث أخبارها وقراءة بياناتها، وتمجيد انتصاراتها، والإعلان في المقابل عن هزائم المستعمر وخسائره.. ثم أنشأت إذاعة طنجة قسما آخر أطلق عليه اسم "إذاعة موريتانيا وإفريقيا" اهتم ببث أخبار بلاد شنقيط وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء ونقل نضالها من أجل الحرية والاستقلال، حيث أضحت بذلك إذاعة تبث برامجها بالعربية والحسانية، والوولوف، أيام كان للمغرب إستراتيجية إفريقية حقيقية وضع أسسها قادة التجربة الوطنية الوليدة، وفي مقدمتهم الشهيد المهدي بنبركة وعلال الفاسي وعبد الله إبراهيم ومحمد الفقيه البصري وغيرهم. رحلة الأستاذ خالد مشبال في الحياة رواية تستحق أن تروى للأجيال؛ بدءا من تلك الرحلة الشاقة التي بدأها سنة 1952 بعد نجاح ثورة الضباط الأحرار في مصر وهو لم يتجاوز 15 سنة قاصدا القاهرة، في رحلة أسطورية قادته، ورفيق دربه عبد القادر السباعي، من وادي ملوية حتى بحر الإسكندرية، وهو الطفل الذي تلقى تعليمه الأول على يد أساتذة «المعهد الحر» الذين كانوا من الطلبة الذين تابعوا دراستهم في «مدرسة النجاح» بمدينة نابلس بفلسطين في إطار الوفد الذي بعثه إلى نابلس أب الحركة الوطنية عبد السلام بنونة سنة 1930، حيث أسسوا المعهد بعد عودتهم إلى تطوان، تحت إدارة الأستاذ عبد الخالق الطريس. نشأ خالد الطفل على بطولات حرب الريف التحريرية ومعارك التصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين، وآثار زيارات الكثير من الوفود العربية لتطوان، ومن ضمنها زيارة شكيب أرسلان، رمز التحرر العربي المعروف الذي كان أول من أطلق لقب «الأمير» على الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، الشخصية التي تطلع الطفل خالد لملاقاتها والعيش في كنفها مهما كانت الصعوبات، وهو ما تم له، إذ سيصبح أحد أعضاء الديوان الصحافي للزعيم الخطابي بعد وصوله للقاهرة، ليكمل حلما بدأه صغيرا في مدينة تطوان حين أصدر مع الراحل محمد العربي المساري سنة 1950 مجلة "الاعتصام" الخطية، وكانت لسان حال طلبة المعهد الرسمي بتطوان (المعروف حاليا بالقاضي عياض). وبهذه المهمة عاش الشاب خالد مع الأمير لحظات متنوعة، فيها ما هو مرح وما هو صعب، حيث سيكون أحد الذين حملوا أسرارا كثيرة عن الأمير وتجربته السياسية والإنسانية.. وقد كان معه في الديوان الإعلامي للزعيم الخطابي المناضل الراحل محمد الزفزافي الذي كان وجها من وجوه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية معروفا بتوجهه القومي الناصري ومقربا من الفقيه البصري، إذ ورد اسمه ضمن لائحة المناضلين الاتحاديين الذين طلبت الشرطة القبض عليهم على هامش أحداث مولاي بوعزة الشهيرة في المغرب في مارس 1973 (أي بعد وفاته بشهور، إذ كان قد قضى في حادثة سير أثارت الكثير من الأسئلة، في غشت 1972 وهو في طريقه للقصر الكبير لزيارة أصهاره.. وقد تحدث ابن أخيه ناصر الزفزافي، قائد الحراك الشعبي في الحسيمة، أكثر من مرة عن أنه قضى في محاولة اغتيال). يحكي الراحل خالد عن علاقة عائلته (مشبال) بعائلة الخطابي فيقول إنها تعود إلى حرب الريف (1921 – 1926)، حيث كان أفراد عائلته "منخرطين في معارك الخطابي ضد الإسبان في منطقته غمارة، ومنهم والده الذي كان وهو فتى صغير يشتغل مع تقني سلاح جيء به من الريف إلى غمارة لإصلاح وصيانة وصناعة بعض الأسلحة. كما كان بعض أفراد عائلته مساهمين إلى جانب الأمير في الإدارة السياسية للثورة، ذلك أن قاضي ثورة الريف لم يكن سوى أحد أفراد العائلة، هو محمد