هناك حاجة إلى قراءة دلالات الرسالة التي وجهها الملك خوان كارلوس إلى الشعب الإسباني عبر الانترنت يحذره فيها من الفتنة ومخاطر مسايرة الأوهام، ويدعوه إلى توحيد الصوت والعمل الجماعي المشترك واستحضار النفس الوحدوي الذي قاد تجربة الانتقال الديمقراطي الإسباني في مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر منها إسبانيا. فملك إسبانيا فاجأ الجميع لما فضل أن يبعث الرسالة، ولأول مرة، عبر الانترنت لمخاطبة كل أفراد الشعب الإسباني، لاسيما بعد المظاهرة المليونية التي اخترقت شوارع العاصمة الكاطلانية برشلونة، وهدد فيها المسؤول عن حكومة الإقليم أرتور ماس بالاستقلال في حالة عدم حصول اتفاق مالي مع الحكومة المركزية في مدريد يخفف من الضغط الضريبي المفروض على الإقليم. المثير في هذا الوضع الحساس، ليس هو المظاهرات التي خرجت من إقليم كاطلانيا، ولكن هو حجمها ومضمونها، إذ لأول مرة تأخذ هذا الحجم المليوني، ولأول مرة أيضا، تصل فيها لغة التهديد إلى مستوى التلويح الصريح بإمكانية الاستقلال عن الحكومة المركزية، وذلك بسبب اللاتوازن في تعامل الحكومة المركزية مع إقليم كاطلانيا، إذ يعتبر الكثيرون في هذا الإقليم أنهم يقدمون أموالا كثيرة عبر الضرائب للحكومة المركزية تستفيد منها بقية الأقاليم، بينما لا يستفيد الإقليم من الحكومة المركزية، إلى درجة أن رئيس حكومة إقليم كاطلانيا حدد الفارق بين عملية العطاء والأخذ بخسارة عشرين مليار دولار! هذه الوضعية الحرجة التي استدعت من الملك خوان كارلوس استثمار أحد مواد الدستور الإسباني للتدخل لدعوة الشعب الإسباني إلى الوحدة لمواجهة ظروف الأزمة الاقتصادية، أصبحت تستدعي التوقف مرة أخرى على تجربة الانتقال الديمقراطي الإسباني لالتقاط الدروس والدلالات التي يمكن أن يتم استصحابها في عملية الانتقال الديمقراطي بالمغرب، لاسيما وأن التجربة الإسبانية كانت محطة مفصلية في هندسة بعض الرهانات الرئيسة في مسارنا الديمقراطي وخاصة ما يرتبط بالجهوية الموسعة: 1- أن أي تجربة للانتقال الديمقراطي لا يمكن الحكم على نجاحها في فترة الرفاه والاستقرار الاقتصادي فقط، فوضعية الأزمة خاصة منها الاقتصادية، تعتبر محكا أساسيا لاختبار القواعد والأطر السياسية التي وضعت لبناء هيكل الدولة ونظامها السياسي. وفي ضوء هذا المعنى، يمكن أن نفهم جوهر النقاش الذي انطلق في إسبانيا يطالب بضرورة إعادة النظر في هذه الأطر، حتى صار يمين الوسط، الذي تعبر عنه جريدة abc، ينتقد "الأخطاء التي ارتكبت" لما تم إعطاء 17 إقليما حكما ذاتيا في الوقت الذي لم يكن فيه إلا إقليمان يطالبان بذلك. 2- أن البعد التضامني في بناء تجربة حكومات الأقاليم لتوزيع الثروة الإسبانية بالعدالة على كل الأقاليم، تحول إلى تذمر الأقاليم الغنية واستعمالها لكل الأوراق في الضغط على الحكومة المركزية بما في ذلك استخدام ورقة الانفصال. وهذا ما يتطلب التفكير عند صياغة القانون المؤطر للجهوية في منهجية واقعية لتدبير التفاوتات الصارخة الموجودة بين الجهات. صحيح، أن عناصر الاختلاف قائمة بين الجهوية الموسعة وبين نظام الحكم الذاتي المعمول به في التجربة الإسبانية، لكن جوهر المشكلة واحد، وممارسة الضغوط باستعمال ورقة إنتاج الثروة والاستفادة من جانب واحد أمر وارد حتى ولم يصل الأمر إلى السقف الذي وصل إليه في إسبانيا. 3- إنه مع أن المغرب استفاد كثيرا من التجربة الإسبانية، لاسيما ما يتعلق بحصيلتها على مستوى تدبير العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم وبشكل أخص مشاكلها والتحديات التي طرحتها، إلا أن هناك حاجة ماسة اليوم إلى إعادة قراءة هذه التجربة في ضوء تداعيات الأزمة الاقتصادية، والانتباه عند صياغة القانون المؤطر للجهوية الموسعة، إلى مخاطر السقوط في بعض أخطائها. 4- إن عناصر التشابه الكثيرة التي تقاطعت فيها تجربة الانتقال الديمقراطي في المغرب مع إسبانيا، سواء على مستوى الدور الملكي، أو اختيار نموذج الإصلاح بدل القطيعة، أو الوصول إلى توافقات في إطار من التفاوض السياسي السلمي، أو الارتكاز على ثوابت وطنية في عملية بناء النظام السياسي أو تحديث هياكل الدولة. إن عناصر التشابه هذه في ظل التطورات التي تشهدها إسبانيا، تستدعي التعامل مع حصيلة التجربة الإسبانية بمنطق نقدي وذلك لاستخلاص أخطائها والمآزق التي انتهت إليها، وإعادة تقويم الأطر والقواعد التي قامت عليها، وخارطة الطريق التي استحدثت لبناء النظام السياسي لاسيما وأن أهم رهانات المغرب في هذه المرحلة، هو تحديث هياكل الدولة وتقويتها لمواجهة الاستحقاقات التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها.