ازدادت خلال الأسابيع الماضية شدة التوتر بين جهة كاطالونيا٬ أغنى جهة في إسبانيا٬ والسلطة المركزية في مدريد٬ بسبب الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تعصف بالبلد منذ أربع سنوات والتي كانت جميع مؤشراتها الاقتصادية تدق ناقوس الخطر. وقد دفعت هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة التي تمر منها البلاد٬ بعض الجهات ذات الحكم الذاتي التي تواجه صعوبات مالية كبيرة إلى طلب المساعدة المالية من مدريد لعلاج مشكل النفقات ورد الديون. إلا أن غضب وقرار كاطالونيا التلويح بتهديد الطلاق النهائي مع باقي الجهات الإسبانية والمطالبة "بدولة مستقلة" فاجأ العديد من المحللين والمتتبعين للشأن السياسي في إسبانيا٬ إلى درجة أن هذه النية أخرجت الملك الإسباني عن صمته المعتاد لتنبيه القوميين الكاطالان. وقد بدأت التلميحات والمطامح الانفصالية للجهات ذات الحكم الذاتي والتي ظلت مستترة لوقت طويل٬ إن لم تكن قد دفنت تماما بعد اعتماد دستور 1978 الذي صودق عليه في مرحلة الانتقال الديمقراطي الذي تلا الحكم الديكتاتوري لفرانكو٬ تطفو إلى السطح في أوقات الأزمة الاقتصادية في بعض الجهات الإسبانية٬ بسبب الانعكاسات السلبية للظرفية الاقتصادية والمالية الصعبة. وقد تسببت مواقف بعض الجهات ذات الحكم الذاتي التي ترفض تفعيل الاجراءات التقشفية التي أطلقتها الحكومة المركزية٬ في تعثر السياسية الاقتصادية لحكومة ماريانو راخاوي٬ الذي يبحث٬ بصفة يومية٬ عن الوصول إلى نهاية النفق المؤدي إلى الخروج من الأزمة الحالية التي تتخبط فيها البلاد. وفي الوقت الذي تسعى فيه حكومة راخاوي بشتى الوسائل إلى الحد من آثار الأزمة بهدف تجنيب البلاد اللجوء إلى "خطة إنقاذ شاملة"٬ بدأت تتصاعد أصوات٬ في الأوساط السياسية تدعو إلى تقسيم إسبانيا٬ كما هو حال جهة كاطالونيا التي شهدت مؤخرا تنظيم مظاهرة كبيرة موالية للانفصال٬ نظمت تحت شعار "كاطالونيا ليست إسبانيا". ولم يسبق أن كانت هذه النزعات الوطنية أو الانفصالية في مثل أهمية وقوة تلك التي سجلت حاليا في جهة كاطالونيا٬ التي يبلغ عدد سكانها 7,5 مليون ساكن٬ أي 17 في المائة من الساكنة الإسبانية. فخلال يوم 11 شتنبر الجاري ٬ نزل مئات آلاف الأشخاص إلى الشوارع حاملين علم كاطالونيا٬ أو "سينيرا"٬ للاحتفال بيوم كاطالونيا والمطالبة بانفصال جهتهم عن باقي إسبانيا. وتأتي هذه المظاهرات في لحظة حرجة بالنسبة لرئيس الحكومة ماريانو راخاوي٬ الذي ومنذ وصوله إلى السلطة في دجنبر الماضي ٬ يحاول إقناع القادة الأوروبيين بأهمية الإصلاحات المتخذة والتي كانت قد أدت إلى احتجاجات جماهيرية واسعة في الشارع الإسباني٬ كانت آخرها تلك المظاهرة التي نظمت السبت الماضي بمدريد. وفي تصريح للصحافة٬ قال ماريانو راخاوي "إن الوقت ليس مناسبا للتسبب في مزيد من المشاكل ولا وقت عدم الاستقرار السياسي"٬ موجها كلامه إلى القادة الكاطالان ليدعوهم إلى التحلي بمزيد من المسؤولية٬ فيما هدد رئيس الحكومة الكاطالانية٬ أرتور ماس٬ بالتفكير في إجراء استفتاء حول استقلال الجهة. وقال ماس٬ "لقد سرنا في اتجاه لمدة 30 سنة والآن يوجد تغيير في هذا الاتجاه (...) كاطالونيا بحاجة إلى أدوات مثل أدوات أي دولة". وكان ماس قد لوح٬ بعد لقائه براخوي الخميس الماضي بمدريد٬ بتنظيم انتخابات محلية سابقة لأوانها في هذه الجهة التي تمر حاليا بصعوبات مالية كبيرة وتطالب الدولة الإسبانية بمنحها الاستقلال الذاتي في تحديد الميزانية لتتمكن من رفع الضرائب بنفسها٬ على غرار النموذج القائم بجهتي نابارا وبلد الباسك. وتعاني جهة كاطالونيا من مديونية ثقيلة تبلغ 42 مليار أورو٬ أي 21 في المائة من ناتجها الداخلي الخام٬ وهو ما يفسر بجلاء أسباب هذا الغضب الكاطالاني. وأضاف أرتور ماس "قال لي رئيس الحكومة بأنه لا مجال للتفاوض حول أي اتفاق حول الميزانية مع كاطالونيا .. وفي حال رفض التفاوض بشأن هذا الاتفاق ينبغي اتخاذ قرارات في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة" مشيرا إلى أن "كل الخيارات تبقى مطروحة". ولدى عودته إلى برشلونة٬ وجد ماس الذي رفض عقد ندوته الصحافية بالقصر الرئاسي "لامونكلوا"٬ في استقباله عدد من المتعاطفين الذين يساندونه في مقاربته الانفصالية٬ مرددين هتافات مطالبة بالاستقلال. ويتهم القوميون الكاطالان الدولة الإسبانية٬ التي تجمع الضرائب٬ بعدم صرف ما يكفي من الأموال للجهة ٬ التي تدر٬ بحوالي 200 مليار أورو٬ خمس الناتج الداخلي الخام للبلاد. وسبق لحكومة راخاوي٬ أن أكدت بخصوص الدعوات الانفصالية لجهة كاطالونيا٬ أنها ستلتزم حيالها بتطبيق القانون٬ لكون اتخاذ قرارات مماثلة٬ حسب الناطق الرسمي باسم الحكومة٬ يحتاج إلى مراجعة الدستور وأخذ رأي سائر الشعب الإسباني فيها.ويتساءل عدد من المتتبعين للشأن السياسي الإسباني حول ما إذا كان التنظيم شبه الفدرالي الذي تأسست عليه الدولة بعد استعادة الحكم الديمقراطي داخلها سيستمر في المستقبل٬ وهو ما يعتبر تحديا كبيرا أمام الحكم المركزي وأمام براغماتية ماريانو راخاوي٬ الذي أكد مؤخرا في أحد الحوارات أن "الأسوء هو عدم استيعاب الواقع".