مشبال الذي كان في مركز القيادة إلى جانب محمد بن عبد الكريم الخطابي في أجدير؛ كما أن شاعر ثورة الريف كان هو عبد الرحمان مشبال". وبسبب مساهمته في صياغة وتحرير البيانات التي كان يصدرها القائد محمد عبد الكريم الخطابي تعرض للاعتقال والتعذيب في فرنسا، حيث سأله المحققون عن المقالات التي كان يكتب والبيانات التي ينشر، مثلما سألوه عن المعسكر الذي أقامه عدد من الضباط المغاربة خريجي الكلية العسكرية في بغداد، وعلى رأسهم الراحل الهاشمي الطود، بإشراف مباشر من الأمير الخطابي في «منشية البكري» لفائدة الطلبة المنحدرين من منطقة المغرب العربي الكبير. كما شمل التحقيق العنيف أيضا استفساره عن خبر كان قد قام بتعميمه أثناء العدوان الثلاثي على مصر (في أكتوبر 1956) على عدد من الجرائد، يفيد بأن فرنسا كانت تخطط لضرب إقامة الأمير الخطابي في القاهرة، من جملة الأهداف التي خططت لقصفها. وقد بلغ هذا الأمر إلى الاستخبارات المصرية التي حذرت الأمير من ذلك، فاضطر للتنقل للإقامة ما بين بيت أخيه امحمد وعمه عبد السلام. وهذا الأمر تحدثت عنه الصحافة المصرية بعد انتهاء العدوان الثلاثي بتفصيل، حيث كانت العملية المنتظرة بسبب رفضه عرضا للسلطات الاستعمارية الفرنسية، في شخص السفير الفرنسي في القاهرة، لتولي رئاسة الجمهورية في المغرب عقب نقل محمد الخامس سنة 1953 إلى مدغشقر. وهي المناسبة التي حكى عنها مشبال تفاصيل مثيرة من قبيل أن الطلبة المغاربة تطوعوا ضمن الوحدات العسكرية في منطقة العجوزة التي كان يوجد بها "بيت المغرب"، حيث ارتدوا الزي العسكري وحملوا السلاح بعد الخضوع لتدريبات سريعة من طرف ضباط هناك، وكانت مهمتهم حراسة عدد من المؤسسات. وقد كان مشبال من قبل ضمن المجموعة التي دربها العقيد الهاشمي الطود في مصر سنة 1954، أي قبل سنتين من العدوان الثلاثي، عندما انخرط في الكتيبة 13 (الكتيبة التي كان ينتمي إليها أغلب الضباط الأحرار خلال المرحلة الملكية) بعد أن كلف الأمير الخطابي الضابط المغربي الهاشمي الطود (العائد حينها من العراق) بجمع عدد من الطلبة من المغرب والجزائر وتونس وإخضاعهم لدورة تدريبية عسكرية على حرب المقاومة الشعبية (حرب العصابات). كان الخطابي يراهن حينها على تأسيس جيش تحرير مغاربي يقاتل من أجل استقلال البلدان الثلاثة وتوحيدها. في هذه الكتيبة، كان مع رفيق رحلته إلى مصر مشيا على الأقدام عبد القادر السباعي، ضمن حوالي 90 طالبا متطوعا من الأقطار المغاربية. وقبل اشتغاله في الصحافة المصرية محررا لشؤون شمال إفريقيا وفي الديوان الصحافي للأمير الخطابي، كان أيضا لاعبا لكرة القدم ضمن إحدى فرق الدرجة الأولى في القاهرة، كما كوَّن فريقا داخل بيت المغرب، كان أبرز لاعبيه (إضافة إليه حيث كان يلعب في فريق الترسانة)، عبد القادر السباعي (الذي كان يلعب في صفوف فريق الأهلي المصري)، محمد برادة (الروائي والناقد المعروف). وكان لاعبا ممتازا ومراوغا خطيرا، وكان الطيب اكحل لعيون (المقرئ الشهير) حارسا لمرمى الفريق، وعبد الكريم السمار (سفير المغرب السابق في الرياض)، ومحمد المزكلدي (المغني المعروف)، إضافة إلى الأستاذ محمد شهبون (الذي تتلمذ على يديه في الشاون المئات من الشباب، من أشهرهم نائب قائد القوات الجوية المُقَدَّم محمد أمقران والرائد الوافي اكويرة)، وأيضا رجل القانون الاتحادي عبد القادر باينة، (رئيس الفريق الاشتراكي سابقا في مجلس النواب)، وآخرون. تحدث مشبال عن أذواق الزعيم الخطابي الفنية، وأشار إلى أن من بين