قال الفيلسوف الألماني "نيتشَهْ" ذات يوم: "إن لفظة الوطن كذبة كبيرة، وبها يمكن أن تبرر جرائم نكراء، وأخطاء فادحة، وسياسات مجحفة..."؛ قد يخيّل لأصحاب الضحالة الفكرية، أن "نيتشه" كان عدوا لوطنه، ونحن نقول لهم كلاّ.. لقد كان هذا المفكر يحب وطنه إلى درجة أشرفتْ على التطرف.. وهو هنا يقصد أولئك الذين يختبئون وراء ستار "الوطن أو الواجب الوطني"، فيما هم يستغلون الوطن، ويتخوّضون في أمواله بغير حق، ويقرّبون ذويهم، ويكرمون جلاوزتهم، وينعمون على مدّاحيهم، ويشقون الرعية، ويفتكون بحقوقها، ويكمِّمون الأفواه، ويهدّدون المواطن بمصدر عيشه، ويتحكّمون بمراسيم في رزقه، وينقصون من أجره، تماما كما كان يفعل "يزيد بن الوليد بن عبد الملك" الذي كان ينقص دائما من أجر العمال، والخدم، والجند، حتى لُقّب بالناقص، بعدما وثب على الخلافة تماما كما وثب عليها بنكيران لظروف غير خافية على أحد، فأشقى البلاد والعباد... فالمغرب مليء بالخيرات والنعم، وأبرزُ نعمة نعم الله عليه بها تتمثل في ساكنة تحب العمل والجد والمثابرة، ويمثل الشباب فيها نسبة تفوق 70 بالمائة، وهو ما أسماه جلالة الملك بالثروة غير المادية، ولكن بنكيران "الناقص" ينتقص من قدْر هذه الثروة، ويحث الهواة المحيطين به من بطانة السوء على النقص من أجرها، ومن قُوتها، والانتقاص من قدْرها، تساندهم في ذلك أحزاب المذلة، وعلى رأسها زعماء ببطون متدلية على أفخاذهم، وعقول خاوية في جماجمهم، وأفهام متدنية، وهم يسمعون خطاب جلالة الملك الذي يدينهم بأسلوب حضاري، وبمنهج مدني، ثم "إياك أعني واسمعي يا جارة" ولكنّ الجارة "الحگارة" ختم الله على سمعها وعلى بصرها، وكأن الأمر لا يعنيها.. فترى بنكيران وبطانته يمدد فترة العمل لمن بلغوا سن التقاعد في قطاع التعليم، مستخدما كما قال "نيتشه" الحكيم لفظة "الواجب الوطني" ثم جرجر المتقاعدين إلى ما بعد الستين.. هذا الإجراء هو دليل على بوادر الفشل، وبداية الانهيار، كما يؤكد التاريخ بأمثلة واضحة كيف ذلك؟ لن أغوص في أعماق التاريخ القديم، ولكن سأكتفي بالتاريخ الحديث لضيق الرقعة.. كانت النازية برئاسة "العريف هتلر" تؤدي أجور الموظفين والعمال، وتضمن العطل والإجازات، وتحترم سن التقاعد، ولكن سنة 1944، أصدر "الكابورال هتلر" بالاتفاق مع زبانيته من أكلة ناهمين، وطماعين فاشلين، وسياسيين هاوين، مرسوما كارثيا يقضي بتشغيل رجال فوق الستين في المصانع، ومعامل السلاح في جبال "هارتن"، مع الرفع من ساعات العمل إلى 16 يوميا، فكان يموت يوميا اثنان من كل ثلاثة عمال.. ثم ماذا؟ أمر بإنشاء جيش يتكون من رجال فوق الستين سنة، وسمى هذا الجيش "اَلْفولك شتُورْم" وزوّدهم بسلاح، قيل إن استعماله سهل، وأن التدرب عليه لا يتعدى بضع دقائق، وكان هذا السلاح يسمى "نيبَلْ ڤيرْفير" أي "قاذف الدخان"؛ ولما كان يخرج الآلاف من هؤلاء الشيوخ إلى ساحة المعركة، كانت المدافع الروسية تحصدهم في أقل من عشر دقائق.. فسياسة "الفولك شتُورم" هي التي ينهجها بنكيران اليوم، بدعوى الواجب الوطني الذي كان يختبئ وراءه "الكابّورال هتلر" الفاشل وعديم الكفاءة؛ ونحن ولله الحمد لسنا في حرب، وإلا لجرَّنا بنكيران وصحبُه إلى شفير الهزيمة... ليس غريبا أن تكون اللغة هي الموجه لسلوك الناس، وليس غريبا أن يستمد المستبد شرعية سياسته الجائرة من غموض الألفاظ.. فباستعمال لفظة "الواجب الوطني"، ترى بنكيران يصدر مراسيم لنسف الحقوق، وبهدلة المواطن، فيما هو لم يعمل بالواجب الوطني وهو يجمع حوله 40 وزيرا وقت الأزمة، ويعين كل خميس الموالين في مناصب عليا يتقاضون "الشيء الفلاني"؛ ثم يرفع دعوى نافذة على شباب طالبه بالشغل، ناهيك عن دعم يصرف لأحزاب غثائية، وأجور تُؤدّى لكائنات زائدة عن الحاجة، ثم جعل بجانبه صديقا مخلصا له وبدون مهمة كوزير دولة في "لا شيء"، وصدق الشاعر: [ولا تطلُبِ الجزاءَ إلاّ بقدر ما صنعت]؛ فماذا صنع هؤلاء للوطن؟ إن بنكيران يتذرع بالواجب الوطني، تماما كما يفعل أولئك المتذرعون بالواجب الديني لتبرير الإرهاب، والقتل، وتدمير الأمم، وتشتيت الشعوب، وتخريب العقيدة.. فيوم كان بنكيران يشارك في المظاهرات، ويدافع عن الإرهابيين بشتى الطرق كان يرفع شعار "الدعوة إلى الله"، واليوم وقد وصل إلى السلطة، رفع شعار "الواجب الوطني" لإشقاء البلاد والعباد...