احتلت مسألة تكوين شعب محور الفكر السياسي منذ ماكيافيل. وكان أهم مفكر في هذا الصدد جون جاك روسو. بالنسبة لروسو ، فإن القضية المركزية للفلسفة السياسية تتعلق ب "الميثاق الذي بواسطته يكون الشعب شعبا". لقد جعل روسو من الشعب ، ولأول مرة، الموضوع السياسي ، بل الفاعل السياسي الشرعي الوحيد. ثم إن هذه القضية لا توجد فقط في كتابه "العقد الاجتماعي" ، بل في مجمل فكر روسو. قبل روسو ، كان ينظر إلى الشعب كعنصر قاصر،غير كامل، غير قار مما كان يستدعي عملا يتم من خلاله فرض هيئة سياسية من أعلى تخضعه لها، تقوده، تحكمه. بيد أن روسو يذهب إلى القول بأنه يجدر أن نفحص العملية التي بواسطتها أصبح الشعب شعبا ، قبل أن نفحص العملية التي بواسطتها اختار شعب ملكا. وبما أن العملية الأولى سابقة عن الأخرى فهي التي تشكل الأساس الحقيقي للمجتمع. إن ما يتم عبر تشكيل الشعب، هو بالضبط الاختلاف السياسي الأساسي بين الحرية والعبودية. ومن هنا، فإن تشكيل الشعب، كما هو مبين في "العقد الاجتماعي"، مسألة معيارية. والعقد عملية تأسيسية أولى : يمنح مفتاح البنية المعيارية الأساسية التي يتشكل من خلالها شعب حر، وانطلاقا منها يتم تنظيم السلطات وعمل الحكومة . يتعلق الأمر هنا بمعيار يسمح بالحكم على تشكيل الشعوب الحقيقية، إما أنها حرة أو ذليلة. كما أنه معيار أو نموذج ينبغي تحقيقه. السؤال الذي يفرض نفسه : ماذا يمكن أن نستنتج من كل هذا بالنسبة للشعبوية؟ هل يعني ذلك أن مسالة تشكيل الشعب لم تنتظر ظهور الشعبوية حتى يتم تشكيله ؟ أو نظل نتساءل حول طبيعة الشعب الذي تشكل : هل هو شعب حر أم ذليل؟ بيد أن شعب الشعبوية شعب يكون في حاجة إلى قائد،هو شعب ذليل. انطلاقا من هذا، يمكن أن نستخلص النتائج مما قلناه بشأن الوضعية السياسية الحالية. إن عودة الشعبوية إلى فرنسا، وفي أغلب البلدان الأوربية وغيرها لا يمكن تفسيره فقط كنتيجة لاستراتيجية بعض الأحزاب السياسية المتطرفة التي تجعل من الديماغوجيا أصلها التجاري. نعم ،توجد هذه الأحزاب التي تحترف الشعبوية من خلال إثارة وتنشيط الانفعالات الأكثر سلبية من أجل إسماع صوتها وتعبئة قواعدها.. إن ما يميز الشعبوية اليوم ن هو أنها تتطور في المجتمعات الديمقراطية التي تتوفر شعوبها على مستوى عال من التربية ولا يمكن احتواؤها بسهولة لأنها تدرك وتعرف الاستراتيجيات السياسية لهؤلاء وأولئك. إن السبب الرئيسي في هذا يرتبط بتراجع الديمقراطية. لذلك نقول أن الشعبوية ليست وليدة حزب واحد ،بل أغلب الأحزاب. في الحقيقة ، نجد اليوم ممارسة السلطة منقسمة على بعدين مختلفين : تقنية سياسية منحرفة ، وتهييج انفعالات السكان ، خاصة ما يتعلق بإثارة الخوف. بالنسبة للتقنية السياسية المنحرفة ، يعمد خبراء الاقتصاد والمالية على فرض الحل الوحيد الممكن في مجال ووضعية خاصة . مثال للخروج من الأزمة المالية الحالية : لكي يتم فرض هذا الحل على أساس أنه الوحيد الممكن، نطلق على "الأزمة المالية " اسم " أزمة ديون" ، كما لو أن الديون هي السبب الوحيد في الأزمة . في هذا الإطار ، تلجأ بعض الدول التي تكون قامت بنفقات كثيرة، وتعاني من المديونية فوق ما لا تتحمل، إلى الحل الوحيد الممكن المتمثل في اعتماد سياسة تقشف بغرض تقليص حجم المديونية إلى جانب حزمة من العقوبات ضد الدول التي لا تخضع أو لا تحترم التزاماتها .. هذا الوضع نتيجة رؤية جزئية وحزبية، تقوم على دوافع أخرى، وتدافع عن مصالح تتعارض مع مصالح الشعوب الأوربية ، التي تؤدي بواسطة فرض التقشف والضرائب، الديون المسماة سيادية للدول. هذه التقنية السياسية المنحرفة هي عصب ممارسات السلطة اليوم. ولا تتعلق فقط بفرنسا، بل بمجموع الدول الأوربية . وما يسمى بالحكامة ليس شيئا آخر غير سوى فن تمرير الحلول التقنية المنقذة لمصالح طبقية. وحين تنجح العملية ، يطلق عليها اسم " الحكامة الجيدة". وعلى العموم، فإن التقنية المنحرفة للسلطة الديمقراطية تخاف من الشعب. بعد هذا ، يتم استعمال العنصر الثاني المتمثل في تهييج انفعالات الناس،خاصة عبر الخوف، المطلوب والمهدئ، على الأقل مظهريا ، من أجل إحياء الأمل، من دون الاهتمام بالانعكاسات على المدى البعيد أو حتى معرفة ما إذا كان العلاج المقدم أسوأ من السوء. هذا الاعتماد على مزاج الناس هو الذي يحكم اليوم علاقة السلطة بالمواطنين. إن الشعبوية ، في شكلها الحالي، ليست شيئا آخر سوى تلك السياسة التي توازن التقنية المنحرفة باللعب على مزاج الشعب وانفعالاته. وهكذا تتدهور الديمقراطية إلى حكامة ما بعد الديمقراطية من جهة، وشعبوية من جهة أخرى. إن الديمقراطية تفترض الوقت، والقدرة على تحديد الخير المشترك لما بعد الاستحقاقات الانتخابية القادمة. وحين تفرض ممارسة السلطة الاحتفاظ بالمواطنين خارج أية استشارة حول الاختيارات الجماعية، حينها نكون كمن يتعامل مع الشعب وكأنه قاصر،ونعد عش الشعبويين من جميع الطباع ومن كل لون سياسي.