الأغاني التي كان يستشهد بها الأمير باستمرار، خلال حديثه عن القضية الفلسطينية، أغنية محمد عبد الوهاب: "أخي جاوز الظالمون المدى.. فحقّ الجهاد وحق الفِدا"، والتي كتب كلماتها الشاعر محمود طه؛ كما كان يطرب لسماع أغاني أم كلثوم؛ مثلما حكى عن مواقفه الإنسانية في اللحظات المختلفة. عاد إلى المغرب سنة 1958 وهو كله حماس للمساهمة في بناء مغرب الاستقلال، فكان من المؤسسين لأول نقابة للصحافيين في المغرب إلى جانب محمد حسن الجندي، محمد العربي المساري، محمد الخضر الريسوني ومحمد الكواكبي.. لكن حلمه هذا اصطدم بإرادة مضادة للحفاظ على استمرارية البنية الاستعمارية عن طريق القوة الثالثة التي ضمنت اتفاقية إيكس-ليبان المشؤومة مصالحها في المغرب، ليحمل همّ الانخراط في مشروع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مناضلا وصحافيا أنشأ العديد من المؤسسات، من أشهرها مطلع الستينات من القرن الماضي مجلة "الموقف" الشهرية التي كان يتلقى دعما من أجلها من طرف الشهيد عمر بن جلون والزعيم الفقيه البصري رغم أنهما كانا حينها معتقلين في السجن بتهمة مفبركة تحمل عنوان "المؤامرة ضد الملك" (من نهاية 1963 إلى بداية 1965).. وكانت مساهمة عمر بن جلون، سواء الفكرية أو المالية مع المجلة، وهو رهن الاعتقال؛ إذ كان يبعث إلى المجلة بكتاباته ومساهماته المالية من داخل السجن، تماما مثلما كان يفعل رفيقه الفقيه البصري. وذلك بعد طرده من إذاعة طنجة سنة 1962 بسبب انتمائه إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتي انتقل إليها بعد تجربة متميزة قضاها في الإذاعة الوطنية، انطلاقا من سنة 1959 إلى جانب مديرها الراحل المهدي المنجرة، قبل العودة إلى الرباط سنة 1967 لشغل منصب المحافظ العام للتلفزة المغربية. أنتمي إلى جيل تتلمذ على يديه إعلاميا عبر الأثير في إذاعة طنجة التي شكلت ملاذا لأجيال مختلفة من المغاربة الهاربين من بؤر التحكم السلطوي التي أصبحت تجسدها وسائل الإعلام المغربية حينها، بعد أن أصبحت جزءا من إمبراطورية وزير الداخلية المغربي إدريس البصري، فكانت منارة للانفتاح ومنبرا للثقافة والالتزام بقضايا الشعب ومشاكله الحقيقية. مثلما استفادت أجيال من مشروعه الثقافي الكبير (سلسلة شراع) الذي كان يتطلع إلى نشر المعرفة للجميع مساهمة منه في بناء مجتمع متصالح مع القراءة والفعل الثقافي. زرته مرة في مكتبه في طنجة الذي كان يصدر منه سلسلة "شراع" وجريدة "الشمال" التي كانت أول تعبير حقيقي عن ظاهرة الإعلام الجهوي في المغرب، وتحدث معي طويلا عن أحلام مشروعه التنويري، وعن مآسي المثقف والإعلامي الملتزم الذي لا يمكن أن ينتهي إلا مأزوما بل وغارقا في الديون، أو يعيش مهموما ينتظر نهايته في أي لحظة ما دام قلبه لا يتحمل ظلم دولة آخر همّها الالتفات إلى الثقافة والمعرفة والإعلام الحامل لهموم المجتمع. ولولا أن هذا الحمل الثقيل كان له فيه سند هو رفيقة دربه أمينة السوسي، كما أكد لي ذلك، لكان الوضع مختلفا تماما. وهي هموم حملها دون انتظار اعتراف أو تكريم من أحد، حتى ولو جاء ذلك متأخرا حين فاز سنة 2004 بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة. رحم الله الأستاذ خالد مشبال وأسكنه فسيح جنانه. لعائلته الصغيرة وفي مقدمتها زوجه السيدة أمينة السوسي، ولأبنائه نعمان، فرح، تيسير وأيمن، كما لأسرته الإعلامية الكبيرة خالص العزاء. فخسارة المغرب والعالم العربي في رحيله كبيرة، لقد كان عميدا للصحافة المغربية ورائدا من روادها.